تساءل الكثير عما جرى لسعدي يوسف خلال الآونة الأخيرة؟ لِمَ أخذ يسلك سلوكا عدائيا سمجا مما جعل لغته تتحول إلى مجرد شعارات؟ هل لأسباب طائفية كتبَ مراث لإرهابيي الفلوجة. أم خوفا من أن يفقد جمهوره العربي لو أعلن عن موقف صريح ضد الإرهاب والاحتلال معا. ماذا حصل؟ هل جُنَّ؟ ربما.. عله يدخل تاريخ الشعر العربي الحديث كشاعر جُن "في آخر حياته"، على طريقة هولدرلن (مع الاعتذار لهولدرلن الذي ابدع شعرا في جنونه ايضا)، بما ان جلّ عمله الشعري، كما يبدو، ليس له قيمة التخليد المرادة! لابد أن شيئا آخر وراء كل هذا. لننظر في جارور حياته، علَّ بعض الوقائع يساعدنا على الانتهاء منه كشاعر وكـ"سياسي"!

لنر:
أولا: لو
وقف النظام السوري مع حرب إسقاط نظام صدام (2003)، لكان سعدي يوسف في مقدمة المادحين لبوش ولجيشه... وطز في العراق!

ثمة واقعة تؤكد هذا الاستنتاج: عندما شنت أمريكا حربها التدميرية على العراق عام 1991، كتب سعدي يوسف نصوصا ووقف في كل اجتماع ومنتدى يدافع عن هذه الحرب التي لم يكن لها غرض سوى تدمير العراق وليس تحريره من النظام الديكتاتوري. إذ ما إن أخذت الجماهير العراقية، خصوصا في جنوب العراق، تنتفض ضد النظام، حتى أعلن بوش الأب نهاية الحرب، مانحا بذلك الفرصة لصدام حسين ليخنق الانتفاضة وليذبح عناصرها ويشتت أهلها...
لماذا وقف سعدي يوسف مع تلك الحرب التدميرية ولم يقف مع هذه التحريرية: بكل بساطة لأن النظام السوري برئاسة الأسد الأب لم يؤيد حرب تدمير العراق فقط، بل شارك فيها.هل شعر سعدي يوسف بأن اللحظة ليست مناسبة أن يزور فيها دمشق؟كيف سنفهم زيارته قبل أيام إلى دمشق: مجرد توقيع كتابه الجديد، اهتماما مفاجئا بتعريف الأدب السوري إلى الانجليز...أم، وهنا بيت القصيد، تعبيرا عن ولاء ما... الجواب في قلب الشاعر!

***

ثانيا: هناك أيضا سبب شعري في وقوفه ضد حرب إسقاط نظام صدام، إسقاط كل المعطيات التي بفضلها يوجد الشعراء الدجالون. فسعدي ترعبه الحرية التي يريد أن يتمتع بها الشاعر العراقي الجديد. وكل خروج على الطاعة الشعرية التقليدية، هو مسمار آخر في نعش سعدي يوسف الشعري. اليكم هذا المثل من ماض بعيد؛ ماض كان مسؤولا عما آل إليه العراق:
وجهت مجلة "الأقلام" العراقية (1972) سؤالا إلى عدد من الشعراء والكتاب، حول التأميم ودور الأدب في المعركة، وكان سعدي يوسف من بين الذين أجابوا على هذا السؤال. وبغض النظر عن أن هذا التأميم نفسه لم يكن، في قرارة النظام البعثي، سوى محاولة لتهيئة ظروف مناسبة ليبسط نفوذه على كل مرافق الحياة، هاجم سعدي يوسف في جوابه، فترة 1964- 1968 التي إن قارناها مع عام 1963 حين ذهب آلاف الشيوعيين ضحية التعذيب والإهانة على يد منفذي هذا التأميم، لوجدناها فترة ليبرالية أستطاع الحزب الشيوعي نفسه لم شمله بفضلها؛ فترة انتعشت فيها حركة ليبرالية وشهدت ظهور جيل من البوهيميين والشعراء الطليعيين الذين باتت قصصهم مصدر الهام لمعظم شعراء العراق خلال الأربعين سنة الماضية.
في الحقيقة أن سعدي يوسف في جوابه هذا عبر عن رغبته في إلزام الشاعر بتقديم رسائل تهنئة وتبريكات للسلطة... وبالتالي لا يرى الشعر إلا في مظهره الأكثر مباشرة ودناءة، وهذا عين ما يُعاب عليه في أشعار "جيل الرواد". لنقتبس من جوابه المقطع التالي:
"ما زلت مقتنعا الاقتناع كله، بأن الأدب – الشعر بخاصة – تعرض لعملية تشويه في السنوات بين 1964 – 1968، وأن عملية التشويه هذه كادت تقضي على حيوية الشعر العراقي وتقاليده المشرفة وأن آثار العملية اصابت الشعر بفقر دم مزمن ستظل آثاره تعرقل التطور الشعري حتى السنوات العشر المقبلة. وقد وضحت المسألة بكل جلائها فيما اعقب التأميم من تحرك أدبي، إذ لم ينشر طيلة شهر كامل من 1 حزيران إلى تموز سوى سبع قصائد تتناول الحدث الكبير وابعاده وتتمتع بمستوى ابداعي معين، وكان أكثر من نصف هذه القصائد من جيل هو أقرب إلى جيل الرواد، أما القصائد الأخرى فلشعراء كان انتماؤهم عاصما لهم من المرور مر الكرام بمسألة التأميم". (انظر "الأقلام" العراقية العدد 4 عام 1972).

هكذا، بجرة قلم، يطالبسعدي يوسف الشعراءَ أن يكتبوا عن التأميم في الوقت الذي كان حزب البعث ينقل حصة كولبنكيان من النفط الى بنوك خارجية ليستعمله في يوم الشدة.
أما معارضة سعدي يوسف في جوابه لـ "لاءات" جيل الستينات غير المتواطئة، بـ"نعم" الواقعية الجدانوفية، فتنطوي هي أيضا على "النعم" المتواطئ الذي قدمته اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي في تحالفها المشؤوم مع السلطة البعثية المسجل في حوليات مآساة العراق بحروف من دم باسم "الجبهة الوطنية"؛ خندق الموت الواحد.
بعد عبارات المدح واللحس لإنجاز التأميم البعثي (الذي لم يكن سوى موقف من الشركات الاحتكارية للتخلي عن الملكية كما حصل قبل ذلك في إيران وغيرها من البلدان)، عبر سعدي يوسف عن خوف حقيقي لديه من جيل عراقي من الشعراء الذين يفهمون أن القول الشعري بجوهره ضد أي امتثال، سيتجاوزونه بالتأكيد. لقد تجاوزوه!
لنقتبس مقطعا آخر من جوابه حتى يفهم القارئ ما نعنيه:
"إن ما كرسته فترة التشويه، واعتبرته (مسلمات) خالدة يجب أن نعيد النظر فيه. لقد عد أحد الأصدقاء مجموعة من هذه المسلمات التي أضيف اليها أخرى: اللاغنائية/ اللامباشرة/ اللاخطابية/ اللانداء/ اللاتشبيه/ اللاطبيعة/ اللا روي/ اللا يومية/ اللاسياسية/ اللاانتماء/ اللا رواد/ اللا عمود/ اللا تراث/ اللا وعي/. ان القائمة سوف تمتد طويلة. وفي مواجهة كل (لا) أقول (نعم)... نعم: للغنائية، والمباشرة، والخطاب، والنداء، والتشبيه، والطبيعة، والروي، واليومية، والسياسية، والانتماء، والرواد، والعمود، والتراث، والوعي." (نفس المصدر).

واضح إذا أن سعدي يوسف يحارب الحداثة الشعرية عينها التي انتصرت في تطوير القصيدة العربية الحديثة: الحداثة التي تخلصت من المباشرة، الخطاب، التشبيه، السياسة، الانتماء، العمود، التراث.. الخ... وهي عين الحجج التي سيقضي عليها التحرير الكامل للعراق. وتجدر الملاحظة هنا إلى أن كلام سعدي يوسف لا يختلف قطعا عن لب الكلام الذي كان يتمنطق به الأدباء البعثيون ضد فترة 1964 – 1968 التي كانوا فيها مُعتبرين من قبل الجميع كقتلة وسفاحين وعملاء لأمريكا.
كم كان بودي أن أعثر على قصيدته التي نشرها في إحدى جرائد منتصف سبعينات القرن الماضي مطالبا فيها "قتل الطائر المهاجر"؛ قتل كل من فضل أن يبقى في المنفى كصوت ثالث خارج جبهة التحالف المشؤومة بين حزب البعث الحاكم والحزب الشيوعي العراقي الجاثم. علّ صديقا من أصدقائي في بغداد أن يعثر عليها وينشرها لكي يطلع عليها الجميع. خلاصة الأمر أن موقف سعدي يوسف السياسي منذ البدء لا ينفصل عن موقفه الشعري!

***
نعم هناك قصائد جميلة وبدايات شعرية متميزة لسعدي يوسف. لكن هذا الإنجاز تراءى، ثم اختفى، في أول عدد من مجلة يوسف الخال "شعر"، تحت عنوان "ميت في بلد السلامة".. وافتتح يوسف الخال مجلته بها لما تحمله من وعود بشعر تفعيلة جديد المضامين. لكن هذه الوعود بقيت مجرد شرارات قصائد مرئية في زمن ولى! فكاتبها ليس لديهاليوم، بعد عشرات السنين من ظهور شعراء جددقاموابتجاوزات شعرية عميقة، مآثرة واحدةيفتخر بها سوى أنه "الشيوعي الأخير"، شيوعي دونكيشوتي بالتأكيدلكنه لا يتوانى عن كتابة قصيدة إثر أخرى اطراء لكل منجل يقطع رؤساء الأبرياء ولكل مطرقة تهد بنية العراقيين التحتية!
سعدي يوسف الذي تصعلك طويلا على قارعة القضية الفلسطينية، لم يشعر بأية إهانة عندما مدحه محمود درويش المتأثر أولا وأخيرا بكل تفعيلته، بعبارات تنطوي على الجهل وسوء النية: "مهّد سعدي يوسف السبيل إلى قصيدة النثر"... لا أعرف أي سند ثقافي ومعرفي في تاريخ قصيدة النثر الذي جعله يلقي كلاما عابرا هكذا، وهو الذي كان مثل سعدي يوسف قبل سنوات من أشد أعداء قصيدة النثر!

***
لم أكتب هذا رغبة في إفساد وليمة مهرجان تطوان علىسعدي يوسف. على العكس أشعر بفرحة أنهم قرروا أخيرا دعوته إلى المغرب بصفته "كبيرا" في مستوىادونيس ومحمود درويش. لكن آمل أن يفرض سعدي يوسف نفسه كشاعر وليس حدّاء على إرهابيي العراق، آمل أن لا يعطي الفرصة لـ"مغاربة" (سواء شعراء أو جمهورا) أن يطلقوا العنان لمشاعر فاشستية عروبية ضد العراق، مشاعر تتباكى على الديكتاتورية التي كان يشحذ على أبوابها عدد من مثقفي وكتاب مغاربة هم عينهم الذين يحاربون شعراء الموجة الحديثة في المغرب الآن.