كتبب غسان تويني: عاشت أوروبا هذا الأسبوع - وخصوصاً فرنساها - قمة التحدّي الوحدوي الذي يضعها على محكٍ مزدوج: تكويني داخلي، من جهة، ومن الجهة الأخرى رسولي خارجي.

ثمة أزمتان تبلورتا في آنٍ واحد: أزمة "دخول" وأزمة "خروج"...

فأما "الدخول"، فهو انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي، وقد تبلورت في زيارة رئيس الحكومة التركية لباريس، وما اثارت من مناظرات.

وأما "الخروج"، فالخروج الاسرائيلي من أوروبا وعليها، وقد تفجّرت إنطلاقاً من دعوة شارون اليهود الفرنسيين لمغادرة فرنسا "في أسرع وقت، وقبل فوات الأوان" بسبب ما وصفه بتفاقم الشعور المعادي للسامية، أي المبغض لليهود... وقد أثارت هذه الدعوة حملة غضب فرنسية من أعلى مستويات السلطة الى أدناها، ثم ما لبثت ان أثارت حملة بين القيادات اليهودية والمفكّرين والمثقّفين اليهود الذين رفضوها بسخط قائلين ان "اليهودية" جزء من "الذات الفرنسية" وهجرتها ليست ولا يمكن أن تصبح موضوع بحث، رغم اعتراف البعض - بطبل وزمر من بعض وسائل الإعلام - بأن ثمة تزايداً في عدد النازحين اليهود، من 2.566 فقط عام 2002 الى 30.000 سنة 2004 (حسب توقعات "الوكالة اليهودية"!) ولا يفوت القيادات اليهودية المعتدلة التنويه بان يهود فرنسا هم اكبر مجموعة يهودية في اوروبا، فهجرتهم قد تكون سابقة خطيرة وخطرة على وجودهم الاوروبي بكليته.

* * *

أزمة "الدخول" التركية، هي ايضاً يختصرونها حيناً بحرب أرقام.

أولها ان تركيا، متى انضمت الى الاتحاد الأوروبي، ستشكل 15 في المئة من مجموع سكان أوروبا... الأمر الذي قد يفقد أوروبا التوازن الحالي بين الاكثرية المسيحية والأقلية المسلمة الحالية البالغ عددها 12 مليوناً (البانيا، البوسنة، مقدونيا، وبعض بلغاريا). فضلاً عن المهاجرين الأتراك والايرانيين، الى المانيا خصوصاً، ومعظمهم من الجيلين الثاني والثالث قد تجنسوا، واعدادهم تتجاوز مئات الآلاف. زائد الفرنسيون المسلمون ذوو الأصل الجزائري والتونسي والمغربي.

من الوجهة الايجابية، تبدأ الحجج بالقول ان وجود "الأقلية المسلمة" في أوروبا المتوسعة شرقاً، لم يفقد أوروبا هويتها ولا زعزع وحدتها، رغم نشوء أزمات "أمنية" يتسبب بها التفاوت الاجتماعي في المدن الفرنسية الكبرى، بنوعٍ أخص.

* * *

وتطول لائحة ايجابيات "الدخول" التركي، بدءاً بأن الاسلام التركي علماني ديمقراطي، في حين ان بعض الجزر الاسلامية في اوروبا تجنح، موسمياً، صوب التطرف أو هي تتأثر، موسمياً كذلك، بالتيارات الأصولية. فدخول تركيا بثقلها العددي الفائق سيكون له تأثيره على سائر المسلمين الأوروبيين، وخصوصاً في أوروبا الشرقية، التي تربطها بتركيا وشائج عضوية موروثة من قرون مضت.

إنما الحجة الأوقع، فهي بالطبع الحجة الجيوستراتيجية التي تقول ان انضمام تركيا سيوسّع الحدود الشرق - الأوسطية بل الآسيوية لأوروبا، وبالتالي دورها في البلدان المتاخمة لها سياسياً واقتصادياً ونفطياً اذذاك، ولا سيما في ايران والعراق وبعض آسيا السوفياتية، فضلاً عن سوريا و"لبنانها"!

وهذا الواقع المحتسب يغيّر قواعد الحوار "الاورو-متوسطي"، وقد تكون نتيجته الأولى تحقيق الوحدة القبرصية، فلا تبقى قبرص العضو في أوروبا هي قبرص اليونانية، أي قبرص مبتورة بدون اتراكها!

واستطراداً، تطوّق أوروبا الجديدة البحر المتوسط بكليته اذا تقدّم الحوار (البرشلوني والاقتصادي) فتشمل، اضافة الى سوريا ولبنان (وفلسطين) المغرب العربي والسنغال (وكان رئيسه في باريس هذا الاسبوع وسمع من شيراك انتقاداً شديداً لسجن صحافي في دكار، فتجاوب فوراً وأعلن انه اصدر تعليماته بالحفاظ على حرية الصحافة وحقوق الإنسان وإلغاء التوقيف الاحتياطي!).

* * *

في هذا السياق بالذات، يعلّقون هنا أهمية كبيرة على دور إسبانيا "الجديدة الحكم" في السياسة الأوروبية، وبروز دور وزير خارجيتها موراتينوس العريق الاهتمام بشؤون الشرق الأوسط و"خريطة الطريق".

عند هذه النقطة يلتقي تحدي "الدخول" تحدي "الخروج" الاسرائيلي، وخصوصاً بعد تصاعد الموقف الشاروني الغاضب الذي بدأ بعدم تقديم الايضاحات (الاعتذارية) التي طالبته بها باريس (وقد رفضت بانتظار ذلك تحديد موعد زيارة شارون لها) وصولاً الى تحميل فرنسا مسؤولية جعل اوروبا توافق على الاقتراع بالاجماع - وتكثيف الاقتراع في دول أخرى - على قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة بإدانة بناء "جدار الفصل" والمطالبة بهدم ما يقع منه على اراضٍ فلسطينية محتلة.

وكانت قمة أزمة "الخروج" الزيارة المتأزمة للممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمن المشترك للاتحاد الاوروبي، الإسباني خافيير سولانا، لاسرائيل وتصريحه في مؤتمر صحافي مشترك مع وزير خارجية اسرائيل بالرد عليه قائلاً ان "ليس في وسع أحد أن يمنع أوروبا من القيام بدورها وتحمّل مسؤولياتها في معالجة قضية الشرق الأوسط"...

* * *

هنا يبرز سؤال يهمسون به في باريس - همساً فقط، وفي الكواليس: هل دعوة شارون يهود فرنسا الى "الهرب من معاداة السامية" دعوة محض اسرائيلية، وبريئة؟ أم انها خدمة لاميركا التي قد يظن موجّهو سياستها المتصهينون ان مثل هذه الدعوة سيكو ن لها اثر تحريضي لا في فرنسا وحدها، بل في كل اوروبا، وبنوع أخصّ في المانيا التي تستمر اسرائيل في سقي عقدة الذنب لدى شعبها ربما بقصد افتعال أزمة وتالياً تهجير الأدمغة والرساميل اليهودية من ألمانيا وفرنسا وكل أوروبا الى اسرائيل، تعويضاً لهجرة متزايدة من اسرائيل الى اميركا؟

وصاقب الرد الألماني بليغاً في تاريخيته اذ اعترفت الحكومة الألمانية رسمياً، وللمرة الأولى، بأنه كانت ثمة محاولة لاغتيال هتلر في تموز ،1944 فاعلن المستشار شرودر ان الضباط الكبار الذين اعتقلوا وأعدموا بعد فشل الاغتيال هم أبطال بل شهداء أعيد اليهم اعتبارهم العسكري واوسمتهم، بكثير من الإبراز الاعلامي (والوثائقي المتلفز).

وهكذا تكون ألمانيا قد حررت نفسها، كشعب وكسلطة، من تهمة "معاداة السامية" ومن عقدة الذنب كذلك، التي تحمّلها هكذا الى النازية وحدها والى زعيمها الذي حاولت اغتياله والانقلاب على نظامه قبل هزيمته. وكأن المانيا الرسمية، هكذا، تكرّس حملة الهمس المستنكر بناء صرح تذكاري شامخ لـ"محرقة" اليهود تجاه "بوابة براندنبورغ"، اي في الساحة المركزية للعاصمة برلين متجاوزة بل متجاهلة كل بوادر التقرّب التي قدمتها المانيا الرسمية، بل اسرفت، تجاه اليهود واسرائيل بالذات.

* * *

حيال كل ذلك، ماذا عن العرب والفلسطينيين بنوعٍ أخصّ؟

أولاً، وقبل كل شيء، يجب تشجيع انضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي وتشجيع اوروبا على قبول هذا الانضمام (الذي أعلن الرئيس شيراك انه يتبناه).

وثانياً، التجاوب مع التقارب التركي العربي والانفتاح على دور تركيا (انما بدون اي حنينٍ عثماني!) في مواجهة الأصولية الاسلامية باسلامية علمانية ديمقراطية. وتركيا، وخصوصاً متى "تأوربت"، أحقّ من أميركا وأجدر بالدعوة الى إصلاح الأنظمة العربية وديمقراطيتها والمعاونة على بلورة النهج "التغييري" في الاسلام.

وأخيراً، وهذا هو الأهم: دعوة تركيا الى الغاء معاهدتها مع اسرائيل وأي تناغم بينها وبين اسرائيل في العراق وفي صدد الموضوع الكردي خصوصاً. بل أكثر: دعوة تركيا الى وضع ثقلها في موضوع سلام الشرق الأوسط الى جانب الفلسطينيين والمعاونة بالتناغم مع أوروبا فوراً - ومن غير انتظار الانضمام الى الاتحاد الأوروبي - في إعادة الإعتبار الى السلطة الفلسطينية وتسهيل تغلّبها على صعوباتها "الداخلية" فلا تقع في شرك المؤامرة الشارونية العاملة على استثارة "حرب أهلية فلسطينية" تسقط شرعية الدولة الفلسطينية بل حتى فكرتها وإمكان الاستمرار في الطموح إليها.

* * *

ختاماً، هل ثمة دور للبنان في هذه الشبكة الكيانية المعقّدة؟

بالطبع نعم للبنان دور. ويمكن ان يكون فعالاً اذا خرج الحكم اللبناني من عقدة "المركّبات" (النقص والذنب والخوف و... الغيظ!) التي تسربله... كمثل تردده في كيفية التعامل مع الحكومة العراقية الموقتة، بينما "الشقيقة" سوريا تفاجئ لبنان بالإسراع الى عقد الاتفاقات وربما الصفقات.

وقد تكون بداية الطريق أن تتساءل الدولة اللبنانية - من على القمة!!! - ما هو سرّ اتفاق اوروبا واميركا العلني على أمرٍ واحد في الشرق الأوسط، هو "ضرورة المحافظة على سيادة لبنان واحترام دستوره في الاستحقاق الرئاسي المقبل"؟... وما هو سرّ، بل ما هو اللغز في الربط بين الامرين: السيادة والدستور؟... فهل ثمة تخوّف من ان يتحول الاستحقاق الدستوري الى مجال "صفقة" على حساب السيادة اللبنانية تؤدي الى تهديدها بالزوال؟

مفهوم؟

* * *

ومتى أدرك لبنان ذلك، يصير في وسعه أن يستعيد عافيته وحرية تحركه، بالذات على "المسار المشترك" مع سوريا، فيسهّل حوارها مع أوروبا، ويعزز مطالبتها تركيا (المرتبطة بمعاهدة عسكرية مع سوريا) على الخروج من معاهدتها مع اسرائيل.

وأخيراً، أخيراً: لبنان الذي كان يظن - أو كان يقال عنه - انه اوروبي العروبة، يجب أن يدرك، ويفاخر بأنه متى استعاد وحدته الوطنية الحوارية، يصير هو المختبر، إن لم نقل النموذج لاتحاد اوروبي للمسلمين فيه، الى جانب المسيحيين، وجود عضوي بل كياني متميز يمكّن أوروبا من القيام بدور الرسالة في منع "صراع الحضارات" الذي تسربل خرافته اميركا الطامحة اسرائيل الى احتكار ولائها المتبادل، أو هكذا "تشبّه لها"!

وبعد - اوروبا تنادي العرب، ولبنان بالذات، الى سلامها... فحتّامَ يتخاذلون ويترددون؟


غسان تويني