الحلقة الثانية

أي كون هذا الذي يتغذى على جثث موتاه؟
أي كون هذا الذي يتغذَّى على نفايات ضحاياه؟
هل هناك كون وفساد؟
أم هو فساد محض؟
ليس هناك عقل، هناك معقول يأتي ومعقول يروح. ليس هناك زمن، هناك شروق ينتظر موته، وغروب يهيِّأ لآتٍ يمحوه. ليس هناك إنسان، هناك صحة قد تفقد صلاحيتها في لحظة واحدة، و مرض قد لا يشفى أبدا، ليس هناك تاريخ، هناك خبر تنقضه مصلحه وتثبته مصلحة، ليس هناك جغرافية، هناك مصير متوقف على كف القدر. ليس هناك فلسفة، هناك فلسفات بعضها ينفي بعضا. ليس هناك قانون، هناك حيل يبدعها عقل عبقري ليحتال على جهل لا يستطيع تحمله. ليس هناك نص، هناك نصوص مؤسسة، تستنسخ نفسها باستمرار. ليس هناك حلول، هناك وقفات ساكنة سرعان ما تتبد عن مشكلة أكثر قسوة.
الإنسان!
ذلك هو المخلوق الجميل!
حقا؟
ولكن أي جمال هذا وهو يحمل في جزئه الأعلى ما يفتخر به، وفي جزئه الأسفل ما يشمئز منه بالذات! أي جمال هذا؟ أي جمال؟
هل هناك علم؟
نعم!
ولكن ذاك هو...
يقتل ويحي... يظلم ويعدل... يخفي ويعلن... يزكي ويلعن... هل كان اللجوء إلى الفلسفة إلاّ هروبا منه في كثير من الأحيان؟ بل هل كان اللجوء إلى ديانات بوذا وزرادشت إلاّ خلاصا من جبروته الذي راح يفتك بكل شي؟
الإنسان...
ذلك المخلوق الجميل!
د لوني على حيوان يقتل من بني جنسه قطعانا؟
أليس هو المخلوق المتفرد بذلك؟
دلوني على حيوان يأكل كل اللحوم؟
هو فقط؟
ليخسأ هذا المخلوق الضاري، أقسم بالله أنّه أقسى من الذئاب الكاسرة.
أين المفر يا رب العباد؟
هو الله!
ولكنهم خربوه!
خرّبوا الله!
هو مجرّد، صفاته عين ذاته...
هو مجسم، له طول وعرض وارتفاع...
هو مسلم...
هو مسيحي...
هو يجلد...
يلعن...
الخمر يُذهب بعقل الإنسان، والصحوة تحير عقل الإنسان!
أين المفر؟
هل هناك نقطة وسط؟
فرحنا بمنطق أرسطو، هل هناك أجمل من الإستنتاج؟ مقدمتان يلزم منهما نتيجة حتمية، ما أجمل هذا الاكتشاف، وما أسهله، ولكن النتيجة ليست شيئا جديدا، هكذا قالوا، تلك هي متضمَّنة في المقدمة الكبرى، أرسطو شكلي، فهرعنا إلى الاستقراء ، هناك الحل، هناك النتيجة، ولكن معضلة الانتقال من الجزئي إلى الكلي أفزعتنا، حولت فرحنا إلى شك، شك، لا تقولوا هناك درجة عالية من المطابقة، لأننا نهفو إلى اليقين يا ناس، نريد أن نطمئن قليلا...
فرحنا وأي فرحة بقوانين نيوتن، قالوا لا محنة بعد اليوم، كل شي جاهز، قوانين نيوتن جاهزة، هي البلسم، هي الحل، هي التي سوف تطل بنا على المجهول، لا خوف بعد من المستقبل، انتظروا ما سوف تفرزه القوانين من علم بما سيجري، فتحتاطوا من الأخطار، وتصنعوا المستحيلات... في طبقات الذرة ضاع نيوتن، مات، شهق نفسه الأخير، وكان هناك الكوانتوم، وكان هناك النسبية الخاصة والعامة، وكان هناك القوى الأربعة، لقد وصلنا إلى قاع المادة، هناك المكونات الأولى، تلك الشياطين الثلاث ، ولكن أين نضع مصيبة الكوارك؟ وأين نضع القوى التي تجمع بين مفرداته الثمانية الرابضة في أحشاء الألكترون، وفي قلب البر وتون؟
هو الدين...
صدقوني هو الحل...
معذرة يا حبيبي، معذرة، هل يمكن لي أن أقول الدين حقيقة ولكن التدين خدعة؟
أي وحق الله، فما رأيت أقسى من المتدينين، ولم أر أبخل منهم، ولم أر أكثر منهم شكا وريبة في الناس، وفي الحقيقة، وفي الأمل بالله بالذات.
أين أضع هذه الحروب التي قامت لمئات السنين باسم الدين؟
رحم الله الفيلسوف العظيم جاك دريدا...
لا مركزية...
لا مصدر إحالة...
لا منبع...
النهضة، الأنوار، الحداثة، ما بعد الحداثة...
ومن ثم ماذا؟
ذلك هو القلق، وذلك هو الحزن، وذلك هو الخوف، وغدا يتحول الخوف إلى هلع، ويتحول الهلع إلى فزع ، فمتى يأتي ذلك اليوم، حتى نهرع وحدانا وزرافات لقتل أ نفسنا، نحو الهاوية، نحو ثقوب سوداء من نوع خاص...
قالوا علم نفس!
هرعنا إلى طبيبه فإذا هو لا يدري ما الهدف، لا يدري ماذا يعاني، لا يدري أين هي الحقيقة من علمه الذي كثرت مدارسه حتى ضاعت معالمه...
قالوا علم اجتماع، مرحى، لقد وجدنا ضالتنا، ولكن أي مدرسة؟
هذا هو الطب!
الطبيب صار قسا، والمريض متهما، والعيادة محضر اعتراف، ينتزع منك الطبيب اعترافا، فـأنت مذنب جسديا، وليس مريضا جسديا...
رحم الله تعالى الفيلسوف ميشيل فوكو...
السياسة!
لا...
يعني أن تكذب ثلاث مائة وثلاث ستون كذبة في كل سنة على أقل تقدير، أن تجيد فن الكذب، فن التمويه، فن الإرجاء، فن التأجيل...
أليس الكتاب خير جليس؟
هو شر جليس، يعذبك بحروفه، يقلقك بمضامينه، يرهقك بأسئلته...
الكتابة!
ذلك هو الافتراس بعينه...
السفر...
نعم، ذلك هو الحل...
ولكن والزلزال المفاجئ؟
يعني الموت الغريب، وما أشد قسوة الموت الغريب.
الصداقة!
صداقة الغربي أم الشرقي؟ المسلم أم الشيوعي؟ التاجر أم الفقير؟
ذاك يودعك عند محطة القطار، والأخر ينقلب عليك وحشا ضاريا إذا غيرت فكرك، والآخر يذيقك قهر الجوع أو قهر الشبع الرذيل.
أي كون يتغذى على عظام أطفاله؟
أي كون يتغذى على نفايات قحابه؟
أي كون يضم جنبا إلى جنب نبياً وقاتلاً معا؟
في حفرة واحدة، وربما يختلط الأمر، فيقدس قواد ويلعن نبي!
إلهي كيف الخلاص؟
النوم...
ولكن ساعاته قليلة، سرعان ما تفيق على وقع طبول النفاق البشري.
الموت...
وراءه حساب.
الجنون...
هل هو ممكن؟
اليائس : غالب حسن الشابندر
[email protected]