حاورته سحر طه: عام ونيّف مرّ على بغداد والجرح يتسع، ويكمل نصير شمة عزف هموم بلده على أوتار عوده وفي مسارح العالم. يكتب موسيقى خاصة به، يغزل خيوطها من روحية الأنغام العراقية، وبات الجمهور يطلب سماع مقطوعات بعينها وبأسمائها، تلك التي يعبّر من خلالها عن قضايا الإنسان، وبخاصة في وطنه حيث حفرت الآلام في وجدانه، كتب منها مقطوعات، لعل "العامرية" أشهرها.
اليوم باتت حكايات الوطن تربو على ألف ليلة وليلة، تتوالى قِطَعاً موسيقية تؤثر وتترسخ في الوجدان العربي، حين يرويها شمة قصّة بعد قصة مروراً بـ "جنوب الروح" و"الفلوجة" وصولاً إلى "هيروشيما" و "رحيل القمر".
آخر حفلاته وأسطواناته، تجربة "بيت العود" في القاهرة بعد أكثر من خمس سنوات على تأسيسه. اهتمامه بالماورائيات وعلوم البارابسيكولوجي والتخاطر وأخيراً همّه العراقي، كل ذلك في شخصية الموسيقي وعازف العود العراقي نصير شمة، في حديثه الى "المستقبل" في زيارته الأخيرة لبيروت.
***
نبدأ بآخر نشاطاتك في بيروت؟
ـ في أيار أحييت أمسيتين في "المركز الثقافي الروسي"، تضمنتا ست عشرة قطعة موسيقية، في برنامجين مختلفين ومن ثم أمسية في مؤتمر "تحديث الفكر العربي" في البريستول عزفت فيها مقطوعات جديدة، وأخيراً وقعت أسطوانتي الجديدة "رحيل القمر".
ماذا في "رحيل القمر"؟
ـ هي عنوان واحدة من معزوفاتي الأخيرة، واليوم أجد أنها أصبحت ذات بعد أعمق من ذي قبل، إذ كتبتها في ظروف معينة أصبحت الآن أكثر إيلاماً وأقسى، تتعلق بتفاصيل هامة من حياتنا، لا أحب أن أشرح أو أفسّر الموسيقى، إذ المفترض أن تفسّر نفسها.
المعزوفة خاصة بما مرّ ويمرّ به العراق؟
ـ بالطبع تتعلق بحدث هام، ورحيل هذا الأمر الهام، ومن ثم تفاقم هذا الرحيل وازدياد عمقه، أصبح أكثر شمولية، بل ورحيلاً عامّاً. إضافة إلى مؤلفات جديدة عزفت بعضها للمرة الأولى في لبنان، رغم أنني كتبتها منذ فترة.
أرغب دائماً في تقديم استثناءات وقد نذرت عودي الذي كان ومايزال وسيبقى ينطق بكل ما هو عراقي. وفي صلب الثقافة العراقية، والآن أصبح في صلب الهم العام للإنسان بالمطلق، والعربي بشكل أخصّ وبخصوصية للإنسان العراقي والفلسطيني.
الاهتمام يشمل الإنسان وحلمه في كل مكان حتى في هيروشيما. حلم العيش بحرية ورخاء، أن يملك وجهة نظره الخاصة التي يستطيع التعبير عنها.
هيروشيما
معزوفة "هيروشيما" بدأت تنتشر وتعرف بموازاة "العامرية" و "حب العصافير" على سبيل المثال، لماذا هيروشيما؟
ـ "هيروشيما" قطعة موسيقية فكرت بها في الثمانينات، حين شاهدت الفيلم الأول عن هذه المدينة المنكوبة التي باتت رمزاً لمآسي الإنسان. تبلورت الفكرة في التسعينات وكتبتها وقدمتها في أكثر من حفل، لكن الحروب العديدة التي خاضها العراق ومسألة فلسطين والاحتلال الذي طال جنوب لبنان وهي قضية أخذت حيزاً من تفكيرنا ووجداننا، وكتبت قطعة خاصة بعنوان "جنوب الروح"، كلها كانت وماتزال قضايانا المحلية اليومية المتفاقمة، بحيث لم تتح لنا الفرصة للتعبير عن قضايا الإنسان العامة وبالتالي لم تجد "هيروشيما" طريقها الطبيعي بين القطع الأخرى إلا مؤخراً.
ألا تجدها علامة سلبية أن تتحكم المناسبة أو الحدث في كتاباتك الموسيقية؟
ـ أنا إنسان أعيش وسط الحدث وأشكل جزءاً منه. وأنا موسيقي أعبر عن هذا الوسط بلغة فنية تنبع من البيئة لا من فراغ، ويصدف أن بيئتي محكومة بأحداث كبيرة وقضايا مؤلمة تمسّني وتمس شعبي و تهز كياني وتتحرك في أعماقي وتثور وتسبب ضجيجاً قاسياً ولو لم تكن الموسيقى أمامي أتنفس من خلالها لتفجّرتُ وكانت كارثة.
كتبت أكثر من عشرين عملاً لفلسطين منها "على حافة الألم"، "ثورة وأمل"، "رقصة المقاومة". ولبلدي العراق كتبت العديد مثل "حدث في العامرية" و"حلم مريم" و"بنفسج أرواحهم" وغيرها مما يتعلق بالهم الإنساني إضافة إلى أعمال حول العلاقات الإنسانية وإيحاءات من الجمال والحب والمحيط والبيئة والثقافة وغيرها.
تقولين لماذا هيروشيما؟ حسناً، أنا أعتبر أن بداية انهيار قيم الإنسان تحددت في تلك الثانية التي أسقطت فيها القنبلة على شعب مسكين، أعزل ومحته تماماً. محت ذكرياته، إرثه، ثقافته، لمجرد تسجيل انتصار على هذا الشعب. بل لمجرد أنه شعب يمتلك إرادة صلبة، كان يجب أن تكسر وتدمر بأية طريقة وثمن. وبالفعل ها هو التاريخ يكتب انهيارات متتالية وحروباً في كل مكان. فإشارتي إلى هيروشيما هي إشارة إلى بعد أكثر من كونها جريمة حدثت في حق شعب إلى بعدها في مبادئ الحياة التي يجب أن يعيشها بشر، يشتركون في الكثير من الأمور وبينهم قواسم مشتركة: الأرض، الدين، الثقافة، المجتمع ويكفي أن يكون له حق العيش كإنسان.
ليس كل حدث يشدني أو يحرك فيّ موسيقى وأحاسيس ما. بل الحدث الذي يحتمل رمزية التحدث عنه وتبنّيه. الوقوف ضد الصوت الواحد أولاً، ثم فرصة فضح الممارسات المتعجرفة من قبل القوي ضد الضعيف. القوي الذي تبدو قوته نسبية أحياناً، فهو قوي حين يحارب من السماء وعن بُعد، وحين ينزل إلى الأرض، ويواجه عدوه، عندها يبدو كائناً ضعيفاً يهزم بأبسط الأسلحة، بل وجعله يبكي ويستغيث، وينسحب وهذا ما حصل في جنوب لبنان، وهو مايحصل في العراق اليوم. أقوياء يوم كانوا يقصفون العراق من البحر والجو ومن أراضي دول مجاورة، الآن هذا العدو يذّل وتمسح كرامته في الأرض على أيدي شباب يحملون مجرد كلاشينكوف أو آربي جي وهي أسلحة لا تضاهي أسلحتهم.
السياسة
السياسة تأخذ حيزاً كبيراً من أحاديثك، هل تلتقي السياسة بالموسيقى، وهل يمكن أن نجدك في موقع سياسي في المستقبل؟
ـ حين أتحدث عن هذه الوقائع، لا أحشر نفسي بالسياسة. حين أتحدث عن أطفال أفغانستان أنا فقط ألقي الضوء على ضحايا السياسة. وحين أتحدث عن شعب مسالم دُمر في هيروشيما، قرروا ضربه لتستسلم طوكيو. الموسيقى وسيلة تعبير عن كل ما يدور في محيط الفنان، والسياسة هي التي تصنع الأحداث، إذن السياسة هي التي تحشرنا في القضايا وتجبر المبدعين، بخاصة في التعبير عنها بوسائلهم التي يمتلكونها، إذ أنها تتحكم في حياتنا ومصائرنا كشعوب، وهذا لا يعني أنني أبحث عن موقع سياسي ما.
أحداث الفلوجة حركت لديك أفكاراً موسيقية كتبتها خصيصاً لها؟
ـ قدمت عملاً حول أحداث "الفلوجة" المدينة المقاومة، الصامدة، في بيروت ضمن مؤتمر "تحديث الفكر العربي" الذي أقيم في البريستول، وما يزال العمل في بداياته قدمته مرات قليلة في حفلاتي. أبناء الفلوجة جزء من أبناء العراق ويشبهون كثيراً أبناء "أم قصر" في صمودهم وقدرتهم على التضحية.
ماهو ثمن الحرية في العراق؟
ـ أعتقد أن ثمن الحرية في العراق سيكون باهظاً، خاصة أن الحرية كما نعلم لا تمنح من قبل الآخر بل تؤخذ عنوة. ونجد الأمريكان يماطلون بالتنازل عن السيادة وترك العراق، رغم تسليم السلطة، وهذا مضحك وفيه حرية منقوصة، وأمر مرفوض من العالم كله، ويتوافق ومنطق الاحتلال المتعسف والقول: "إن كنت لا تستحي فافعل ما تشاء". لكن رغم ذلك فإن العراق سوف يحصل على حريته شاء الأمريكان أم أبوا، وسيطردون مثلما طرد الاحتلال البريطاني من قبل حين كان الدولة العظمى، إذ هزمه العراقي بـ "المكوار" السلاح الأبسط في العالم.
بيت العود
أنت في مصر منذ أكثر من خمس سنوات، أسست في دار الأوبرا "بيت العود" وفرقة عازفي الأعواد التابعة له، وفرقة "عيون"، ثم نسمع بمشاكل بينك وبين إدارة الأوبرا وانفصالك عنها إلى "بيت الهرّاوي" كيف تقوّم تجربتك في مصر؟
ـ على صعيد "بيت العود العربي" الذي كان مشروعي الأساسي، أصبح اليوم عدد المتخرجين منه تسعة عازفين جميعهم أساتذة يدرسون إلى جانبي في بيت العود، ويقدمون عروضاً منفردة في مسارح العالم.
الإقبال على "بيت العود" اليوم كبير جداً بما يثلج الصدر، ويفرحني ما أنجزه هذا البيت وما آلت إليه النظرة إلى آلة العود كشخصية ذات كيان ووجود خاص بمعزل عن الآلات الأخرى.
عندما دخلت مصر عام 1997 كان هناك استغراب لدى كثيرين وعلامات استفهام ودهشة أن تقدم حفلة عزف على العود. وأذكر تماماً الدكتورة رتيبة الحفني حين قالت لي: "لن يأتي أحد إذا أعلنّا عن حفل للعود، إذ ليس تقليداً متبعاً ولا متعارفاً عليه في مصر".
كان إصراري نتيجة إيماني بالآلة، وأعرف تماماً إن الجمهور سيأتي لحضور الحفل، إذ كانت لدي لقاءات بالعديد من عشاق الآلة في مصر وخارجها وهناك الكثيرون ممن سمعوا بموسيقاي عبر التسجيلات وفي حفلات في بغداد وتونس وغيرها.
اليوم وبعد أن كانت الفكرة مستغربة قبل خمس سنوات فقط أصبحنا نسمع بعدة حفلات للعود خلال شهر، على الأقل في القاهرة، ولعازفين منفردين، وأصبحنا نستضيف عازفين من الخارج معروفين، وحفلات العود تستقطب الجمهور سواء أكانت الصالة كبيرة أم صغيرة، إذن كان لبيت العود الأثر الكبير في تغيير عادات السماع وتنويعها.
أشعر بأنني أسهمت، ليس فقط في تخريج عازفين على مستوى عال، ومن نوع محترف، بل أيضاً يحملون خلقاً يختلف عن السائد في الوسط الموسيقي، وأخلاق نظيفة نقية، وقيم جديدة. العازف يحترم آلته، يحملها بطريقة صحيحة ولا يدخل بها إلا في أماكن تليق بها وبه.
علمت طلابي التفاني في العطاء بلا حدود، ذلك أنني أعطيهم بلا حدود. لديّ قانون يشبه "الأواني المستطرقة" في علم الفيزياء، أضع عطائي في أنبوبة وسرعان ما يسري العطاء في الجميع بالتساوي.
في العام 1993 أسست "أوركسترا بيت العود العربي" فيها 33 عازف عود قدمنا عروضاً عديدة وناجحة جداً إذ أن الآلات موحدة وصناعتها موحدة والعزف ضمن أوضاع وجلوس ومسكة وغيرها كلها موحدة وضمن توزيع موسيقي هرموني وكونتربوينت وألحان متعددة وسط وحدة متكاملة للعمل.
هناك أعواد تعزف "الباص" صوت القرار وأخرى تعزف "سوبرانو" الأصوات الحادة وإلى جانبها "التينور" أو الصوت الأوسط، والجمهور بدأ يسمع لهجة جديدة في الموسيقى لكنها عربية، يتيحها تعدد الآلات من دون تغريب، بل التحدث من داخل الفكرة نفسها ومن دون استعارة ما هو غريب، لذلك كله استقبل الجمهور فرقة الأعواد هذه ومعزوفاتها بشكل حميم ورائع ولها موقعها اليوم في مصر والبلاد العربية.
إضافة إلى ذلك أصبح "بيت العود العربي" مركز إشعاع ثقافي وحوار، فيه صالون يستضيف عازفين وفنانين يتحدثون عن تجاربهم وجديدهم ويعزفون للجمهور. وكذلك تقدم فيه بحوث موسيقية كل شهرين حول العود، تاريخه، وعلاقته بالآلات الأخرى وتأثيره في أوروبا مثلاً والوطن العربي وغيرها. ونشهد احتراماً لعازفي بيت العود غير مسبوق من قبل الجمهور، ومن جانبنا نترك حرية الاختيار لكل عازف فيما يقدمه ومن واجبي أن يكون المكان مرتعاً للديمقراطية الحقيقية وإلغاء للأنا من قبل الجميع، ونجحت في جعل العلاقة أسرية، من هنا تسميته "بيت" لا مركز أو معهد إذ أعني الكلمة تماماً.
الطالب يقضي معظم وقته في بيت العود منذ الصباح وحتى المساء، وبعد سنوات من التواجد في "دار الأوبرا" لا خلافات أو مشاكل، بل انتقيت منذ فترة بيتاً يسمى "بيت الهرّاوي" وهو معروف كمركز إشعاع ثقافي من قبل ليكون بيتاً للعود بديلاً من مركزنا في دار الأوبرا.
أما من حيث صناعة العود فتتم فيها تحسينات كثيرة وبشكل لافت عن ذي قبل، ويجري العمل على تحسين الأوتار وعلاقتها بالخشب والعمل على إقامة دوزان جديد للعود، مع مقارنته بالدوزان التقليدي وغيرها الكثير من الأفكار الجديدة والتصورات سواء تلك التي تتعلق بصناعة العود والأداء والتقنيات وغيرها.
عيون
"فرقة عيون" ما الهدف منها وهل قدمتم عروضاً خارج مصر؟
ـ سميتها مجموعة "عيون" لموسيقى الصالة العربية كما تعلمين، لإحساسي بأننا في عالمنا العربي بحاجة إلى موسيقى صالة حقيقية لا موسيقى التخت. بحاجة إلى تقديم موسيقي منضبطة دقيقة جداً، محسوبة لكل آلة دورها. لكن يبقى لها في الوقت نفسه طابعها وعمقها ولهجتها المتميزة. ونحمد الله صار لهذا الأسلوب قاعدته وأسسه وورشة العمل التي كنت أقيمها باستمرار أتت ثمارها وقدمنا آخر عرض في "مهرجان أبو ظبي" للموسيقى منذ فترة وكان من العروض الناجحة جداً، أكثر من ألف شخص وقفوا مرتين خلال العرض في تحية وتشجيع، إذ شغفوا بالموسيقى بما فاق حتى توقعاتي وهذا يسعدني ويجعلني فخوراً بجمهورنا العربي الذي أثبت عكس ما يقال عنه. جمهور مثقف مستعد لقبول العمل الجاد الذي يشعره بالاحترام. فحين يتقن الفنان عمله يشعر المتلقي بقيمته وبأنه جالس في حضرة فنان محترم وهذا كله ينعكس طاقة وتفاعلاً عليّ كفنان ويشعرني بثقة الناس وهو جانب هام في عملي أشتغل عليه كثيراً، وجزء منه يتعلق بعلم النفس وعلم التخاطر والبارابسيكولوجي وما وراء الطبيعي والمحسوس والملموس.
تبدو متعمقاً بهذه العلوم؟
ـ أزعم أنني متعمق فيها إلى حد ما، ولا أدعي أنني أعرف الكثير لأنها في كل ثانية تحتمل سراً جديداً.
هل تساعدك الماورائيات في حياتك وعملك الموسيقي؟
ـ تساعدني كثيراً. أضرب لك مثلاً: سيدة تركية تعمل في مجال روحاني بعيداً تماماً عن كل ما هو دجل وكلامي واثق منه، لكي يقابلها أي شخص يحتاج إلى موعد مسبق قبل سنة. في الساعة السابعة مساء سمعت بها، قررت أن ألتقيها فقالوا لي نضرب لك موعداً لتقابلها في السنة المقبلة، أخبرتهم أنني سألتقيها اليوم وركزت الفكرة في عقلي وأصررت على مقابلتها وبعد أن أنهيت حفلتي قالوا لي إنها في انتظارك، فقابلتها.
حين دخلت عليها قالت: أنت لم تدخل هنا إلا بأمر. بالطبع فهمت ماذا كانت تعني. لم يأمرها شخص ما، بل كنت أعرف أنني سأراها منذ أن ركزت الفكرة في رأسي. جلستي معها استمرت أكثر من ساعتين حين كان المفترض أن ألتقيها لمدة ثلث ساعة فقط.
والبارابسيكولوجيا؟
ـ أيضاً أستطيع أن أزعم امتلاكي بعض القدرات المتواضعة في التنبؤ بأحداث وتواريخ وأمور بعضها يتعلق حتى بالموت. وغالباً ما يحصل الأمر. حين كنت طفلاً، خفت من تكرار الأمر وصرت أخفيه عن الآخرين، أفكر وأتحدث فيه بيني وبين نفسي وأقول مثلاً فلان يموت غداً ويحدث بالفعل. لذا ابتعدت عن التصريح بهكذا أحداث حتى لا يعتبرني البعض شؤماً. وهو ما أعتبره حدساً قوياً لديّ أو إيحاءً ما. حين اكتشفت هذه الأمور حاولت معرفة أسرارها فقادتني إلى علوم البارابسيكولوجي وبدأت تفسير الظواهر.
هل تستخدم هذه العلوم في السيطرة على جمهور الصالة أثناء عزفك؟
ـ هو الأمر الوحيد الذي تكون فيه السيطرة ليست مطلقة مهما بلغت قدرات الإنسان الملموسة وغير الملموسة، ومهما بلغ تمكن العازف أو الموسيقي من أدواته، أصابعه وآلته الموسيقية، إذ يبقى عامل الطاقة يلعب دوراً.
في حال استخدمت طاقة سلبية مع الجمهور يعود مفعولها فوراً عليّ، وأشعر بمرض ووهن بعد الحفلة. وفي حال استحضرت طاقة إيجابية تكون الحفلة كذلك ويكون العطاء كبيراً جداً وهذا ما حصل في مهرجان أبي ظبي الأخير. ويحصل الأمر بشكل لا أستطيع أنا نفسي التخطيط له ولا الجمهور ولا غيره، لكن تجتمع الطاقة الإيجابية في مكان ما، في استقبال الناس للموسيقى فأشعر بها، مثل أي فنان، فأعيدها أيجابياً على الجمهور وبتألق وثقة وجرأة. وأحياناً أكون في أحسن حالاتي ومحضراً نفسي ومجرد أن أجلس وأضرب أول ضربة على العود أعرف أن الحفلة ستكون باردة وأفعل المستحيل بحرفيتي وخبرتي وأكثر من 500 حفلة قدمتها في أنحاء العالم ولا أفلح في محاولاتي، قد يكون في الحفل احتراف عال لكنه لا يخطف الناس من مقاعدهم ويزرعهم في غيمة.
نعود إلى جرح العراق؟
ـ آن الأوان لأن يندمل الجرح. ولن يندمل إلا إذا اجتمعت كل الأيادي وبدأت تخيطه غرزة غرزة، وتضييق الهوة الكبيرة التي ساهم فيها العرب قبل غيرهم. واليوم نطالب أشقاءنا حكاماً وشعوباً لعمل شيء ما حقيقي من أجل العراق، لأن التاريخ يقول حين يسقط العراق يقود المنطقة كلها إلى الانهيار، وفي اعتقادي اكتفينا من الانهيارات ويكفي حكامنا تفكيرهم الأناني. عليهم التعالي على الذاتية من أجل إعادة لحمة الأمة.
هل ما يزال لديك أمل في عودة العراق قريباً إلى الحياة الطبيعية؟
ـ المسألة منوطة بشكل أساسي بقدرة الشعب العراقي على تجاوز الأمر، والكف عن انتظار المعجزات من الغير. وأعتقد أن الأمر بدأ بالفعل وهذا ما يحصل اليوم إذ ما عاد يؤمن بأن الخلاص سيأتي على أيدي الغريب عربياً كان أو غربياً.. لكن المشكلة أن العراقي عاطفي، ويمكن لمساندة أي إنسان أن تمنحه القوة في المقاومة وخلق مستقبله بسرعة والمطلوب من الأشقاء مساندته في تخطي المحنة والبدء بالنهضة، لا المجيء ضمن قوة عسكرية، فهذا غير منطقي. نأمل على الأقل أن يسحب أي عربي أو مسلم يده إن كانت له يد تعيث في الساحة العراقية، فساداً واستخبارات وتصفيةَ حسابات وحروباً ضد الآخرين، وخاصة الرغبة العارمة لدى البعض في إشعال حرب أهلية أو طائفية على غرار تلك اللبنانية. ليتهم يتركون العراق يعيش بسلام بعد عقود من الحروب والقهر والفقر والظلم. ليت هذه الدول تحل نزاعاتها السياسية والاقتصادية بعيداً عن الشعب العراقي لأنها لن تفلت من العقاب، عقاب شعوبها والله والمجتمع الدولي والتاريخ الذي سيسجل كل شيء.
لدي أمل كبير بعودة العراق إلى المحافل الدولية، ولا بد أن يعود العالِم والفنان، وفي انتظار عودة منير بشير آخر وسيّاب جديد وجواد سليم شاب يطلع من عزّ الظلمة، ينحت نصباً آخر للحرية حقيقياً وأجمل، سأبقى أعزف جرح بلدي وآلامه وآماله.