كل الأمم التي كانت لها حضارات عظيمة في مختلف أحقاب التاريخ البشري دفنت ماضيها غير متحسرة عليه، مقتصرة على أخذ ما قلّ ودلّ منه، أو على ما يمكن أن يواسيها في أوقات الوحدة والترمّل إلاّ العرب فإنهم لا يزالون يحملون ماضيهم فوق ظهورهم مثل جبل من تلك الجبال الرواسي التي تربك حواسّ الإنسان، وتصيبه بالهلع لمجرّد النّظر إليها. وهم دائما مشدودون إليه، لا يطيقون فراقه والابتعاد عنه حتى ولو مسافة قصيرة. لذا هو دائما معهم وفوق ظهورهم وهم يعملون أو يصلون أو يمشون أو يأكلون أو يشربون أو يقضون حاجياتهم.
معهم وفوق ظهورهم في أفراحهم وأتراحهم. وفي حوارهم سواء مع أنفسهم أو مع الآخر حتى أن هذا الأخير ضاق ذرعا بهم وبماضيهم ذات يوم فخرج من قاعة الاجتماعات ساخطا غاضبا وهو يردّد :"أحمد الله على أني أنتسب إلى أمه عمرها خمسة قرون فقط وإلاّ لكانت مريضة وعليلة مثل أمة هؤلاء القوم الذين يسّمونهم العرب".
وافتنان العرب بماضيهم حالة مرضية بالمعنى الحقيقي للكلمة. لذا فإن هذا الإفتنان لا يحفّزهم على المضيّ إلى الأمام، ولا على القيام بالحركة التي ترجى منها المصلحة والفائدة، ولا على النظر إلى الأمام لمعرفة المخاطر التي تترصّدهم، ولتفادي ما يمكن أن يضر بهم وبمصالحهم، وإنما هو يشّلهم، ويقعدهم ويفرغهم من أيّ عزيمة ومن أيّ قوة. فإذا بهم خاوون، بالكاد يقدرون على الوقوف على أقدامهم. فإذا ما تمكنوا من ذلك، تهاووا من جديد على الأرض لأن جاذبية الماضي أقوى من أي شيء آخر. ولأنه المادة التي بها يضعون حاضرهم ومستقبلهم، فإنهم يحرصون على تطهيره من كل ما يمتّ إلى هذين الزمنين بصلة قريبة أو بعيدة. وهم يريدونه أسود مظلما، لا نور فيه ولا حياة.
وهذا ما يميز رفضهم لكل تلك لآثار الفكرية والفنية والأدبية العظيمة التي صنعت أمجادهم في الأزمنة الخوالي في مكان ملي قلوبهم للشعراء الفنانين والأدب، والمفكرين القدامى المحبين للحياة، المقبلين على ملذاتها، المتغنّين بجمال المرأة والطبيعة، المحبّين للمبادئ الإنسانية السامية التي توحد بين الشعوب والأمم ولا تفرق بينها، الساعين في أن يكون الله على الأرض لا في السماوات البعيدة، الضاحكين أمام الفواجع والمصائب، الراقصين على الأنغام الخفية للكون، المتطلعين دائما إلى الأمام لأن ما فات مات، المحبين للإنسان مهما كان لونه وجنسه ودينه، القادرين على أن يضيئوا شموعا
في الليالي الأشد حلكة وسوادا ...
جميع المصلحين والمفكرين الذين حاولوا في الأزمنة الحديثة فصل العرب عن ماضيهم، وربطهم بحاضرهم ومستقبلهم أخفقوا في مساعيهم ورحلوا عن الحياة الدنيا وفي قلوبهم حسرة. وفي هذه الأيام والعالم يخطو خطواته الأولى في الألفية الجديدة، يعود الماضي بقوة إلى حياة العرب ليغزو تفكيرهم وعواطفهم. فلكأن لا شيء غيره. أينما التفت ترى الكثير من مظاهره. وهو بالنسبة لهم قادر إذا هم تمسكوا به، وبأفكاره، وبكل ما فيه من جوانب مظلمة، على أن يحل جميع المشاكل والمعضلات التي يواجهونها، وعلى أن ينصرهم على الأعداء المتربصين بهم من كل جانب، وعلى أن يعيدهم لهم المجد الضائع والقوة المفقودة، وعلى أن يجعل منهم أمة تفخر بنفسها كما كانت في الأزمنة القديم، وعلى أن يحبط مؤمرات أهل الفتنة من بينهم. بإختصار هو قادر على كل شيء كما أن الله على كل شيء قدير
- آخر تحديث :
التعليقات