بصراحة متناهية، إن ما يمكن أن يحصل قريباً يتلخص بتحقيق أرييل شارون حلمه المتمثل في فرض أمر واقع جديد على الأرض اسمه "الجدار الأمني". ولذلك يبدو مطلوباً أكثر من أي وقت ضبط الوضع الداخلي فلسطينياً ومنع أي انفلات امني مع تأكيد ان ياسر عرفات لا يزال المرجعية الفلسطينية التي لا جدال في شأنها. مطلوب المحافظة على موقع "أبو عمار" مع ضرورة تقديم نصائح محددة له فحواها أن الاصلاحات في مصلحته وانه يفترض به أن يكون أول الداعين إلى التخلص من رموز الفساد من جهة وإلى وضع نفسه فوق الصراعات الداخلية من جهة أخرى. وبكلام أوضح لا مصلحة للرئيس المنتخب للشعب الفلسطيني في أن تكون هناك مشاعر عدائية تجاهه في الخليل بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها السيد نبيل عمرو ولا مصلحة له في أن يكون هناك ذلك الشرخ العميق في غزة الذي جعل القطاع مقسماً بين الذين معه والذين هم ضد الأشخاص الذين عينهم في مواقع أساسية.
من الملح لملمة الوضع الفلسطيني، بغية التفرغ لمعركة "الجدار"، وحسناً فعلت "حماس" بوقوفها مع "أبو عمار" مع سؤال بديهي هو لماذا لم تدعمه حين كان لا يزال حراً وفي حاجة إلى دعم حقيقي على طريق تحقيق طموحات الشعب الفلسطيني بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة؟ الآن تدعم "حماس" عرفات لأنه في الاقامة الجبرية في رام الله من دون طرح أي أسئلة مرتبطة بالدور الذي لعبته العمليات الانتحارية في ايصال الرئيس الفلسطيني إلى الوضع الذي هو فيه... أليست تلك ذروة الانتهارية؟
لعل أخطر ما يحدث حالياً ان اسرائيل في مواجهة الموقف الشجاع والعادل الذي اتخذته محكمة العدل الدولية من "الجدار الأمني" وما تلاه من تصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة يؤكد رأي محكمة العدل بأن الجدار غير قانوني، بدأت تخرج أرقاماً تظهر من خلالها فوائد الجدار بالنسبة اليها. بالطبع لا اشارة إلى أن الجدار يستهدف ابتلاع جزء من الضفة الغربية وانه يقضي على امكان قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة وانه يستبعد القدس عاصمة الدولة الفلسطينية المفترضة من أي تسوية.
تقول الأرقام التي توزعها اسرائيل بواسطة بعض ابواقها أنه بعد اغتيال الشيخ أحمد ياسين مؤسس "حماس" ومرشدها الروحي في آذار الماضي وبعد اغتيال خليفته الدكتور عبد العزيز الرنتيسي راحت الحركة تتوعد الدولة العبرية ببحر من الدماء لكن شيئاً من ذلك لم يحصل، اذ تبين انه في الأشهر الستة الأولى من العام 2004، تدنت نسبة العمليات داخل "الخط الأخضر" بنسبة 83 في المئة مقارنة مع الفترة نفسها من العام 2003. اما عدد القتلى الاسرائيليين في الأشهر الستة الأولى من 2004 فهو عشرة في المئة فقط من العدد الذي سجل في الفترة نفسها من العام 2003. اكثر من ذلك تعتبر اسرائيل ان "الجدار" كان وراء عدم تمكن "حماس" من الرد على اغتيال الشيخ ياسين والدكتور الرنتيسي وانه ساهم في احباط 103 عمليات انتحارية في الأشهر القليلة الماضية.
هذا بعض ما توزعه اسرائيل لتغطية جريمة بناء الجدار مستفيدة من عوامل عدة بينها حال العجز العربية وما آلت اليه الأوضاع في الاراضي الفلسطينية والأجواء الدولية التي تتحكم بها عقدة الحرب على الارهاب التي بدأت بعد 11 أيلول 2001. ولا تشبه الحملة الاسرائيلية التي تروج للجدار ولفعاليته سوى تلك التي شنت بعد فشل قمة كامب ديفيد صيف العام 2000. استهدفت تلك الحملة شخص ياسر عرفات.
وكانت بداية الحملة مقالاً صدر في "هآرتس" في تشرين الثاني من تلك السنة ركز على ان "أبو عمار" شخص لا يمكن التعامل معه. وما لبثت المؤسسة السياسية الاسرائيلية ومعها المؤسسة الأمنية ـ العسكرية ان اعتمدت خيار رفض التعاون مع الرئيس الفلسطيني وهو خيار اعتمد اميركيا في ضوء استيلاء المحافظين الجدد على السلطة في واشنطن والأخطاء الفلسطينية التي لا تحصى خصوصاً عدم استيعاب الجانب الفلسطيني معنى مرحلة ما بعد 11 أيلول.. والتحالف القائم بين المتطرفين من كل حدب وصوب في المنطقة الذي لا هدف له سوى القضاء على عملية السلام.
ان الجانب الفلسطيني في وضع لا يحسد عليه في المواجهة مع عملية بناء "الجدار"، ويمكن القول من دون مبالغة ان الشعب الصامد الذي قدم كل تلك التضحيات والذي لا يزال الشعب الوحيد في العالم الذي يحظر عليه التمتع بأبسط حقوقه مدعو اكثر من أي وقت الى تفادي كوارث على الصعيد الداخلي. وذلك لا يكون الا بالمحافظة على الوحدة الوطنية بعيداً عن عقلية تصفية الحسابات بين هذا الطرف أو ذاك خصوصاً داخل "فتح" نفسها.
عمل ارييل شارون على تدمير كل مؤسسات الشعب الفلسطيني ولا شك أن أي اقتتال داخلي في هذه المرحلة سيكون مكملاً للمهمة التي نذر رئيس الوزراء الاسرائيلي نفسه من اجلها. وتتلخص هذه المهمة بكسب الوقت من أجل بناء امر واقع جديد يتمثل في "الجدار الأمني" أي الحدود التي تريد اسرائيل فرضها في الضفة الغربية بصفة كونها ارضاً متنازعاً عليها.
ستكون المعركة هذه المرة مع اسرائيل معركة شرسة، ولكن يخطئ ياسر عرفات اذا كان يعتقد ان في استطاعته خوضها في ظل خصومه اذا كانوا يعتقدون ان في استطاعتهم خوضها من دونه. انها المعركة الآتية: اما أن يختار الفلسطينيون خوضها متحدين واما أن يستمروا في صراعاتهم فيتخذون عندئذ قراراً بالاستسلام لشارون سلفاً. الخيار واضح والتوازنات الاقليمية اكثر وضوحاً وخلاصتها ان الفلسطيني لا يستطيع سوى الاعتماد على نفسه.