الرباط من منتصر حمادة: هل حقا يمكن حصر الفقه السياسي الاسلامي الذي أنتجه الفقهاء عبر أربعة عشر قرنا ضمن خانة التحيز والتبرير تجاه السلطة. لماذا غلب علي الانتاج الفقهي الطابع التجريدي أكثر منه الواقعي. هل يصح وصف نفس الفقه بالتاريخية. ولماذا فشل فقهاء الفقه السياسي في بلورة أشكال إجرائية مؤسساتية تنظم واقع التدافعات السياسية. وقبل هذا التساؤل أو ذاك، هل توجد نظرية سياسية في الفقه الاسلامي. اسئلة ملحة كانت الاجابة عنها جوهر المحاضرة التي ألقاها الباحث مصطفي أمزيان، بمقر منتدي الحكمة للباحثين والمفكرين مؤخرا بالرباط.
مجرد الحديث عن الفقه السياسي بين النص والتاريخ ، يستحضر معه نوعا من العلاقة الجدلية، بين المصدر النصي والمصدر التاريخي لأصول الفقه السياسي. هذا ما أكده د. محمد أمزيان قبل أن يشير الي بعض المحددات المنهجية، في صيغة قيدين يحددان الدراسة: موضوعي ومنهجي.
بالنسبة للمحدد الموضوعي، فالمحاضرة/الدراسة تندرج ضمن مجال محدد، هو مجال الفقه السياسي في علاقته بالتاريخ، حيث تتم معالجة المشكلات السياسية كما عيشت في التاريخ، من الزاوية الفقهية. وبشكل المحدد المبرر الأساس الذي اعتمدته الدراسة في قطعها مع المقاربات الأخري، مما يفضي الي تجاهل الكثير من الدراسات المعاصرة المندرجة في العلوم السياسية. دون أن يعني ذلك أن يكون دراسة في الفقه النظري.
أما المحدد الثاني، فيتمثل في المقاربة التاريخية، وقد وُظفت هذه المقاربة بمعنيين. معني أول خاص بإبراز تاريخية الفقه الذي ولد في سياق معالجة مشكلات تاريخية معروفة. ومعني ثان يدور حول التأويل التاريخي للنص الفقهي. مع معرفة الحيثيات التي أنتجت النص الفقهي، وإلا سيكون مبهما، وهو كذلك بالنسبة للعديد من الباحثين الذين غيبوا الحيثيات التي أنتجت النص الفقهي. وقد شبه المحاضر هذه الحيثيات بما يسمي أسباب النزول عند دارسي القرآن. لولا أن الاشكال الأكبر في هذا الشق يكمن في أن الفقيه لم يكن يفصح دائما عن الخلفية التي تقف وراء اجتهاداته الفقهية، أو التفصيل في خطوط الفضاء السياسي الذي كان يتحرك فيه.
يبرر هذا القيد المنهجي، إغفال الدراسة للعديد من المسالة النظرية، علي مستوي المعالجة النظرية، ولكن الأهم بالنسبة للباحثين يكمن في أن نفس القيد يقدم ضمانة فعلية للالتزام بالقراءة الموضوعية للنص الفقهي بعيدا عن التحميل المفاهيمي أو الاسقاط الايديولوجي أو حتي الوقوع ضحية القهر المعرفي الذي يفرضه الأنموذج الحداثي في مقاربة الظاهرة السياسية. في إشارة واضحة لعشاق قراءة النص التراثي وفق منظومة علمية معاصرة لم يستحضرها الفقهي آنذاك، ولنا أن نتسائل مع محمد أمزيان عن مدي شرعية قراءة النص الفقهي وفق قراءة بنيوية مثلا!

منزلة النص من التنظير الفقهي

غني عن التذكير، أن النص يشكل الأصل الأول ضمن قائمة الأصول المعتمدة في الاستدلال الفقهي عموما، وحسب محمد أمزيان، ليس ثمة دليل علي أن الفقه السياسي يشكل استثناء. يعود سبب هذا العروج الي كون الدراسات العلمية الصادرة عن أكاديميين كبار ـ بصرف النظر عن خلفياتهم الفكرانية ـ تقول بعدم وجود نظرية في الفقه السياسي، أو ليس هناك نظرية سياسية في الفقه الاسلامي، بل إن المحاضر يرفع وتيرة التحدي عندما يشير صراحة الي أنه طالما لا يوجد نص في القرآن ولا في السنة، يؤسس للفعل السياسي، إذن لا توجد نظرية للفقه السياسي، وغاية ما هناك أحكام وأفكار لهذا الفقيه أو ذاك.
ينظر المحاضر في مقتضي هذه الدعوة وإلي أي حد تصح من الوجهة العلمية. حيث يفتتح رفع التحدي بالاشارة الي أن غياب النصوص علي مستوي تحديد الأشكال الاجرائية التنظيمية باعتبارها متروكة للتقديرات الظرفية، قوبل من طرف آخر بحضور النص علي مستوي التأصيل للمبادئ المنظمة للممارسة السياسية، وهذا ما لا يقبل الجدال. ويبقي دور الفقيه دور المشرع، أن يؤصل التنزيل والتكييف وفق معطي الزمان والمكان، انطلاقا مثلا من ليونة النص الشرعي، لأنه، كنص مبدئي قابل للتنزيل والنص لحكمة عند المشرع، لم يحبس الفقه والتجربة السياسية في قوالب جامدة. وحيث ما تم العمل بهذه المبادئ المنظمة، تكون الجماعة القائمة قد ضمنت شرعية أدائها السياسي، لأنها تعتمد علي النص المنزل من جهة، واستمرارية هيمنة الشريعة علي الفعل السياسي من جهة أخري. وإذا حُفظ هذا المقصد، تحتفظ الشريعة بحقها في تكييف هذه المضامين وتبيئتها باختيار الأشكال التنظيمية المناسبة.

مجالات تنزيل النص

كان مجال الشرعية، أول مجالات تنزيل النص التي تطرق إليها المحاضر، متسائلا في البداية عن كيفية ضمان شرعية الفعل السياسي انطلاقا من النص.
ثمة نصوص توجيهية في القرآن والسنة، تحدد معايير السلطة، وليس التراث الفقهي الوارد في هذا المجال، سوي استثمار مباشر للنص المنزل في هذا السياق، واستثمار لنموذج التجربة الراشدية علي اعتبار أن هذه الأخيرة تجسد التنزيل الفعلي للنص المقدس والتي جسدت تاريخيا وواقعيا مجموعة من القيم التي بشرت بها الدعوة الاسلامية في مجال الممارسة السياسية.
هكذا تسلح الفقهاء بالنصوص الشرعة لتحديد المعايير المميزة للسلطة العادلة و السلطة الجائرة ، وهي اصطلاحات فقهية خاصة بتحديد شروط الاستحقاق للمنصب السياسي، والتزام العمل بمقتضي الشوري في تناول السلطة ورد الأمانات، والوفاء لحقوق الرعية.
هناك أيضا مجال العلاقة بين الراعي والرعية، فبخصوص الأحكام التي وضعها الفقهاء، فقد ظلت أسيرة لسلطة النص، وخص بالذكر نصوص أحاديث الطاعة (وحدة الجماعة، أبواب الفتن التي أسست للممارسة السياسية الشرعية) حيث الغني الفقهي الملموس، وبالتحديد في دائرة الحديث، حيث التنبيه الصريح بشروط الاستحقاق، التي وضعها الفقهاء لتحديد التأصيل السياسي للمنصب، بدليل أن قسما كبيرا منها يعود للنص (مثل شرط الذكورة أو القرشية، أو ولاية الصغير..) ليبقي حضور النص حضورا يشكل عمق الفقه السياسي، وعلي مستويات كثيرة.
بعد ذلك عرج أمزيان علي ما وصفه بـ المرتكز التاريخي للفقه السياسي ، بمعني أن التاريخ شكل ركيزة أساسية اعتمدها الفقهاء لإصدار نظرية في السياسة، ويقصد بالتاريخ هنا، التجربة السياسية النموذج التي عاشها الصحابة، أو المسمي باللغة الدستورية المعاصرة بالسوابق التاريخية. ومعلوم أن هذه التجربة تعرضت باستمرار للقراءة والتأمل من قبل الفقهاء، ثم توظيفها باعتبارها سوابق تاريخية حصل بشأنها الاجماع، الذي أصبح بدوره ملزما لأجيال الفقهاء اللاحقين، والمثير، أنه بالرغم من كون الدولة الاسلامية تعود الي مرحلة النبوة إلا أننا لا نجد استدلاليا بمرحلة النبوة في مرحلة المدينة! وإنما نجد اعتماد تجربة الخلفاء الراشدين! فلماذا إذن؟
يعود السبب حسب المحاضر الي كون النبي لم يكن معينا من قبل الجماعة، ولأن السلطة لم تكن خاضعة لآليات التداول السياسي، ولم تكن الجماعة فاعلة في هذا السياق بقدر ما كانت متلقية وكان الرسول يتصرف بوصفه نبيا مرسلا وبوصفه إماما. وبالطبع، مباشرة بعد موت النبي، سنعرج علي مؤتمر السقيفة، ليتم تأسيس تجربة تاريخية تمخضت عنها اختيارات ثلاثة، حصل بشأنها الاجماع، وتلقفها العقل الفقهي. إن الأصل المؤسس فعلا، كان الاجماع، لأن الأصل القرآني كان مبادئ وتوجهات نظرية.
في معرض الرد علي مأزق إلزامية الاجماع التاريخي بالنسبة لنا نحن أبناء القرن العشرين، عرج المحاضر علي تهمة تاريخية الفقه السياسي ولهذا الحديث له ما يبرره، ما دامت العديد من الدوائر العلمية، وبخاصة التابعة أو الممثلة للتيار الاستشراقي، تقول بأن الفقه السياسي يبقي فقها نظريا مجردا، ولم يكن له أي ارتباط بالتاريخ، وهي أطروحة خطيرة تتهم الفقهاء بالتجريدية، أو بتعبير آخر، قلما اهتم الفقه بتنظيم الشأن السياسي للواقع. ربما بسبب تأمل المطولات الفقهية، حيث تجد الفقيه يتحدث مثلا عن الشرعية، دون أن تكون هناك شرعية سياسية، أو ممارسة الغلبة و الاكراه، أو بيعة الاكراه عوض البيعة الحرة التي يتحدث عنها الفقيه، أو الحديث عن طرق الاستخلاف الشرعية، مع أنها لم تمارس.
والحال أن الأمانة العلمية، تفرض التدقيق في مزالق مثل هذه الاتهامات التي تحتاج الي تفسير كثير. فهل حقا كان كل الفقه السياسي فقها تجريديا. وما مدي صحة هذا الاتهام/المقاربة. ولماذا فشل فقهاء الفقه السياسي في بلورة أشكال إجرائية مؤسساتية تنظم واقع التدافعات السياسية. ولماذا لم ننتج برلمانات أو غرفة أولي وثانية وغيرها من الأسئلة الحرجة.

نقد نقد الفقه السياسي

بخصوص تفسير ظاهرة الاجترار، يشير أمزيان الي أن الظاهرة لا يمكن تفسيرها بمعزل عن إشكالية الشرعية فقد غيبت الشرعية، فلم يعد هناك من يقول بالممارسة الشرعية، ونحن نعرف أن الثابت الذي تحكم في السلطة هو ثابت العصبية السياسية والحكم العشائري، وهذا تاريخنا، يضيف المحاضر، ولا ينبغي أن نخجل من وصفه كما هو. ولطالما ظلت الشرعية السياسية غائبة، فهذا الذي دفع بالفقيه لأن يذكر باستمرار علي أنه مبادئ منظمة ينبغي الالتزام بها، فيما يشبه التنبيه الموجهة للسلطة والتذكير الأمة بالوعي السياسي.
من جهة ثانية، يعج الفقه السياسي، بكتابات ونصوص فقهية، ومؤلفات سياسية ممتدة تعالج قضايا تاريخية وليست قضايا نظرية، وبالرغم من أن الكثير من هذه الأدبيات كانت محكومة بقدر كبير من الاجترار، إلا أن الكتابات الفقهية التأصيلية حققت الكثير من المصداقية، وعلي هذا الأساس، يظهر الفقه السياسي شكلين من أشكال الكتابة: شكل نظري (ظل يجتر نموذجا تاريخيا وهو نموذج الشرعية، كما تجسد في الخلافة الراشدة)، وشكل حسي (واقعي ظل يعالج المشكلات السياسية العالقة) وربما لأن الأمر يعد كئيبا لغاية أن يغفل العديد من الدارسين عن هذه الخاصية، دعا المحاضر الي ضرورة التمييز بين ما هو نظري، وما هو ظرفي استثنائي في أدبيات الفقه السياسي. لأن الأصل في التحرير والاجتهاد كان يقوم علي تأطير الفقهاء للواقع السياسي وفق منظومة أصولية، ومما يؤكد هذا الطرح كون الفقه السياسي حفل بثلة من الأدبيات المعروفة بـ فقه الطوارئ التي تؤطر حالات الاستثناء في الممارسة السياسية.
أما عما وُصِف بـ فشل الفقهاء في طرح نموذج مؤسساتي ، فهذا يتطلب التميز الحتمي بين وظيفة الفقيه ووظيفة الفقه. من منطلق أن دور هذا الأخير لا يقوم بالضرورة علي التنظير المجرد، وإلا سنسقط في الخطاب الفلسفي كما حصل مع الفارابي. بينما تقوم وظيفة الفقيه علي تأطير نازلة سياسية يصدر فيها حكما. وطالما أنه علي مستوي الممارسة السياسية، لم تكن هناك ممارسة سوية تستدعي تدخل الفقيه، ناهيك عن كونه تعرض دوما للإقصاء من الفرقاء السياسيين، فما شأن الفقيه إذن بالمنظومة السياسية الذي ظل بعيدا ومبعدا عنها.
نفس المنطق يسقط علي نقد اتهام الفقه السياسي بالسقوط في الاجرائية، من منطلق أن التجربة الراشدية عايشت أشكالا للتجربة الشرعية، وحيث توقف التاريخ توقف الفقه، ومضي التاريخ بالتالي نحو وجهة إكراهية، ليجد الفقهاء أنفسهم مضطرين للتعاطي مع قضايا الاكراه، ولو قدر للتاريخ أن يمضي وفق التجربة السياسية الشورية لتدخل الفقه لأنتج لنا مؤسسات والأجراءات والتنظيم.

الماوردي ليس كل الفقه السياسي

ما بقي ثابتا في الفقه السياسي هو الايديولوجيا السلطانية التي كانت لفائدة الأمير ولمصلحته ، هكذا اختزل أحد المفكرين المعاصرين ـ وغيره من الباحثين ـ أدبيات الفقه السياسي عبر مسار تاريخي يتجاوز أربعة عشر قرنا، مرددين الحديث عن فقه التحيز و فقه التبرير ، وهذا وصف ينتقص الكثير من القدر العلمي للمنظومة الفقهية حسب محمد أمزيان، منتقدا برصانة مجموعة من التيارات الفكرية بالوقوف وراء تمرير هذه الاختزالات الفجة في حق أدبيات الفقه السياسي. ونجد في مقدمة هذه التيارات، الدراسات الاستشراقية، قبل أن يتلقف نفس الاتهامات زبناء وأتباع الأطروحات الاستشراقية، وتجار نصف الجملة، أو الخطاب الصحافي المبتذل غير المؤسس علميا، وهناك أيضا الاتجاه الحركي الاسلامي الذي ساهم في تكريس هذا التحيز، والذي إن كان يناضل ضد السلطة وضد الاستبداد ويسعي لتأسيس المنظومة الشرعية، ويقول بأن من يتحمل المسؤولية التاريخية عما نحن فيه هم فقهاؤنا، قائلين بأنه لو أن هؤلاء الفقهاء التزموا بالثورية المطلوبة لكنا في شأن آخر. وبالتالي ساهم الفقهاء في تكريس الاستبداد ، (نجد ضمن هؤلاء عبد القادر عودة مثلا في كتابه الاسلام وأوضاعنا الاجتماعية )، لولا أن ما يشفع لهؤلاء الحركيين، الارتكاز علي خطاب دعوي صرف، والحال أن الخطاب الدعوي قلما يرقي الي الخطاب العلمي الأكاديمي والتوصيفي للتاريخ.
اختتم محمد أمزيان محاضرته القيمة بالعروج علي جملة من المقدمات المفندة لهذه الدعاوي، حيث أن إثباتها يصطدم عمليا بمعوقات منهجية وموضوعية. ولنبدأ بما قد نعتبره أهم المعوقات، فلكي نقرر اتهامات في هذا القدر، ينبغي أن نكون علي اطلاع كبير بالمذاهب الفقهية، ومعلوم أننا أمام زخم من المذاهب الفقهية، فلماذا نضع البيض الفقهي في سلة واحدة! مضيفا أنه إذا كان فقيه قد برر هذه الممارسات، فلا يعني ذلك قطعا أن كل الفقهاء المسلمين سقطوا في نفي الاختزال والتحيز والتبرير. فهناك مثلا مذهب الصبر مقابل مذهب الخروج ، أو العمل المسلح بالتعبير المعاصر. وهناك مدارس متشعبة الاجتهادات عن السنة والمعتزلة و الاباضية والزيدية والخوارج والشيعة... إلخ، والأدهي، أن الحديث لا يستقيم أساسا عن تيار متماسك داخل المذهب الواحد، كأن نقول بأن مذهب السنة هو مذهب الصبر (مذكرا الحضور بمن اصطلح عليهم بـ فقهاء الثورة الذين شاركوا في معركة الجماجم، وقد فاق عددهم 500 فقيه، وهذا علي المستوي السني وحده، فكيف يكون الحال مع المذاهب الأخري)
يرتبط المأزق الثالث بإشكالية الاستقراء، فمن الناحية المنهجية، ينبغي استقراء كامل للمنهج الفقهي حتي نصدر حكما أكاديميا من هذا العيار، ويجمع أغلب الباحثين المنصفين أننا لم نقم بهذا الاستقراء الي غاية اليوم، وذلك لأسباب منهجية. والمضحك في هذا المقام الفقهي الطيب، أن نجد العديد من باحثي هذا الزمان الاسلامي يصدرون اتهــــامات رخيصة ومجانية، مختزلين الفقـــــه السياسي في ما صدر عن الماوردي، وكأن سقف الفقه السياسي هو ما حرره الماوردي.
الفقه السياسي، حسب أمزيان، موجود فيما يسمي كتب الطبقات والتراجم ، ويتطلب استقراء ما جاء في جميع ما صدر في هذه الطبقات والتراجم الوقت الكبير، وعلينا أن نتحلي بكبير تواضع وأن نخجل من أنفسنا قبل إصدار هذه الأحكام وتلك الاختزالات، ونحن لم نطلع بالكاد إلا علي جزء يسير من أدبيات الفقه السياسي في المجال التداولي العربي الاسلامي.
نختتم هذه العرض السريع، لمحاضرة طويلة وشيقة، بالتنبيه الي بعض المآزق الموضوعية التي تقف سدا أمام تصدير مثل هذه الاتهامات، ومنها، تمييز الفقه السياسي بين ما هو نظري، وما بين ما هو تاريخي. فعندما يتحدث الفقه السياسي عن مسألة الشرعية فإنما يتحدث عنها من مستويين، مستوي المبدأ (حيث يجمع الفقهاء علي أن الممارسة السياسة لا تحقق له صفة الشرعية حتي تتحقق الضوابط المعمول بها في الفقه، وهذا حكم نظري) ومستوي الواقعة والنازلة، وهو غير النظري بالمرة، فحينما يواجه الفقيه سلطة جائرة، هل يواجهها بالنظري أم بالنازلة الفقهية. وجلي أن من يقول بإشكالية التحيز لا يستحضرون جميع هذه المعطيات.
من ناحية ثانية، وحفاظا علي الوعي السياسي، أبدع الفقهاء مصطلحات موازية، حيث تمت تسمية من تصدر منصب الخلافة بالخلفاء، وحينما تسمع خليفة أو إماما أو إمام المؤمنين، وهي اصطلاحات عرفية تم إطلاقها من باب العرف وليس من باب الحقيقة الشرعية ـ حتي أن المحاضر دعي الي التمييز بين الحقيقة العرفية (التي تؤخذ من الواقع التاريخي كما هو ولا شرعية لها) والحقيقة الشرعية (تتميز بالمضامين والمعايير التي تلتزم بالقيم السياسية كما هي مستنبطة من الحكم الشرعي).