الناس في العالم العربي، الناس العاديون، مسرفون في الحديث عن السياسة، فضائيات وصحف، ثم منتديات الانترنت، «وما شر الثلاثة أم عمرو... !» ومع هذا السيلان في «الحكي» عن السياسة، إلا أنهم اقل الناس استيعابا لها، وأخذا بشرطها، لذلك تجد من يتحدث في قضايا ومشكلات ذات صفة سياسية، تخضع لقانون السياسة وتتحرك بمحركاتها، بلغة مجازية، أدبية كانت أو دينية.
نتعاطى مع مشكلات السياسة بكفوف العاطفة، فينقلب من جعلناه قديسا بالأمس الى شيطان اليوم ، ثم يصبح ملاكا ، ليعود كرة أخرى شيطانا أحمر العينين.
من أجل هذا «نؤسطر» الجميع، ونرى خصومنا أمساخا شريرة ومخلوقات سفلية لا تنتمي للجنس الإنساني، وأما من معنا ، فيصبح ملاكا وفارسا نقيا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ياسر عرفات مثلا، كان في لحظة ما من عمر منطقتنا الفوارة بالصراعات المعقدة، ثائرا ملهما من أجل القضية، ثم اصبح مجرد تاجر حروب في الأردن ولبنان في نظر البعض، ثم عاد متكسبا ومتمولا باسم هذه القضية، ليس إلا، ثم عاد خائنا بعد أوسلو، ولدى البعض الآخر بعد مدريد، ولدى آخرين أكثر طهورية وتشبثا بالحالة الرمزية، صار عدوا وعميلا بعد قبوله بحل في إطار حدود 67، وقبوله مبدأ الاعتراف بحق دولة إسرائيل في الوجود عام 1988، ثم عاد بطلا او «مسيحا» يحمل خشبته على ظهره، أثناء حصار رام الله، وهو يتحدث على ضوء الشموع بلغة يعرفها إنسان هذه المنطقة جيدا، تحدث عن الشهادة والتضحية، فخلق مرة أخرى في وادي الأساطير.
ياسر عرفات لاعب سياسي، أخطأ مرات، وأصاب مرات أخر، أخطأ وأصاب منظورا إليه بمنظار الكسب والخسارة المحضة، منظورا إليه بمقدار الأرباح التي تحققت للوصول الى غاية كل هذا الركض والسباق، هذه الغاية التي رسمتها منظمة التحرير الفلسطينية وسلمت بها ، وهي: إقامة دولة فلسطينية حقيقية ضمن حدود 67.
لم يكن ملاكا ولا شيطانا.
مناسبة هذا الكلام، المعروف، هي ما لاحظته من تصاعد المشاعر والحماسة لأبي عمار، الذي كان.. وكان.. في وسائل الاعلام والوعي المحلي. حقا، هل من السهل إعادة إنتاج الصورة في أذهان الناس؟
إن الصعود بالسياسيين من مستوى الانسان، الى سماء الرمز، بوجهيه الشيطاني والإلهي، يعود بنكسات خطيرة على العقل الجماعي، فعبد الناصر كان يجسد الرمزية، ونفخ هو وإعلامه في تلك الصورة بشكل أو بآخر، حتى صدق الجمهور، وأصيب بردة فعل هستيرية بعد هزيمة حزيران، وخرج يطالب «الآلهة» المرمزة بأن لا تتنحى وتترك المعبد الذي يهفون إليه، لم تكن تلك الهتافات التي خرجت مطالبة عبد الناصر بالبقاء وعدم التنحي، لمجرد الحرص على عبد الناصر، لقد كانت هتافات الذات للذات، عبد الناصر كان هو القناة الموصلة لهذا الهتاف.
نحن نثرثر كثيرا في السياسة ورجالاتها، لكن أفعالنا واستجاباتنا للسياسة خرساء. ولدينا غزارة في خلق الأساطير، فعرفات أسطورة، عبد الناصر أسطورة، بن لادن أسطورة، حسن نصر الله أسطورة، حافظ الأسد أسطورة، صدام حسين أسطورة، سمير جعجع هو «الحكيم»، القذافي هو نبي الصحراء... الخ.
لو أننا تعاملنا مع أساطيرنا تعاملا واقعيا، لوفرنا كثيرا من الخيبات... والثورات أيضا، ولجعلنا من هذه «المصاريف» العاطفية، ذخيرة في آلة الحركة الواقعية، لا نارا وقربانا في مذبح الآلهة الحاجبة للعقل.
والآن تعد العدة، فلسطينيا، لصناعة أسطورة أخرى، ورمز جديد، بعد غروب أسطورة عرفات من الواقع، وانتقالها الى مخزن رموزنا المتخم. او لنقل، ان مصنع العواطف العربية على وشك الانتهاء في هذه اللحظات، من إنتاج أسطورة اسمها: مروان برغوثي.
فزوجته، المحامية فدوى، تؤكد أنه سيرشح نفسه في انتخابات الرئاسة من داخل سجنه، وهي متأكدة من فوزه بهذه الانتخابات، لأنه هو «الرمز».
المشكلة أن الرمز، دائما، يسجن في زنزانة رمزيته، في حين أن حلبة الصراع تريد إنسانا خفيف الحركة، لا زنزانة رصاصية متحركة. تريد سياسيا يحدد بالضبط هدفه النهائي، ثم «يلعب» مختلف الألعاب التي تقربه لهذا الهدف، كما تريد شخصا حيا مستجيبا للمتغيرات التي لا تتوقف من حوله، لا تمثالا منحوتا يصدر نفس العبارات في مختلف الحالات، حرصا على ذائقة الجمهور الذي أدمن رضاعة هذا الكلام.
يحدثني صديق أنه طالب شخصا فاعلا جدا في أوساط الإسلاميين، أن يصدر بيانا واضحا يدافع فيه عن احد المثقفين الليبراليين، هذا المثقف لسوء حظه تم تحويله الى مصب لأنهار الكراهية الدينية ذات الصبغة الشعبية الغرائزية، بسبب رواياته، المشكلة أن هذا الرمز الإسلامي كان مقتنعا بأن الروائي مظلوم وقد حمل كلامه ما لا يحتمل. المهم أن صاحبي طالبه بان يجهر بقناعته هذه بسبب كثرة أتباعه والمستمعين إليه، ولأن كلمته مؤثرة، لعل هستيريا الكراهية الدينية الشعبية أن تخمد، فأجابه:«من اجل شعبيتي بالتحديد لن اتخذ موقفا واضحا، ان حجم التأثير الذي تمثله كلمتي يشكل عبئا على كاهلي، حركتي ثقيلة جدا بسبب ترميزي! تحرك أنت، فأنت أخف حمولة».
ويبدو لي هذا الكلام على قدر من الصحة في وصف الحال، لكن العظمة كل العظمة، والتميز الحقيقي، ليست في الإقامة الخالدة والتخشب أمام جمهور محدد، لأنك في هذه الحالة لا تعدو أن تكون مجرد «موظف» يؤدي مهام معينة كلفه بها الجمهور الديكتاتوري الغرائزي، العظمة ان تخلق جمهورك وتشكله لا أن يخلقك الجمهور ويشكلك !.
وهنا تكمن مأساة الثوريين الرموز، الذين يدركون في لحظة ما أن عمامة الثوري او عصابته، او بدلته الكاكية، لم تعد تفعل في ميدان السياسة والواقعية، فيحاول ان يصارح جمهوره بمعطيات الواقع الجديد، ووجوب الانسجام مع شروطه، حتى نتمكن من البقاء، لكنه يحجم أو يعطيهم ربع الحقائق، خوفا من إسقاط الجمهور له من عرش الرمز.
قليلون أمسكوا بالعنانين، وامتطوا ظهر الجوادين، جواد الثورة وجواد الدولة.
أذكر أنني شاهدت فيلما يحكي قصة ثورة الجمهوريين الآيرلنديين، على الإنكليز، بقيادة «مايكل كولينز»، الذي أبلى بلاء حسنا في قيادة الثوار، حتى نضجت الشروط وتحسنت الوضعية فدخل من باب السياسة وفاوض على دولة للآيرلنديين، وحصل عليها، لكن ذلك اعتبر من قبل رفاق البندقية، خيانة وطعنة للحلم، اضطر كولينز لمواجهتهم حتى لا تغرق السفينة بهم كلهم، فواجهوه... وقتلوه، لكن ما وصلوا إليه حينها، كان أقصى نقطة يمكن الوصول إليها من أحلام الآيرلنديين.
الجماهير تغوي القادة والرموز بخمرة الهتاف، وكثير من القادة يستزيد من هذه السكرة، وحينما تأتي الفكرة تكون كثير من الأشياء قد فاتت !
رجاء...لا ترمزوا مروان برغوثي حتى لا تخسروه، وتكتبوا فصلا آخر من هذه التراجيديا الممتدة.