يعتز الفكر الغربي بـ«عصر الأنوار» لأن العقل مارس، لأول مرة، سلطته في معزل عن السلطات الأسطورية والدينية، ولا يخفى أن هذا العقل، عكف على نقد الواقع والفكر معاً، وسعى إلى تنقيتهما من شوائب الانغلاق العقائدي، فالعقل هو الذي منح قيمة للإنسان على حساب الطبيعة، والفرد على حساب المجموع، وكان الوسيلة التي نشّطت البحث العلمي في الطبيعة وعلوم الإنسان، ومارس العقل نقداً جذرياً للأفكار والتقاليد الموروثة، واتخذ لنفسه اتجاهين، أولهما عقلاني خالص ذو نزعة ذاتية تأملية، وثانيهما تجريبي مادي، فالهيغلية ثمرة الاتجاه الأول، والماركسية ثمرة الاتجاه الثاني. وهاتان الفلسفتان أنتجتا نظماً استبدادية شمولية، ففي الدولة الهيغلية ليس ثمة قيمة حقيقية للفرد، إلاّ باعتباره كائناً ولائياً وامتثالياً، فالدولة سلطة مطلقة في شمولها، لا يشكل الأفراد فيها إلاّ نسيجا غامضا مرهونا بقوتها وشمولها وصحتها المطلقة، لأنها آخر تجليات العقل في نشاطه العنيد لتحقيق الفكرة الشاملة. أما في الماركسية فالشمول اتخذا طابعاً راديكالياً، فبدل الخضوع لفكرة أخذت شكل الدولة كما هو الأمر مع هيغل، فإنّ الخضوع يتم لطبقة جعلها مسار التاريخ الوارثة الأخيرة لجملة صراع الإنسان منذ خلق إلى أن حقق ذاته في آخر مراحل الصراع الاجتماعي. قيمة الفرد-الإنسان تنحسر، لأن آلة المجموع هي المعيار الذي ينبغي أن يكون العنصر الحاسم في إعطاء قيمة للفرد. والنظم الشمولية المستبدة، سواء اتصلت بالهيغلية أو الماركسية، رهنت قيمة الإنسان بممارسات جماعية أصبح فيها الإنسان جزءاً بالغ الضآلة في آلة هائلة تمارس سلطاتها بقوة وتهيمن على كل شيء. وبهذا أحالت نتائج عصر الأنوار وعقله إلى قوة مضادة للإنسان نفسه.

ولكن هل ينبغي أن يعمي هذا النقد أبصارنا عن مكاسب العقل في تجلياته الهيغلية والماركسية؟ سيكون الجواب بـ"نعم" نكسة لكل موقف يتنكر للأصول النقدية الكامنة في الفكر الحديث، ومنه النقد الماركسي لبنية الاقتصاد الرأسمالي وآثاره الاجتماعية، فذلك النقد أحد أهم الأصول التي أطلقت مساءلة مريرة لنقد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع الغربي المعاصر، فمفهوم ماركس حول "تشيؤ" العمل كان المدخل الأكثر أهمية لنقد المجتمع الرأسمالي. ومع أن هربرت ماركوز يرجع بذور «التشيؤ» إلى هيغل باعتبار أنه أشار إلى أن العلاقات بين الأفراد في المجتمع الحديث يغلب عليها طابع العلاقة بين أشياء، وأنّ قيمة الفرد مرهونة بملكيته، وأفعاله الإنسانية في مجالات الفن والعلم والدين تخضع في نهاية المطاف إلى عملية بيع وشراء، فإنّ ماركس شخَّص هذه الظاهرة من خلال دراسته للاقتصاد السياسي التقليدي. إذ أكد على مقدرة العمل المتشئ على أن يحوّل نفسه، في إطار الإنتاج الرأسمالي، إلى رأسمال، أي يحول وسائل الإنتاج إلى وسائل سيطرة على العمل الحي واستغلاله.

يرى ماركس أن للعمل وجهين: عمل ملموس ماثل في القيم-الاستعمالية للسلعة، وعمل ضروري اجتماعياً كما يحتسب في القيمة-التبادلية. وهذان الوجهان المزدوجان للعمل يؤديان إلى نتيجتين؛ ففي الحالة الأولى يتوقف كل شيء على خصوصية القيم–الاستعمالية، فهذا هو ما يمنح القيم-الاستعمالية عملاً، يخلق لها طابعها المتميز، ويجعلها قيماً–استعمالية مميزة عن غيرها. وفي الحالة الثانية يتم إغفال كلي لمنفعتها الخاصة، وطبيعتها الخاصة ونمط وجودها، لأن مثل هذا العمل يعتبر فقط من ناحية أهميته كعامل خالق للقيمة، والسلعة كشكل موضوعي له. وبهذه الصفة فإنه عمل غير متمايز. عمل عام، ضروري اجتماعياً، لا مبالٍ تماماً بأي محتوى خاص. ولهذا السبب بالذات، فانه حتى في أكثر أشكاله استقلالاً، كالنقود أو السعر، يحدد بطريقة مشتركة مع سائر السلع، ولا يتميز عن غيره إلاّ كميّاً. في مظهره الأول يتجلى العمل إذن، بهيئة قيمة – استعمالية معينة للسلعة، وجودها المعيّن كشيء، وفي مظهره الثاني يتجلى بهيئة نقود، إما كنقود بالمعنى الحقيقي أو كمجرد حساب لسعر السلعة. في الحالة الأولى، نحن معنيّون حصراً بنوعية العمل، وفي الثانية بكمية العمل. في الحالة الأولى يجري التعبير عن مختلف أنماط العمل الملموس في تقسيم العمل، أما في الثانية فلا نجد سوى تعبير بلغة النقود لا تمايز فيه. هذا التمايز يواجهنا، داخل عملية الإنتاج مواجهة فعّالة، فلا نعود نحن من نضعه، بل نراه ينخلق في عملية الإنتاج ذاتها، فالتمايز بين العمل المتشيئ والعمل الحي يتجلّى في عملية العمل الفعلية. ويضع ماركس تمايزاً شفافاً بين هذين النوعين من العمل، فالأول متشيئ أصلاً في قيم استعمالية، أما الثاني فهو في مجرى عملية التشيّؤ على هذا النحو. الأول في الماضي والثاني في الحاضر، الأول ميت والثاني حي، وعلى هذا فان الأمر لا يعدو- في الاقتصاد الرأسمالي- إلاّ مبادلة عمل متشيئ لقاء عمل حي، مبادلة عمل متشيئ أقل، لقاء عمل حي أكثر.
يتعمق ماركس في تحليل ظاهرة التشيّؤ وأبعادها ونتائجها في سياق نظام العمل في الاقتصاد الرأسمالي. ولعل أبرز ما يركز عليه هو ربط قيمة العمل كشيء بالإنسان العامل. ونتائج ذلك في ظهور سلطة جديدة تمارس فعلها على الإنسان نفسه، فالإنسان لا يستطيع أن يعيش إلاّ بأن ينتج وسائل معيشته الخاصة، ولا يمكن له أن ينتجها إلاّ إذا كان يمتلك وسائل الإنتاج. أي الشروط المادية للعمل. العامل المتجرد من وسائل الإنتاج محروم من وسائل المعيشة أصلاً، مثلما أن الإنسان المحروم من وسائل المعيشة، ليس في وضع يؤهله لخلق وسائل إنتاج، وهكذا، فحتى في العملية الأولى فإن ما يسم النقود والسلع بميسم رأسمال، منذ البداية، حتى قبل أن يتم تحويلها فعلياً إلى رأسمال، ليس طبيعتها النقدية، ولا طبيعتها السلعية، ولا القيمة - الاستعمالية المادية لهذه السلع كوسائل إنتاج أو وسائل معيشة، بل الظرف الذي يجعل هذه النقود وهذه السلعة، وسائل الإنتاج هذه، ووسائل المعيشة هذه، تواجه قدرة العمل المحرومة من كل ثروة مادية، كقوى ذاتية مستقلة، مجسدة كأشخاص في أهاب مالكيها. الشروط الموضوعية الضرورية لتحقيق العمل مغرَّبة عن العامل، وتتجلى كأصنام حُبيت بإرادة وروح من عندها. وباختصار تظهر السلع كشارٍ للأشخاص، فشاري قدرة-العمل ليس سوى تجسيد في صورة شخص للعمل المتشيئ الذي يكرّس جزءاً من نفسه إلى العامل في شكل وسائل معيشة كيما يلحق قدرة العمل الحي لصالح الجزء المتبقي منه، ويُبقي نفسه سليماً، بل حتى أن ينمو متجاوزاً حجمه الأصلي بفضل هذا الإلحاق، ليس العامل هو مَنْ يشتري وسائل الإنتاج والمعيشة، بل وسائل المعيشة هي مَنْ يشتري العامل بغية دمجه في وسائل الإنتاج.

يقوم ماركس بواسطة مفهوم «التشيّؤ» بنقد الاقتصاد الرأسمالي، لأن الهدف الأخير من العلاقات الإنتاجية فيه، هو ليس إلا بقاء على نمط إنساني متكافئ من العلاقات بين الأفراد، إنما اختلال توازن تلك العلاقة، فالسلعة تتخلى عن أن تظل تعبيراً عن فعل إنساني بُذل لسدِّ حاجة اجتماعية، إنما أخذت قيمتها في ذلك الاقتصاد، ليس من استعمالها، إنما مما بُذل فيها من وقت، بمعنى أنّ معدل زمن إنتاج السلع أصبح هو المعيار لتقدير قيمتها، وليس عملية استعمالها، وما أن يتراكم إنتاج السلع طبقاً لهذا التصور والغاية، إلاّ ويصبح التبادل السلعي تبادل جهود أخذت طابع أشياء، وعلى هذا لا يبقى الجهد الإنساني مشروطاً ببعده الأخلاقي والإنساني، إنما يتشكّل بصورة سلعة، تمارس بدورها سلطة على المنتجين أنفسهم، لأنها انقطعت أن تكون في هذه المرحلة جهداً بشرياً فحالتها الجديدة إنما هي أشياء كانت من قبل جهداً، وبما أن قيمة الإنسان هي عمله، فإن تحويل عمله إلى شيء، معناه في التحليل الأخير تحويله ذاته إلى شيء قابل للتداول كسلعة بعد أن سبقه جهده في التشكّل بصورة سلعة. وماركس الذي يرى أن رأس المال هو نتيجة العمل الإنساني، يقرر أنه يصبح هو المتحكم في الإنسان وفي العامل وفي رأس المال النقدي على السواء، حيث يعود منطق «رأس المال» هو قانون المجتمع المتعالي عليه، والمتحكّم فيه مع أنه من خلق وإبداع الإنسان، وبما أنّ العمل الإنساني ينحلّ في صورة شيء هو رأس المال النقدي والصناعي، كذلك الإنسان والعلاقات الإنسانية، بل الشعور والأحاسيس، كل ذلك يصطبغ بصبغة الشيء المادي المتحجّر، ويعمُّ هذا التشيّؤ كل المجتمع من قاعدته المادية إلى أعلى تعابيره الفنية، حتى الأدب والموسيقى والرسم، تصوّر الإنسان وعواطف الإنسان في صورة أشياء صلبة.

يعتبر الاقتصاد البرجوازي في القرن التاسع عشر هو المرجعية التي زوّدت ماركس بتحليلاته الخاصة بظاهرة التشيّؤ. وإذا صحت تلك التحليلات فإنّ أثرها في المجتمع الغربي في القرن العشرين سيكون كبيراً، فبسبب زيادة الإنتاج، وثبات المؤسسات الاقتصادية، والتوسع الاقتصادي القائم على فكرة الربح، وإمكانات الاستثمار والإنتاج والتسويق والتبادل، أصبحت السلعة بوصفها عملاً، أحد أهم العناصر المتحكمة بالفرد الذي ينتجها والذي يستهلكها، فلا غرابة أن تظهر المجتمعات الاستهلاكية، وتتضاعف نسبة الحاجات، ويندرج كثير من القطاعات الصناعية في حلقة لانهائية من الإنتاج، وخلق رغبات لاستهلاك ذلك الإنتاج، ثم إشباع تلك الحاجات. وإعطاء قيمة للعمل بخضوعه لهذه القاعدة الجديدة: إشباع الحاجات، إذ لم يعد ثمة معيار لتحديد معنى الحاجة على وجه الدقة. وبإزاء إنتاج واسع يتجه إلى هذا الهدف الغامض، تلعب الدعاية دوراً كبيراً في استحداث حاجات بناء على رغبات استهلاكية. وهنا يحصل خلط كبير في القيم الحقيقية للسلع، بسبب غياب تحديد دقيق لمفهوم الحاجة، فكل ما ينتج يكتسب إذن معنى السلعة التي هي في الأصل جهد إنساني، فتعوّم السلع والرغبات في علاقة إنتاج-استهلاك، دون مراعاة عقلية لقيم الإنتاج من ناحية إنسانية، ولا تحديد لدوافع الاستهلاك استناداً إلى حاجات حقيقية. ومن الطبيعي أنّ كل هذا سيؤدي إلى ظهور علاقات جديدة بين السلعة ومستهلكها، علاقة لا تخضع لشرعية معينة، لأن مقومات الشرعية، سواء تلك المتصلة بغاية الإنتاج أو هدف الاستهلاك غير واضحة، إن لم تكن غائبة في معظم الأحيان، وكلما اطّرد تطور الإنتاج ازدادت العلاقة التباساً بين هذين المكونين، الأمر الذي يؤدي إلى ظهور «وعي استهلاكي» سلبي، لا يعنى أبداً بالإنتاج كفعل إنساني، إنما يعنى به كسلعة، كشيء، يشبع رغبة حتى ولو لم تكن مشروعة. تصبح الأشياء هي العنصر الفاعل في تحديد علاقات الأفراد؛ لأن الأفراد في جانب كبير منهم أصبحوا أشياء، فتداخلت المفاهيم بعضها في بعض. الأمر الذي يؤدي إلى طمس قيمة الإنسان الحقيقية.

[email protected]