هناك التباسات كثيرة تتربص بالمصطلحات عند ترجمتها إلى العربية، ومنها هذا المصطلح، الذي استخدمه ادوارد سعيد ضمن سياق تاريخي وسوسيولوجي أيضاً، فالسردية الوطنية هي باختصار ما يسميه البعض الحكاية الوطنية، أو الأسطورة التي هي في الأصل ذات جذر واقعي، لكن الحالمين أنبتوا لها أجنحة فحلقت عالياً وخارج مدار جاذبية الواقع.

والسردية الوطنية، لا يبتكرها الشعراء أو الكُتّاب، لأنها مبثوثة أساساً في تضاعيف تاريخ أمة، من خلال حروبها، ومقاومتها، ومحاورتها الباسلة للشروط التي حاصرتها على امتداد الأزمنة، وباستثناء الدولة العبرية، فإن الحكاية الوطنية لها وجود موضوعي، إذ لا يمكن لشعب ان يخترع أبطالاً قوميين، أو يشيد تماثيل في الساحات العامة لأشخاص لا وجود لهم، وحين حاولت الصهيونية اختراع أسطورتها أو سرديتها الخاصة، لم تجد لديها ما تقوله عن الماضي، غير ما قامت بتأويله حد التقويل من النصوص الدينية المحرّفة، ومن مجمل الميثولوجيا!

والقول ان الحكاية الوطنية المثقلة بالرموز، قابلة لأن تتحول الى نرجسية قومية، وبالتالي الى شوفينية، به كثير من التعميم، بل تعويم التاريخ، بحيث يلوي عنقه كي يلبي المقصود منه ولو على نحو مَسري.

والحكاية الوطنية العربية الإسلامية، تمتد قروناً طويلة، وتختلف المرجعيات والمعايير التي يُحتكم اليها في انتقاء الرموز، لكن دم الحكاية يبقى هو ذاته، لأنها تتجسد بلغة واحدة لم تتبدل إلا بقدر ما كانت تستجيب لمتغيرات العقائد والمفاهيم.

وما يجري الآن بسوء نية لا حدود له هو تجريح هذه الحكاية، أو السردية القومية، فهناك مثلاً من لوحوا بمناديل الوداع الورقية للقومية كلها، من ألفها الى يائها، ومن محيطها الى خليجها، وتم ذلك، عبر تقنيات حاذقة، تستثمر ما انتهى اليه المشروع القومي العربي من انتكاسات واحباطات، بحيث أصبح الأمر كما يتوهم نافدو الصبر كما لو ان حقبة طويت من التاريخ مثل سجادة، ولا بد من البدء من صفر آخر!

وهذا لا يفتضح قصورا في فهم التاريخ فقط، بل يؤشر نقصانا في الوعي، ويذكرنا بما قاله د. فرانز فانون ومالك بن بني وآخرون عن الاستلاب، أي تبني المغلوب لافكار غالبة عنه، بحيث يكون رحيل المستعمر مادياً وشكلياً فقط، أما كل ما بثه من مستوطنات فكرية فهو ماكث الى ان تتحرر منه كائنات شمل الاحتلال وجدانها!

أما الإلحاح هذه الأيام، على ان هناك هويات وطنية وسرديات يمكن اختراعها أو استلافها من المستقبل لا من الماضي فهو خضوع مطلق للأمر الواقع، رغم خلوه من المنطق الذي يسنده ويبرر ديمومته!

فالتمدد نحو المستقبل باعتباره مجالاً حيوياً لتسديد مديونيات الماضي، هو المعادل الموضوعي لتمدد دولة ما خارج حدودها الجغرافية، بحثاً عن مجال حيوي بمعنى آخر، أي بالمعنى الذي ترسخ في أدبيات الحقبة النازية خلال القرن الماضي!

ويقال أحياناً، وبدرجة من الترميز ان الهنود الحُمر خسروا حربهم الوجودية، وانتصر عليهم الرجل الأبيض لأن اسطوريتهم، أو سرديتهم اذا استخدمنا مصطلح “سعيد” خلت من أي توقع، أو تحذير من سلاح لا يعرفونه، ومن ثقافة غريبة لا يستطيعون فك رموزها والتعامل معها!

وحتى لو كان هذا صحيحاً فإن السردية القومية أو الحكاية العربية التي تروي صراع الهوية مع أسباب حذفها وإذابتها تقع على النقيض من هذا.

إذا ما من أمة زخرت ثقافتها، ونصوصها بالتحذير من أسباب الفناء كالأمة العربية، نجد هذا شعراً ونثراً ومواعظ، ووصايا، ونجده ايضاً في أقوال رسل ومؤرخين وحالمين وفلاسفة، لهذا لا يمكن لهوية، تصلبت عبر كل تلك العصور وتشكل لها محتوى خالد، ان تصبح في مهب عواصف التاريخ، وأن يقال لمن يشهرها في زمن العولمة وإذابة الفروق، وداعاً!

من حق أي شعب أن يتشبث بأسطورته الخاصة وان يحول حكايته الوطنية بكل رموزها وأبطالها الى أيقونة، لكن الآخرين سيتساءلون حتماً عن الرصيد التاريخي والمعرفي والوجداني لهذه الأسطورة.. فحين لا يعثرون عليها في معبد أو متحف، أو كتاب يستخفون بها، ويشيحون عنها!

والقوة وحدها مهما بلغت، غير قادرة على ابتكار هوية واضافة مساحيق تجميل تاريخية لها، وهذا بالضبط ما تورطت به الصهيونية عندما “تأسرلت”، فالحركة أو المنظمة السرية لم تتقن خلال نصف قرن مهنته الدولة، لهذا فإن كل ما يصدر عن الدولة العبرية، هو من أدبيات الحركة لا الدولة، وما سمي ما بعد الصهيونية أساء الكثيرون فهمه، لأنهم تصوروا ان هذه المرحلة ستكون مغايرة لسابقتها خصوصاً بعد ان اقترنت مرحلة ما بعد الصهيونية بالمؤرخين اليهود الجدد.

إن الهويات لا تزرع كالأعضاء، ولا يجري استنساخها كالنعاج، إذ لا بد لها من نصاب تاريخي، وحمولة ثقافية وموروث فاعل وإنساني كي تنوجد أولاً، ثم تنمو في باطن التاريخ وعلى سطحه وأخيراً تنال الاعتراف.. وقد تستحق العرفان أيضاً!