في الثالث عشر من نيسان 2005 يكون قد انقضى على فاجعة لبنان وفقدانها لواحد من أبطال السلم والعمل الوطني في تاريخه الطويل الثري شهران أمضاهما الشعب اللبناني حزناً وانتفاضاً امتزجا ليشكلا ثورة في عالم الاحتجاج السلمي والتمرد على سياسات الاستهتار بحرية الشعب وشفافية المجتمع وأمن الوطن ومكانته الحضارية.
وفي هذا اليوم تكون ثلاثون عاماً قد انقضت عل اندلاع حرب الميليشيات في لبنان وهي الحرب التي لن ينسى التاريخ خصوصية عواملها والبيئة التي أحاطت بها وكذلك مبلغ الدمار الحضاري والبشري الذي خلفته بشاعة المعارك التي أراد الجيل اللبناني الشاب أن يسميها (معارك الآخرين على أرضنا).
وفي هذا اليوم أيضاً يذكر تاريخ لبنان وبلاد الشام حدثاً لايقل فظاعة عن جريمة الرابع عشر من شباط ، قطع على لبنان العريق وشعبه الطموح مسيرة حضارية صاعدة ومتميزة، عندما أعدم السفاح المراهق السلطان مراد الرابع خان، أميرَ لبنان وبطلها فخر الدين المعني الكبير الثاني وقام بتدمير ما بناه الشعب اللبناني الحي برعاية فخر الدين وحكمته.
370 عاماً مرت على هذا اليوم الأسود الذي أعقبته أيام وحقب قاتمة سجل فيها سلاطين الاحتلال العثماني بحق شعوب بلاد الشام أرقاماً قياسية من القمع والإرهاب والاضطهاد والاستعباد والقتل الجماعي وتصفية الوطنيين ونهب ثروات الأهالي وسـَوق شبابهم قسراً إلى الحروب القذرة والإمعان في إذلال المواطنين وحرمانهم من الحياة الحرة الكريمة وإبعادهم عن الثقافة الوطنية بفرض "التركية" لغة وثقافة وأسلوب معيشة. ولولا صمود وبسالة وكفاح المجموعات الوطنية هنا وهناك لقضى الأتراك نهائياً على أية علاقة لأجدادنا بالحضارة والعلم والمعرفة والتطلع إلى الحرية.
أدت هذه الظروف السيئة والاضطهاد الذي مارسه العثمانيون منذ بداية عهدهم ضد القرى والبلدات والمدن السورية واللبنانية إلى إبعاد الأمير فخر الدين عن وطنه فمكث في توسكانيا بإيطاليا قرابة الخمس سنوات، كانت عيناه طوالـَها مشدودتين إلى وطنه كما قلبـُه الكسير يحنُّ إلى العودة ليجند أبناء بلده في معارك الدفاع عن الوطن وبنائه وتطوير مجتمعه استئنافاً لحضارات راقية ازدهرت خلالها هذه المنطقة وعلى مر عشرات القرون وورث أبناؤها العلم والأدب والمعرفة والفن وأساليب التعامل الذكي والمبدع مع الطبيعة والأشياء وتنظيم العلاقات في المجتمع.
وعاد فخر الدين من منفاه، رغم ما وفرته له إقامته في إيطاليا من مغريات كبيرة، فوجد لبنان مرحباً وصدور اللبنانيين مفتوحة وقلوبهم فرحة وسواعدهم جاهزة للانطلاق بمشروعه (لبنان الكبير).
وبحنكته ومرونته وانفتاحه على الآخرين وعدله وحضوره بين الناس ومن أجلهم مهما كانت انتماءاتهم ومن أجل الوطن كله استطاع الأمير حشد أبناء الشعب بطاقاتهم وعقولهم وتعاضدهم فحلَّ السلم بين المتخاصمين وشاع العمل الحثيث والقدرة العالية على الإنتاج السريع بجميع أشكاله وانتشر العلم والفن وعمَّ الرخاء فتألق لبنان وازدهر مجتمعه الذي أضحت عيون الناس في البلدان المجاورة وفي تركيا وبلدان أوروبا تتطلع إليه بإعجاب وربما بغيرة وحسد.
كالعادة، لم يرق للسلطان أن يرى لبنان وقد بـُعثت فيه الحياة من جديد وأشاد أهله لأنفسهم البيوت والطرقات والجسور فوق الأنهار والمدارس ومشاغل النسيج والحرير والموانىء وأساطيل السفن التجارية والأسواق والمقاهي التي تحولت إلى منابر للثقافة والفن تعكس سعادة الناس وحبـَّهم لوطنهم ولأميرهم القوي المتواضع النزيه .. وزاد من حجم الخطر على لبنان طمع الحاسدين وحقد ضعفاء النفوس والوصوليين والأنانيون والفوقيون فبدأت الوشايات والدسائس والمكائد وبدأ تحريض الولاة وبعض رموز العائلات تحت إشراف "الباب العالي" كما انتشرت الشائعات المغرضة وكثر الجواسيس وازداد القمع والتهديد بـ (سيف السلطنة الطويل) وقد قاوم فخر الدين والأهالي من كافة أطراف لبنان والسناجق التابعة تلك الأعمال بالمسايرة حيناً وبالمقاومة العسكرية حيناً آخر فكان اللبنانيون يحملون سيوفهم بيد وفؤوسهم بالأخرى وكلهم عزيمة على الدفاع عما بنوه مهما كان الثمن .. وكان النصر حليف الوطن مرات ومرات ..
يذكر التاريخ لفخر الدين واحدة من أشهر معارك الشرف في سبيل حرية الوطن انتصر فيها مع حلفائه وداعميه من ذوي الامتدادات الشعبية على جحافل المعتدين الذين جاؤوه من مصر بقيادة الوالي مصطفى باشا في خريف عام 1622، وهي معركة عنجر. وعندما هـُزم المعتدي الطامع المدعوم من الباب العالي للسلطنة الحاقدة وتفرقت عناصره هرباً وقبض الأمير على الوالي، أخلى سبيله تلبية لرغبة والي الشام (أحمد بن طراباي) الذي كان يخفي طمعه بضم لبنان إلى ولاية دمشق، التي عينه عليها ظلماً ونكاية السلطان مراد والذي كان ينسق سراً مع الوالي مصطفى باشا للقضاء التام على فخر الدين. وقد أثبت فخر الدين بإخلائه سبيل الأسير مصطفى باشا أخلاقية عالية تميز بها ومن حوله مثبتين حسن نوايا اللبنانيين في التعامل مع الآخرين بأمن وسلام. ولكن هذا العمل لم يثن مصطفى باشا وأمثاله وصولاً إلى مراد الرابع عن تكرار المحاولة والانقضاض، فغدر والي دمشق بفخر الدين، وجند مئات الآلاف من المساقين قسراً لمحاربة لبنان الذي لم يستطع آلاف جنوده مواجهة الجيش الانكشاري الهمجي الجرار بأفراده الدمويين وأعتدته المدمرة. وعندما وجد الأمير نفسه في مأزق تصور الأمر وكأنه خيار بين الحرب التي ستدمر ما بناه شعبه والتنازل عن ولايته للصدر الأعظم فاختار الثانية تجنباً لمآسي أبناء بلده ولو كلفه هذا حياته.
وحوصر فخر الدين في أحد كهوف جزين التي اختبأ فيها مع نخبة من مساعديه وحراسه قرابة العشرين شهراً إلى أن قـُبض عليه وسيق إلى الأستانة حيث أعدم دون رحمة وبطريقة بشعة.
بتضحية فخر الدين بنفسه سطـَّر ملحمة للنضال الوطني مازال شعب لبنان المكافح يفتخر بها حتى الآن. هاهما الأخوان عاصي ومنصور الرحباني يكتبان ويلحنان هذه الملحمة في عام 1966 ويقدمانها للجمهور واحدة من أروع مسرحياتهما الغنائية لكي تبقى هذه السيرة حاضرة في ذاكرة الناس في لبنان وبلاد الشام رمزاً للعمل والنضال من أجل الاستقلال والتقدم.
وهاهو رفيق الحريري، الذي كانت ظروف صعبة قد اضطرته أن يغادر بلدته وهو في ريعان شبابه، يعود إلى لبنان قامة تحمل للوطن تباشير الخير وجعبة مليئة بالأفكار وببرامج طموحة وجريئة، مكرراً فخر الدين العائد من منفاه في (يوم الرجوع)، فيـَلـُمُّ شمل اللبنانيين حول علمهم وقضاياهم ويرمـِّم بنية المجتمع الذي دمرته مقامرات ملوك الطوائف وأصحاب النفوذ فتعود شمس لبنان إلى إشراقتها وزهور لبنان إلى تفتحها وتعود لشبيبة لبنان حيويتهم وابتسامة وجوههم وتفاؤل عيونهم وهم ينظرون إلى مستقبل لبنان من خلال برامج (المستقبل) الحريرية الواعدة ..
وكما تألقت خطط فخر الدين الذكية وبرامجه الطموحة التي نهضت بلبنان أرضاً وبحراً وزراعة وصناعة وتجارة وعلماً وفناً وأدباً وقيماً وطنية وروحاً كفاحية واستعداداً بطولياً لصون البلد وحماية إنجازات شعبه، فانتشرت أخبار تجربة اللبنانيين وذاع صيت (أمير البر) فأصبح النموذج الذي بدأ الناس مقارنة وُلاتـَهم به بين الحسرة والأمل، كذلك كانت خطط رجل المستقبل الشيخ رفيق الحريري بعد ثلاثة قرون ونصف وكأنما أراد لبنان التاريخي أن يعيد، وهو يقلب صفحات تراثه الغني، شيئاً من أمجاد الماضي ودروسه.
نهض لبنان، الذي دمرت مرافقـَه وبنيتـَه المادية حربُ الغرباء على أرضه، برعاية الشاب الوطني الذكي الطموح رفيق الحريري واستعاد المجتمع عافيته جزئياً وأبناؤه يشدُّون همـَّة بعضهم البعض والشيخ أبو بهاء معهم في ورش عملهم، في الطرقات والمدارس والجامعات، في المباني والمزارع واستديوهات الفن ومراكز الأخبار ومنابر السياسة وفي لقاءات عربية ودولية لإعادة لبنان إلى مكانته العالية في المحافل ولاستعادة دوره السياسي والاقتصادي والعلمي والأدبي ... وكان النجاح حليف رفيق وحليف اللبنانيين وهم ينفذون خطط النهوض المرسومة بدقة ومسايرة وحسب جداول أولويات حتى ولو تمت بعض الأمور على حساب حقوق مشروعة لهم تطلبت الحنكة والحكمة الصبر لاستردادها.
تماماً كما اضطرت أولويات فخر الدين اتباع مبدأ المسايرة وشراء ضمانة السلام بأجزاء من غلال الشعب اللبناني نهبتها عصابات الباب العالي وولاة السلطنة العثمانية .. إذ وجد فخر الدين بأن مقايضة نوازع الشر وحب السيطرة وبسط النفوذ لدى العثمانيين بالسلام والطمأنينة والحرية مقابل (أتاوات) و (براطيل) فيه عقلانية وحكمة توفر للبنان واللبنانيين مقومات البقاء والاستمرار دون أن ينال ذلك من كرامتهم وعزتهم وابتسالهم في الدفاع عن وطنهم متى اقتضى الأمر.
ولم يكن ذلك كافياً!!
فحسدُ ولاة مصر والشام وبغداد والباب العالي في استنبول وهم يراقبون لبنان وحضارته تزدهر أمام أعين الجميع حرض لديهم الجشع والخوف من قوة هذا البلد الخارج عن سيطرة ونفوذ السلطنة .. فكان لابد من القضاء على الأمير وتدمير ما فعله وكسر شوكة أهالي الإمارة المتمردة. ولأن السيطرة للأشرار طالما انعدمت عندهم الأسس الإنسانية في التعامل ولأن السلطنة كانت تجند الناس بالقوة حتى غدوا محاربين تحت إمرتهم أويقتلون فقد تمكن السلطان الأحمق وولاته المأجورون المنتفعون من شن حرب طاحنة على لبنان.
وفخر الدين ليس صدام حسين الذي أقسم بأنه إن انتـُزع منه لقب (القائد الخالد) لن يترك حجراً فوق حجر في العراق .. فخر الدين، الابن البار للبنان وهو يواجه وحشية العثمانيين متحاشياً تمكينهم من تدمير منجزات النهضة الوطنية، قايض نفسه، للمرة الثانية، بصون تلك المنجزات فاقتيد إلى استنبول وكانت النتيجة أن مات مصلوباً وعيونه تتطلع إلى مستقبل بلده وشعبه السعيد.
لبنان رفيق الحريري الذي أغاظ بنهضته وتكاتف شبيبته من الجيل الجديد الرافض لمباديء البازار السياسي والطائفي والمتطلع نحو الحرية والتطوير هو نفسه لبنان فخر الدين .. ولئن تغيرت الظروف من حيث الشكل والأدوات فإنها لم تتغير من حيث الجوهر .. فالعيون الشريرة التي رأت لبنان وقد سار بخطوات ثابتة في اتجاه التخلص من آثار الحرب بكافة أشكالها لم يرق لها هذا وأصحابها ملوكُ مزارع الفساد وبيئات القلق والتوتر وقد حصدوا مما خلقوه من فتن واقتتال ومما مارسوه على الناس من قمع وظلم ثروات لم يسألهم أحد عن حقهم بتكديسها!
كيف لهؤلاء أن يتركوا لبنان وشأنه وهو يتملص من قبضتهم؟
كيف لهم أن يرضوا بخلع لبنان لهم، مجتمعاً واقتصاداً وإرادة سياسية، وهم فيه المتحكمون بالمجتمع وهم أباطرة الاقتصاد وتجار السياسة ؟
كيف سيقبلون، وهم أبطال المعارك الدموية والتكتيكات وسياسات التحريض وخلق الفتن، بالاستسلام أمام إرادة الشعب الثائر من أجل كرامة لبنان ومستقبله؟
المعركة معركة وجود بالنسبة لملوك الطائفية والعنف ولمحترفي سياسات الاستهتار بالشعب .. لملوك النفاق والتآمر والتفريط بأي شيء ولو كان دم الأبرياء وأمنهم حفاظاً على مصالحهم ونفوذهم! ولأنهم لا يرون الحياة إلا غابة تتصارع فيها الوحوش الكاسرة فقد صور هؤلاء أنفسهم يجابهون (أفعى) لا بد من القضاء على (رأسها) !! فماهو مستوى مسؤولين يصفون الشعب الطموح المحب لوطنه وحريته بالأفعى ويصورون أبطالاً طليعيين كريمي النفس بـ (رأس الأفعى)!!
ولأن بيد الطغاة القدرة على التحكم بأدوات الطغيان كون خصمهم المسالم لا يحمل سلاحاً غير لسانه وحنجرته وضمير حي وإرادة قوية .. لأن الأمر كذلك فقد سهلت الجريمة، وما كانت الجريمة بطولة قط!
هل قيل يوماً ما أن العمران بسهولة التخريب ؟ كلا ..
هل ادعى أحد بأن السلام أسهل من الحرب .. أبداً.
ولكن لجموع الشبيبة المحشدة في ساحة الحرية لأجل لبنان ومن أجل السلام والنهضة عيوناً تقاوم مخارز الأشرار لأنها قوَّمت الوطنية على الطائفية .. فعلم لبنان بأرزته الخضراء وشعار "الحقيقة" المقرون بـ "المستقبل" وسواعد شبيبة لبنان الثائر الصامد أقوى من سلاح الضعفاء المعزولين عن أي دعم شعبي.
مات من صلب سبارتاكوس ودثــَره النسيان وبقي سبارتاكوس رمزاً لكفاح المستعبدين ..
مات يسوع الناصري فحمل صليبه من بعده مليارات الناس رمزاً لعشق الحرية والعدالة والسلام والفرح ..
مات فخر الدين ولم يمت لبنان الفينيق ..
ومات رفيق الحريري فداءً لطموح شعبه وإصراره على الحرية فتحول إلى أيقونة على صدر كل لبناني .. لا بل كل عربي يعزُّ عليه لبنان الجميل الغني القوي .. لا بل في قلب كل محب لوطنه وللعمل والحرية والعدالة والتمدن.
لئن كانت لنا في هذه التواريخ السوداء ذكريات مؤلمة فعزاؤنا أن الشبيبة الثائرة على الظلم والتخلف والرجعية والاستبداد تحمل في صدورها قلوباً متفائلة هي أغلى ما يمتلك الوطن.