يوسف إدريس العاصفة

لم أعشق كاتبا ً مثلما عشقت يوسف إدريس منذ اللحظة الأولي التي تعرفت فيها علي قصصه و أنا مازلت علي أع ت اب المراهقة مستني الكهرباء الإدريسية الخفية، تيار يجتاح كيانك فترتعش، و لكنها رعشة النشوة، و يمسك بتلابيب روحك فتفزع، و لكنه فزع من إ كتشف السر، لغة بكر كطمي النيل، و حكي مشوق كحديث الجدة الريفية، و قدرة هائلة علي إ صطياد القلب منذ الحرف الأول و كأنه صياد العصر الحجري يغرس رمحه في قلب المجهول تحرقا ً للكشف، و كسرا ً لحاجز الخوف في نفس الوقت، و لقطاته هي عصير الحياة المصرية المستعصية علي كاميرات من يتعاملون مع الوطن بمنطق الرحالة، و مع الكتابة بمنطق السياحة، و مع القصة بمنطق الكارت بوستال.
منذ تلك اللحظة و أنا أتطلع للقائه حتى جاءت المناسبة و التي إ كتست بملامح المأساة، مأساة مثقف مصري أراد التعبير عن وجهة نظره فنهشت كبده الذئاب فلم يتحمل القلب فأصابته الذبحة، و كانت بالفعل إ سما ً علي مسمي و كانت مناسبة الذبح إصداره لكتاب " البحث عن السادات " و الذي هاجم فيه التعامل الساداتى مع أحداث الثغرة، و عدم استغلاله للإيقاع السريع و المباغت لأيام الحرب الأولي، و قامت القيامة و تنكر له الأصدقاء قبل الأعداء، و إ ستعدي عليه الجميع،إنقلبت عليه السلطة حتى أعلى مستوياتها، طعنه المثقفون و مثلوا بجثته، فلم يجد و هو النجم الساطع إلا صفحات جريدة الأحرار لكي يدافع فيها عن نفسه، و أصاب الخرس لسانه و قلبه، و عندما ذهبت أنا و مجموعة الأصدقاء إلي مستشفي مصر الدولي للسؤال عنه أخبرونا بأنه قد خرج بالأمس، فذهبنا إلي عمارة الهلالية رقم 100 شارع النيل الدور الخامس شقة 23، حيث استقبلتنا زوجته الرقيقة السيدة رجاء و التي تأكدت حين رأيتها أنها الوحيدة في هذا الكون التي تستطيع أن تتزوج من هذا البركان، و أن تتحمل لهيب حممه و تتكفل بترويض جموحه، دخل علينا ببنيانه ووجهه الشاحب، عيناه ذكيتان بجفون نصف مغلقة علي الدوام و كأنها في إطلالة مزمنة علي الداخل، كفه ضخم و به ورم خفيف و كأنه مستعد للطم و المشاجرة، جلس يحكي لنا تجربته مع الطب بعد أن عرف أننا في مرحلة الامتياز بقصر العيني، و في منتصف الحديث صمت فجأة ليخرج لنا برقية أرسلها له صديق يتشفى فيه، الصديق صحفي كبير كان في المطار و لم يصبر حين عرف أن يوسف إدريس شبه معزول بقرار غير رسمي فأرسل له بهذه البرقية، سبه إدريس و سب أمه، و عرفت أنه في غابة الصحافة من السهل استفزازه و اصطياده، و أخذ يفسر لنا لماذا خرج هيكل من معركة " خريف الغضب" سالما ً بل غانما ً، و خرج هو من معركة هذا الكتاب مثخنا ً بالجراح، بل مذبوح الصدر والشريان، و عرفت أنا السبب، فالأول صحفي محترف، و الثاني فنان بكل ما تحمله هذه الصفة من طيش و جنون و حماقة و خيال و جموح و نرجسية و خروج عن المألوف ورفض للبراويز و الإطارات المحكمة، الفرق ببساطة أن هيكل يغمس قلمه في فص المخ الأيسر و يستمد مداده من سائل النخاع الشوكي، إما إدريس فقد كان يغمسه في الشريان و يكتب بعصير روحه و أعصابه و أسلاكه العارية علي الدوام
قال له توفيق الحكيم ذات يوم " الفرق بيننا و بينك أننا أدباء نكتب عن الفن أما أنت ففنان تكتب القصص و الأدب"، إنني أتصور أنه في يوم 19 مايو 1927 و في قرية البيروم بمحافظة الشرقية ولدت كاميرا بشرية اسمها يوسف إدريس، كاميرا مشحونة علي الدوام عدستها مفتوحة باستمرار، تلتقط بوضوح وحدة، لا تفرق بين وهج النهار وسواد الليل، تستطيع أن تتحول إلي مرصد فتلتقط أسرار الكون، و تستطيع أيضا ً أن تتضاءل حتى تصبح بحجم الإليكترون فتطلع علي ما يجري في مجاهل الخلايا البشرية و أحراش النفس الإنسانية، ساعده علي ذلك سفر والده الدائم نظرا ً لظروف عمله في إ ستصلاح الأراضي، و في القرية عاش أحلام اليقظة و لمس عن قرب كل المسكوت عنه و كشف المستور، فالقرية صريحة ترفض مساحيق التجميل و عمليات شد الوجه، يكفي أنه تعرف علي المرأة في سن الرابعة عشرة و دخل في هذه السن المبكرة عالمها الغامض بكل حسيته ونشوته، و من الشرقية إلي دمياط إلي المنصورة و مع والده الذي كان يطوف بأرجاء المحروسة عرف أن مصر امتداد بلا حدود، و عمق بلا قرار، و أ حب هذا الوطن واكتوي بناره أيضا ً، وترك الطب و الجراحة و تشريح الجسد ليتفرغ للفن والأدب و تشريح الروح، فضل أن يعالج ألام الوطن بدلا ً من علاج الفرد، و لكنه في النهاية صرح في بعض المقالات بأنه ينظر إلي أصدقائه الحميمين مثل د. البنهاوي و سامح همام نظرة ح سد في بعض الأحيان لأن مرض الإنسان غالباًً ًً ما يشفي و لكن مرض الوطن عندنا لا شفاء منه!!!
وحكاية تركه للطب و اختياره للفن و الكتابة لها قصة و أسباب يحكي هو جزء منها، و يحكي أصدقاؤه الجزء الآخر، في حديث له مع المنسي قنديل قال: لقد تركت الطب لأنني أحسست أنني قد بدأت أتعود علي الألم الإنساني لم أعد أهتز أمامه، و أحسست أن هذا سوف يقتلني ككاتب مهمته الأساسية أن يقاوم كل مصادر الألم، و أعتقد أن هناك أسبابا ً أخري كثيرة من أهمها قيود المهنة، فهو قد ترك المهنة إلي اللامهنة، فهو القائل " الكتابة ليست مهنة إلا إذا كان الاستشهاد في سبيل الحقيقة مهنة أو التضحية مهنة ".
والمدهش أن يوسف إدريس في تلك الفترة و أثناء دراسته الطبية، و برغم انخراطه في العمل السياسي إلا أنه كان أزهد فرد في شلة المثقفين زملائه و أ قلهم اهتماما ً و إ طلاعا ً علي عيون الأدب العالمي و الفكر الإنساني، و لكنه كان أكثرهم إ طلاع اً علي ملامح البشر و قراءة لخريطة نفوسهم بكل تضاريسها و تفاصيلها، و لذلك لم يكن غريبا ً أن تندهش هيئة تحرير المجلة التي تشرف علي المسابقة و المكونة من صلاح حافظ و مصطفي محمود و محمد يسري أحمد و كانت أنشودة الغرباء هي أولي القصص و أولي الصدمات أيضا ً، فالفنان داخل يوسف إدريس جعل الجميع يتساءلون كيف حدث ومتي ؟، و أين كان مختفيا ً ذلك المارد المرعب الذي يكتب القصة و كأنه يحكي حدوتة أو كأنه يتنفس أو كأنه يصنع فخا ً لقارئ حذر حتما ً سيسقط فيه و إ ن طال الأوان و تضخم الحذر.
أما لماذا إ ختار القصة القصيرة بالذات؟، أ عتقد أنها علامة استفهام محورية فالرجل كان محدد الهدف منذ البداية، لم يكتب أبيات شعر متناثرة هنا وهناك كمعظم الأدباء و لم يحاول طرح أفكار اً فلسفية أو نشر خطب سياسية، و لكنه إ ختزل هذا و ذاك في ذلك الشكل الساحر المسمي القصة القصيرة، و لماذا هذا الشكل بالذات ؟، لنترك يوسف إدريس يجيب عن ذلك بنفسه يقول إدريس " إ خترتها لأني أستطيع بالقصة القصيرة أن أصغر بحرا ً في قطرة، و أن أمرر جملا ً من ثقب إبرة، أستطيع عمل معجزات بالقصة القصيرة، إنني كالحاوي الذي يملك حبلا ً طوله نصف متر، و لكنه يستطيع أن يحيط به الكون الذي يريد، القصة القصيرة طريقتي في التفكير ووسيلتي لفهم نفسي، و الإطار الذي أرى العالم من خلاله ، إنه الإطار الذي وجدني و لم أجده"، يقول أيضا ً إن القصة القصيرة هي أصعب شكل أدبي و أ سهل شكل أدبي في وقت واحد، إنه شكل سهل لابد أن يمارسه كل شخص و لو في جانبه الشفوي و لكنه ف ن صعب، يحتاج إلي قدرة للأخذ بتلابيب لحظة نفسية خاطفة، و التعبير عنها في كلمات، لقد اخترع بيكاسو ذات مرة طريقة لرسم لوحة فوسفورية تختفي بعد دقيقة هذه الدقيقة هي القصة القصيرة هي اقتناصي لحظة كشف خارقة".
ولكن السؤال الأكثر إدهاشا ً هو : لماذا ترك يوسف إدريس كتابة القصة القصيرة تلك المعشوقة التي امتلكت كيانه و التصقت بكرات دمه الحمراء ؟، السؤال فرض نفسه علي كل من له أدني اهتمام بالثقافة و الأدب، أحيانا ً كان السؤال يصدر عن حب، و أحيانا ً أخري عن شماتة، و غالبا ً ما كان ممزوجا ً بالفرحة، فها هي الشمس التي أحرقت و همشت كل من إ قترب منها، إ قتربت لحظة غروبها، غروب تلك الموهبة المرعبة لتي ظلمت بإشعاعها الذري جيلا ً بل أجيالا ً من القصاصين، وقع نصفهم في فخ المقارنة، و النصف الآخر في هوة التقليد، ظل إدريس صائما ً و صامتا ً، منذ سنة 1971 و حتى سنة 1981 عن كتابة القصة القصيرة حتى خرج علينا بنيويورك 80 و التي إ حتار النقاد في تصنيفها هل هي قصة أم رواية أم مشروع مسرحية أم مجرد عمل ذهني صرف يطرح فيه أفكارا ً لم تكتمل صياغتها الفنية بعد؟، كان السؤال مؤلما ً و يحمل معاني ودلالات قاسية و جارحة، فالسؤال يتبعه بالضرورة سؤال آخر و هو : هل أفلس يوسف إدريس فنيا ً منذ السبعينات؟، و هل آ ن له أن يعلن كما أعلن من قبله يحي حقي إ عتزاله للكتابة لأنه لم يعد لديه ما يضيفه ؟، وهل تاريخ وفاة يوسف إدريس الفعلي هو بداية السبعينات بعد مجموعته " بيت من لحم" و ليس بداية التسعينات عندما فارقنا في أول أغسطس 1991؟، و بالطبع كان لابد ليوسف إدريس أن يكسر حاجز الصمت فنشر مقاله القنبلة بعنوان " يموت الزمار" في 17 أبريل 1981، و الذي قرر أن يجيب فيه و بأسلوب لا يقل فنية و جرأة عن أسلوب قصصه القصيرة، و كأنه يقول أنا هنا مازلت يوسف إدريس، فيصرخ علي الورق ويقول " أي شئ إلا أن أمسك القلم مرة أخري و أتحمل مسئولية تغيير عالم لا يتغير و إنسان يزداد بالتغيير سوءا ً، و ثورات ليت بعضها ما قام "، إنه يعلن هنا كفره بالكتابة ككل وليس فقط بالقصة القصيرة و التي برر هجرها بأنه لن يرضي بدور القصاص و بيته يحترق من حوله فلابد من أن يهب واقفا ً لإطفاء ذلك الحريق الذي شب في جدران المجتمع، و بالطبع كان هذا الإنقاذ هو الكتابة و لكنه في هذا المقال يقرر أن الكتابة أصبحت غير ذات جدوي، و يصرخ قائلا ً" لقد كان حلمي بالكتابة كحلمي بالمعجزة القادرة علي شفاء أي داء، و في عمري أنا سأري اختفاء الحفاء و عمومية الكساء وزوال الحاجة، كانت واحة العمر ألجأ إليها كلما نضب معين الخيال و أتزود منها وبها بالقدرة علي مواصلة اللهاث و كأنني سأصحو في الغد لأجد الصباح فجرا ً ليس فجر يوم و لكن فجر عصر، عصر كامل تام يو ل د فيه الإنسان، يحب بكل فهم و عمق و ظمأ الحب، و يعيش وروعة الحياة يشربها مترعة قطرة وراءها قطرة، و لكل قطرة طعم، و لكل لحظة زمن تمر أشواق و صهللة و معان "، و يقرر يوسف إدريس هجر الكتابة ليعوضها بالعمل اليدوي و إصلاح الأجهزة الكهربائية و التي يفشل فيها فشلا ً ذريعا ً فيقرر الغرق في السهرات فيفترسه الملل، فيعود ليكتفي بدور الأب فيصيبه الإحباط، و في النهاية يعود إلي الكتابة، و كان الكل واثقا ً من أنها نزوة فنان يعاني موجة اكتئاب حادة، علاجها الوحيد المزيد من الكتابة و جاءت الإجابة من إدريس نفسه الذي قال " اليس الأروع أن تظل تعزف نشازا ً و شاحبا ً حتما سيأتي اليوم الذي يعلو و يجبر الناس من صدقه علي السمع أو حتى إذا لم يأت اليوم فماذا تفعل إنه وجودك لا فكاك منه ".
وهذا التأرجح ما بين الحماس الشديد للكتابة و الإيمان بعدم جدواها هي عرض من أعراض الاكتئاب و الذي يصل في حده الأقصى إلي الإيمان بلا جدوي الحياة نفسها و لنسمع صوته يقول " بمثل ما فقدت الرغبة في أشياء كثيرة جدا ً لا شي أريد، لا الشوق أريد، لا القلق علي ابن أو زوجة أو صديق أو قضية، لا احتجاج لا تفكير مطلقا ً في أي مقاومة لا شئ غير إ نتظار النهاية ".
وبذور الاكتئاب الأولي الجنينية قد نمت و أثمرت في فترة السجن فقد دخل يوسف إدريس المعتقل في أغسطس 1954 و ظل حبيسا ً فيه حتى سبتمبر 1955، و الحصار و العزلة هي وقود الاكتئاب و أغلب الظن أن العقاقير المخدرة قد تسربت إلي أوردته في تلك الفترة،رفض يوسف إدريس أن يتخلي عن مفتاح شخصيته الفني حتى و هو ينهي شهر العسل القصير بينه و بين التنظيم الشيوعي فقد خرج من التنظيم بشكل درامي حاد فهو لم يقدم استقالة هادئة أو يعلن بيانا ً عنتريا ً و إنما خرج إثر لكمة وجهها إلي وجه مسئول في التنظيم جاء ليلقنه مبادئ الاشتراكية الحقيقية !!، و بعد هذا البوكس الدامي إ نقطعت صلته بكافة التنظيمات السرية و تذبذبت موا قفه من التنظيمات العلنية، و ظل يتعامل مع السياسة بمنطق الفنان الذي من الممكن أن يجمع كل المتناقضات، و يضرب عرض الحائط بكل إ لتزام حزبي فكان اليساري الذي يؤيد الوفد، و ينال جائزة صدام ثم يهاجم النظام العراقي، و ينضم للاتحاد القومي مساعدا ً فيه لأنور السادات ثم يصطدم به صداما ً عنيفا ً خرج فيه من الشارع السياسي إلي الشارع الحقيقي، حيث الوحدة و البطالة و الإهمال و الإنكار، و هذا الطرد له قصة من المفيد أن نذكر تفاصيلها هنا حتى نتفهم أكثر شخصية يوسف إدريس المركبة، إ نضم يوسف إدريس إلي الاتحاد القومي و الذي كان أنور السادات مسئولا ً عنه في فترة معينة، و قد قام إدريس في تلك الفترة بصياغة كتاب للسادات عنوانه معني الاتحاد القومي، و فجأة و كما يحكي الأستاذ رجاء النقاش صدر قرار رسمي بطرد يوسف إدريس من الاتحاد القومي، وأمره السادات بأنه لم يعد يرغب في رؤيته، أما توابع القصة فيرويها رشاد كامل فبعد طرده إثر إتهام عبد الناصر للسادات بأنه يف تح الباب لمن يجرون تنظيم الثورة ناحية اليسار اتجه إدريس إلي الأهرام والتي كان قد عين فيها منذ فترة بسيطة فوجد نفسه مرفوتا ً، فخرج من مكتب هيكل إلي مكتب السادات في مبني المؤتمر الإسلامي و الذي
كان معارا ً له من وزارة الصحة، فأخبره السادات بأنه قد صدر قرار برفته من المؤتمر الإسلامي، و لما صرخ إدريس بأن السادات لا يستطيع رفته بل كل ما يستطيعه هو إلغاء إعارته من وزارة الصحة، ضحك السادات وقال كمان سيادتك مرفوت من وزارة الصحة، فذهب سريعا ً إلي وزارة الثقافة والتي كان يعمل بها فقرأ قرار فصله بنفسه وهكذا صارت المأساة مكتملة الأركان الأربعة ليظل يوسف إدريس علي البلاط سبعة أشهر إلي أن أعاده د. حسين فوزي إلي عمله في وزارة الثقافة.
ولم أستغرب أو أندهش من ذلك التمرد علي القوالب الأيديولوجية الجاهزة، و التي كان يوسف إدريس لا يطيقها، ولم لا إذا كان قد تمرد علي قواعد صنعته الفنية نفسها، وحتى علي قواعد و نحو وصرف اللغة العربية فقد خاصم سيبويه و لم يعقد صلحا ً معه حتى يوم وفاته، و دخل كلية الآداب و لم يطق دروسها سوي ثلاثة أيام، و إ نتقده في هذه النقطة نقاد كثيرون و علي رأسهم د. طه حسين، و نحن ندرك كم هي مدمرة لأديب أن يتهم بجرح قدسية اللغة العربية، و لكنها هواية تدمير التابوهات، وزلزلة المألوف، التي كان يعشقها يوسف إدريس، و بالنسبة لموضوع اللغة العربية هذا فقد سجلت الصفحات الأدبية سجالا ً ثريا ً بينه و بين الناقد د.عبد القادر القط أعلن فيه نظريته في اللغة الأدبية أو علي الأخص لغة القصة فقال في جريدة الجمهورية 13 مايو 1960 " اللغة أي لغة لا تهبط علي أبنائها من عالم الغيب ولا تتفجر لهم من باطن الأرض، و لكنهم هم الذين يخلقونها و يطورونها و يبدلون فيها و يغيرون، و القواميس و المعاجم التي وضعت للغتنا أثبتت ألفاظها لا علي أساس أصلها و فصلها، و لكن علي أساس أن العرب استعملوها لأداء هذا المعنى أ و ذاك، على أساس أن العرب استعملوها لأداء هذا المعنى أو ذاك، أي أن اللغة العربية هي فقط اللغة التي يستعملها الشعب العربي بصرف النظر عن منشأ مفرداتها و عن التطور الذي يصيبها، و لو كانت اللغة العربية هي فقط اللغة التي وردت علي ألسنة أجدادنا الأقدمين، لكان معني هذا أننا نتكلم اليوم لغة أخري "، و كما أعلن يوسف إدريس عن نظريته الجديدة في اللغة في مقالاته سنة 1960 أعلن عن نظرية أخري في المسرح سنة 1964كانت بمثابة الثورة التي صدمت و غيرت و بدلت، و التي نستطيع أن نقول دون أدني مبالغة أن المسرح المصري قبل مقالاته الثلاثة " نحو مسرح مصري " و التي نشرها في مجال الكاتب غير المسرح المصري بعدها، فقد م ن حت تعبيرا جديدا ً و هو (التمسرح) و الذي يفرقه عن ( الفرجة ) فالتمسرح مشاركة جماعية حرم منها الشعب المصري كثيرا ً بسبب تحريم الاحتفالات الجماعية و إ عتب ا رها من بقايا الوثنية و لذلك اختفي مسرح السامر و الأراجوز و خيال الظل ليحل محلها الشكل الكلاسيكي للمسرح الأوربي،و في رحلة البحث عن صيغة مصرية للدراما قدم لنا يوسف إدريس رائعته الفرافير و التي كانت ت طبي قا ً عمليا ً لنظريته في التمسرح بعد مسرحيته التقليديتين ( ملك القطن ) (جمهورية فرحات)، و قد أثارت هذه المسرحية ث ائرة النقاد المسرحيين الكلاسيكيين فها هو يوسف إدريس الذي لم يدرس المسرح دراسة منهجي ة يضع أساسا ً لنظرية مسرحية أخرجت من عباءته تيارات مسرحية متعددة من السامر شرقا ً حتى الحكواتي غربا ً، وكما أثارت هذه المسرحية النقاد أ ثار إخراج كرم مطاوع غضب يوسف إدريس نفسه، والذي كان يؤكد و يعتز بأن المؤلف هو سيد العمل المسرحي علي عكس كرم مطاوع الذي كان قد عاد من بعثته من إيطاليا و كله ثقة في أن المخرج المسرحي هو سيد الع رض الأوحد،و قد أ صبح هذا الخلاف سمة أساسية لكل أعمال إدريس التي تناولها مخرج سواء مسرحي أو سينمائي، و أ عتقد أن مصدر خلافاته المسرحية بالذات ناتج عن أن مسرحه مسرح أفكار أكثر من ه شخصيات، فأبطاله هم المتحدثون الرسميون لأفكار يوسف إدريس إ نهم أنماط أكثر من هم شخصيات من لحم و دم، علي عكس قصصه القصيرة والتي تكاد تجزم بأن شخصيتها قد شاهدتها و عاشرتها من قبل، و ظلت مسرحياته ت ث ير الجدل ما بين احتفاء و هجوم، مرات يحضر الافتتاح كبار رجال الدولة، و مرات أخري يأمر هؤلاء الكبار بمنع عرضها مثلما حدث مع المخططين سنة 1969.

وعلي عكس خشبة المسرح التي احتضنت كل مسرحياته بداية من ملك القطن و حتى البهلوان و مرورا بجمهورية فرحات و اللحظة الحرجة و الفرافير و المهزلة الأرضية و المخططين و الجنس الثالث، علي عكسه تماما ً كانت علاقته مع السينما متوترة، فمن ضمن قصصه القصيرة التي تعدت الثمانمائة قصة لم تقدم له السينما سوي عشرة أفلام وفى إحصاء آخر إثنى عشر فيلما ً إذا أضفنا الأفلام التي أعطي مخرجيها الفكرة فقط، و إذا كانت بعض الأفلام قد كانت علي مستوي روعة القصة مثل الحرام ولا وقت للحب فإن البعض الآخر قد تحول إلي
مسخة علي يد مخرجين أ عتقد أنهم لا يفرقون بين يوسف إدريس و يوسف منصور!!، و أ قصد بهذه النوعية ف ي لمين بالتحديد هما " العسكري شبراوى " المأخوذ عن قصة مشوار، و فيلم " حلاوة الروح" المأخوذ عن تحفته القصصية الرائعة " العسكري الأسود"!!، و اعتقد أن المخرجين والمنتجين أحجموا عن التوغل في عالم يوسف إدريس القصصي لوحشية هذا العا ل م و تعريته الصريحة لمجتمعنا، و الذي يفضل النوم علي وسادة من ريش النعام القصصية، و ي ك ره سرير المسامير و طريق الجمر الذي يجر هم إليه هذا الإدريس، ف إ كتفت الشاشة الفضية ب " الحرام " لبركات و " لا وقت للحب " لصلاح أبو سيف و " العيب " لجلال الشرقاوي و " قاع المدينة " لحسام الدين مصطفي و " حادثة شرف " لشفيق شامية و " النداهة " و " علي ورق سلوفان " لحسين كمال، ثم ال ف ي لمين المسخ ال ل ذين تحدثت عنهما من قبل بالإضافة إلي فكرة حدوتة مصرية و عنبر الموت.

و المسرح و السينما بالنسبة ليوسف إدريس كانا مجرد موضوع تعبير ليس إلا، في زمن أصبحت حرية التعبير بالنسبة للكاتب مأزق حقيقي فهو لم يطمح في أن يكون سيناريست محترفا ً، بل كان طموحه هو نشر أفكاره علي أوسع مساحة ممكنة من الجمهور الذي هو بالطبع أضخم من القراء، و أزمة التعبير ظلت ه ا جسا ً أساسيا ً عند يوسف إدريس و صداعا ً مزمنا ً يطل من بين حروف كلماته، و قد كتب في الهلال عدد أغسطس 1969 مقالا ً قال فيه : ( هناك أزمة في التعبير بشكل عام، هناك أزمة فاصلة بين الأديب كمعبر عن مجتمعه في ظرفنا الراهن و بين قدرة
هذا المجتمع علي است يع اب هذا التعبير، بمعني آخر و لأسباب كثيرة يدركها الناس هناك ما يشبه الرفض، رفض مجتمعنا أن يواجه نفسه مواجهة صريحة قد تخدش حياءه السياسي أو الاجتماعي أو النفسي، و لأن دور الكاتب هو أن يكون مرآة الحقيقة الصادقة فأعتقد أن الكاتب الأصيل يعاني من أزمة شديدة، أزمته أن يقول الحق، أو ما يعتقد أنه الحق دون أن يجر عليه هذا القول تبعات الصراحة في كل زمان و مكان ".
في نيويورك 80 يبلغ هذا الهاجس منتهاه و تعلو الصرخة لتصير نحيبا ً ففي حوار ما بين العاهرة الأمريكية و الكاتب العربي تقول له العاهرة : قلت إنك كاتب و قطعا ً تعمل في مؤسسة أو تعيش في مجتمع يعولك و يدفع لك أجرك هل تقول الحقيقة أ م تقول أشياء وتخفي أشياء؟ أليس كل هذا مومسة؟، السياسي الذي يعرف أنه يبيع بلده أو يغمض عيناه عن مصالحها ماذا تسميه؟، القاضي، التاجر، الزوجة التي لا تطيق رؤية زوجها و تتأوه حبا ً حين يلمسها، ماذا تسمي هذا كله؟، ماذا تسمي المثقفين و الكتاب الذين يعرفون الحقيقة و يخافون الجهر بها أليس كل هذا مومسة؟، كلكم بغايا و بأجر فاحش مدفوع و لكن أنا الوحيدة المصلوبة بينكم، أنا الوحيدة التي بخطيئة، و أنتم فقط قذاف الأحجار "، و نلتقط الخيط من عاهرة نيويورك 80 و التي تصدم ذوي الياقات البيضاء و تفضح دعارتهم الفكرية التي تفوق بمراحل دعارتها الجسدية، نلتقط هذا الخيط لنتحدث عن أهم تابو كسره يوسف إدريس في قصصه تابو الجنس و الذي إ عتبره أهم إنجازاته الفنية، فهو علي مستوي الكيف و الكم أهم كاتب عربي إ قتحم عالم الجنس بجسارة، و إ ستطاع التوغل في حقل ألغامه الشائك و المدمر، فالجنس عنده لم يكن فيلم بورنو يحرك الغرائز ولكنه كان فلسفة ورؤية، و نقطة الضعف التي إ ستطاع النفاذ منها ليكشف لنا السوس الذي ينخر في هذا البناء المهيب، و الزيف المستتر وراء الوقار المصنوع، و العفن الذي يعشش خلف كل هذه الأطنان من الأوامر و النواهي الأخلاقية و المحاذير و المحظورات النابعة من الأعراف و التقاليد، فها هي " عزيزة " في الحرام يدينها المجتمع الذي ضن عليها بجدر البطاطا فكان المغتصب الأول لجسدها وروحها، و تلك فاطمة في حادثة شرف التي كشف الجميع علي شرفها و اختزلوه في مجرد غشاء رقيق و عندما اطمأنوا إلي أن " الشرف منصان" كانت هي قد بدأت رحلة الخطيئة الحقيقية، أما سناء بطلة العيب فبعدما اقتنعت بالرشوة صار سهلا ً لديها بيع الجسد بعد نخاسة الضمير، و شهرت في قاع المدينة، و فتحية في النداهة إ غتصبته م ا المدينة ففقدتا البكارة بمجرد الدوران في ترسها الفتاك، و الجنس عند يوسف إدريس ليس عملية ميكانيكية غريزية بل هو انتصار في بعض الأحيان علي الموت كما حدث في قصته العملية الكبرى التي مارس فيها الطبيب الجنس مع الممرضة و بجانبهما ترقد جثة تحتضر، و في أحيان أخري يتغلب علي اختلاف الدين كما في قصة جيوكندا مصرية التي أحب فيها الصبي المسلم فتاته المسيحية حنونة، و في مسحوق الهمس يتغلب الجنس علي جدران السجن، وفي دستور يا سيدة علي حاجز السن، أما في درته الفريدة بيت من لحم و التي إ عتبرها أنا شخصيا ً إنجيل القصة القصيرة، فالجنس فيها يعربد في جو مريب من الصمت و التواطؤ مكتسحا ً في طريقه كل الأعراف و التقاليد، فزوج الأم الأعمى يمارس الجنس مع الأم و بناتها العوانس و الكل يعرف و الكل لسانه ملجم، و المدهش أن الكل متسامح برغم بشاعة الفعل، البيت يعربد فيه الجوع إلي الحياة و الجوع إلي الرجل و إلي لحظة صدق لن تتحقق لأنها لو تحققت لحدث الزلزال، فكانت الصفقة و المعادلة، الصمت مقابل المتعة، و الطناش في سبيل بقاء البيت الذي تك و م فيه اللحم و اهترأت فيه الأرواح.
و جميع مشاكل و سقطات يوسف إدريس ترجع إلي كونه ولد نجما ً منذ اللحظة الأولي، في أغسطس سنة 1954، أغسطس هذا الشهر الذي كان قدره، ففيه صدرت مجموعته القصصية الأولي أرخص ليالي و فيه دخل المعتقل و فيه أيضا ودعنا في بلاد الضباب بعيدا ً عن وطنه، ظل يوسف إدريس يعيش وسواسا ً مزمنا ً كيف يحافظ علي هذه النجومية التي ليست نجومية الكاتب و لكنها نجومية فتي الشاشة؟، و المدهش أنه ظل و هو نجم النجوم يبحث عن ا لإ عتراف الرسمي و الإنصاف الذي يحمل ختم النسر في بعض الأحيان، كان يغيب عن ذهنه ملامح العلاقة المركبة ما بين الكاتب و السلطة التي في أغلب الأحيان تحترم الكتبة و تمقت الكتاب!! ظل يبحث عن ذلك الاعتراف بدأب و إصرار عجيبين حتى اكتملت الميلودراما حين وصلته جائزة الدولة التقديرية و هو علي فراش الموت و أعتقد أن هذا يفسر قبوله لجائزة صدام رفضه لأن تكون مناصفة و يفسر قبلها أيضا حملته الشعواء علي نجيب محفوظ لحصوله علي جائزة نوبل فالنرجسية هي أخطر أمراض الفنان و أيضا أخطر نقاط قوته،ولكنها عند مثقف العالم الثالث الذي لا يقرأ أصلا تتحول إلي ورم سرطاني أراد يوسف إدريس أن يكون أول من يحصل عليها من كتاب القصة القصيرة و غضب لأنها لن تأتي لعربي آخر قبل ثلاثين عاما كان يكره التخطيط و المعمارية الصارمة و ضبط الوحي علي عقارب الساعة و التي كان يمارسها نجيب محفوظ فهو ابن الحالة المزاجية في الكتابة و التلقائية و الرفقة الواحدة و الشخصيات التي تتراقص بجنون علي الورق و ترفض سجن المعمار و مقاييس المسطرة و البرجل و لهذا نجح في القصة القصيرة و فشل في الرواية أو لنقل بالأصح كانت رواياته قصة قصيرة " طالت منه" ؟
طالب محمد مستجاب ذات يوم بتكوين جمعية لحماية يوسف إدريس و كنت لا أشاركه في طلبه هذا فأروع ما في يوسف إدريس هو هذا الطيش الناتج عن مخزون صدق هائل يكفي الكون و هذا الجنون المعبر عن تمرد و عدم قدرة علي الانسجام و التلاؤم مع قبح هذا العالم وزيفه و هذا الاندفاع اندفاع الواثق من أن عمره لن يمتد ليحقق كل ما يريد و بالفعل قد تحققت النبوءة ففي مطلع أغسطس 1991 توقف القلب العليل المسكون بأوجاع الوطن و انفجر المخ الذي كان مضبوطا علي أعلي فولت حبا لتلك المحروسة التي دائما ما تحول أحلام عشاقها إلي كوابيس و حياتهم إلي سلسلة لا نهائية من الضني و العذاب.

[email protected]