القاهرة من عماد سيد أحمد : يتناول جمال البنا في هذه الحلقة أبعاد مشروعه لتجديد «الخطاب الديني» وفهمه لمعنى التجديد، ويعتبر أن «معركة» الحجاب، معركة سياسية في المقام الأول، وأن قانون المنع الفرنسي الخاص بالعلامات والرموز الدينية استغل سياسيا بدرجة كبيرة من قبل جماعات الإسلام السياسي, ويتحدث البنا عن موقفه من السُنّْة والمعايير التي اعتمدها لـ «تصويب» البخاري ومسلم، ويناقش إشكالية الحديث والتي بسببها جرى «تكفير» العديد من المفكرين أمثال نصر حامد أبو زيد، المفكر السوري الدكتور محمد شحرور، والمفكر السوداني محمود محمد طه، وبسببها عرف الأزهريين: الدكتور صبحي منصور وزوجته، والذي لاحقته الجماعات المتشددة، وما زالت، وبسببها أيضا منع الدكتور مصطفى محمود من كتابة مقاله الأسبوعي الشهير في جريدة «الأهرام».
وحول قضية الإصلاح من الخارج أم الداخل، يرى البنا أن الولايات المتحدة الأميركية أحسنت، بل وقدمت لشعب العراق خدمة جليلة حينما أقدمت على إزاحة النظام المستبد السابق وخلعت صدام حسين بالقوة، وأن هذا الشكل هو الأفضل والواقعي في مثل هذه الحالة, وفي ما يلي الحلقة الاخيرة من الحوار مع جمال البنا:
كيف تعرف مصطلح تجديد الخطاب الديني؟
- تجديد الخطاب الديني ضم إصلاح بعض الأخطاء في الفهم استكمالا لبعض النواقص التي حدثت بسبب تطور حاجات وقضايا لم تكن معهودة ثم العودة لروح الدين والفكرة الرئيسية فيه عدم السماح للتقاليد و«الكليشيهات» أن تتحكم في النصوص، لقد أراد رجال الدين تكييف الدين حسب آرائهم، لذا يجب تصحيح وتنقية الخطاب الديني من «الوثنيات» التي وضعها بعض رجال الدين عن جهل وتخلف وانغلاق وجمود، وحين طالبنا بفقه جديد وخطاب ديني جديد لم يكن بالأمر العجيب، لكن العجيب أن نظل ألف سنة، وأكثر، أسرى منهج وصفه أئمة المذاهب بـ «كأنه قرآن منزل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه»، لقد كانت الأسس التي وضعها الأئمة في القرنين الثالث والرابع الهجريين متلائمة مع الزمان والمكان ولكنها اليوم «متخلفة» تماما، ولا يعني التمسك بها سوى التخلف، لأننا لم نؤمر بعبادة الآباء والأجداد بل أُمِرّْنا بإعمال العقول، لم يعد هناك شك في أن التقيد بهذا الفقه كان من أكبر أسباب تخلف المجتمعات الإسلامية، لأنه لم يقتصر على إطار الفقه العبادي بل ضم بحكم شمول الفقه مجالات من صميم الاقتصاد والسياسة والاجتماع، فهو شارك في مسؤولية تدهور وضع المرأة واستشراء ظلم الحكام وشيوع الخرافة والشعوذة وسيادة الجهل والعقلية النقلية.
لماذا فقه جديد؟
- لأنه لم يعد كافيا «تجديد الفقه» أو «تطوير الفقه» أو حتى الاجتهاد, إن الصحابة عندما فقدوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقاموا منهجهم على ثلاثة مستويات: القرآن، فإذا كان ثمة نص في القرآن أخذوا به، فإذا لم يجدوا بحثوا عن السنة، (أي أعمال وأقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإذا وجدوا أخذوا بها، فإذا لم يجدوا اجتهدوا اتباعا لما يهديهم إليه فهمهم للموضوع ومطابقته لأصول الإسلام، وكان هذا حلا موفقا، فلا جدال أن القرآن هو الفيصل وهو الحكم، ولا جدال في أن السنة التي يشهد بها أمثال أبو بكر وعلي وعمر وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهم - تعد موثقة ويعمل بها، خصوصا أن العهد قريب والمجتمع واحد، فإذا لم يوجد نص في القرآن أو السنة فالحل الطبيعي هو الاجتهاد.
ولكن الحال اختلفت بعد ذلك، وبخاصة مع ظهور الفتن واستشرائها وامتداد الفتوح ودخول الملايين في الإسلام أفواجا، رغبة أو رهبة، حبا أو كيدا، ولقد كافح الأئمة، الذين أصبحوا أعلام الفقه وقادة المذاهب كفاحا طويلا وجابهوا التطورات الجديدة، التي كان أبرزها تفشي الوضع في الحديث وما كشف عنه علماء الحديث من علل في الرواية وتفشي الإسرائيليات في تفسير القرآن، ومع تضخم المشكلات الجديدة التي لم تكن مألوفة في مجتمع المدينة أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه تضخم الجزء الإنشائي من الفقه وتعين على الأئمة أن يضعوا له المبادىء والقواعد وكُلِلَ هذا بظهور «أصول الفقه» التي نهجها الإمام الشافعي في «الرسالة»، كان كفاحا بطوليا وتضمن أفضل ما يمكن أن يسمح به الزمان والمكان.
لكن ألف عام، كل عام يضم اثني عشر شهرا، وكل شهر يضم ثلاثين يوما، وكل يوم يضم 24 ساعة، خلال هذه الحقب المتوالية تدهورت في الدول الإسلامية العلوم والمعارف واضمحلت القوى السياسية وتعرضت لمؤثرات سيئة لا عداد لها, وفي الخمسمئة عام الأخيرة التي كانت أوروبا قبلها تتخبط في دياجير الجهالة والفوضي والظلام، بدأت يقظة أخذت تتبلور في القرن الخامس عشر وشاهد تسليم العرب لغرناطة سنة 1492 استكشاف كولومبس لأميركا، وليس هناك في الرموز ما هو أكثر دلالة، فها هو ذا عالم ينقضي، وها هو ذا عالم يبدأ، ولكن لا حِسَّ ولا خبر, إن خمسة قرون حافلة بالتطورات السريعة التي كان منها المطبعة واستخدام الآلات الحديدية والانتقال من كدح الأيدي والعضلات إلى قوة البخار والنار وظهور القطارات والسفن التجارية والتقدم في الأسلحة وفنون القتال وصنع السيارات واكتشاف الكهرباء التي قلبت الليل نهارا وأظهرت السينما والراديو وانتشار المعارف والصحف والمدارس وشيوع دعوات الديموقراطية وحركات الإصلاح الاجتماعي، ثم جاءت ثورة الاتصالات والتكنولوجيا الحديثة المتطورة وصناعة الحاسوب، كل هذا يراد منا أن نتجاهله ونظن أن ليس له أثر على المجتمعات الإسلامية وأحكامها بما فيها الفقه.
ليس العجيب أن نطالب بفقه جديد ولكن العجيب أن نظل ألف سنة أسرى منهج وضعه أئمة المذاهب كأنه قرآن منزل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
أنت الآن تطالب بفصل الأمة عن تراثها ومذاهبها؟
- لقد كانت الأسس التي وضعها الأئمة في القرنين الثالث والرابع الهجري متلائمة مع الزمان والمكان، لكنها اليوم متخلفة تماما ولا يعني التمسك بها سوى التخلف وليس هناك مبررات للتمسك بها، لأننا لم نؤمر بعبادة الأباء والأجداد بل أُمِرنْا بإعمال العقول وعدم الالتزام بما يضعه الآباء والسلف.
لقد تجمد الوضع بعد أن أرسى الشافعي «أصول الفقه» في الرسالة وانتهى أبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل إلى مذاهبهم ما بين القرنين الثاني والثالث الهجريين ولم يظهر مفكرون - باستثناء قلة محدودة - يقدمون جديدا له أصالة، وهؤلاء المجددون أمثال ابن خلدون وابن رشد وابن تيمية حتى الشوكاني اصطدموا بالأسوار العالية لقلعة الفقه فلم يستطيعوا لها اختراقا أو تجديدا أو تعديلاً، أما الآخرون فقد قنعوا بوضع المتون ليأتي جيل آخر ليضع الشروح على هذه المتون ثم يأتي جيل ثالث ليضع الحواشي للشروح,,, إلخ.
لم يعد هناك شك في أن التقيد بهذا الفقه كان من أكبر أسباب تخلف المجتمعات الإسلامية، لأنه لم يقتصر على إطار الفقه العبادي، بل ضم - بحكم شمول الفقه - مجالات في صميم الاقتصاد والسياسة والاجتماع، فهو شارك في مسؤولية تدهور وضع المرأة واستشراء ظلم الحكام وفق المنهجية في التنظيم السياسي وشيوع الخرافة والعقلية النقلية، والحقيقة أنه يمكننا القول: إن التقيد بالفقه التقليدي كان من أكبر المؤثرات في أصل تكوين الشخصية ومن أكبر أسباب ما اتسمت به هذه الشخصية من قصور.
إشكالية الحديث
والحدود في الإسلام
البعض يتهمك بالطعن في الحديث، وأنت تعلم أن قضية الحديث أو السنة عموما من القضايا الشائكة؟! والتي بسببها لاحقت تهمة «الكفر» العديد من المفكرين أمثال نصر حامد أبو زيد ومحمود طه، والدكتور محمد شحرور وغيرهم، كيف تتعامل مع هذه القضية؟
- سوف أصدر كتابا «لتجريد صحيحي البخاري ومسلم من الأحاديث التي لا تلزم، ونحن لن ندخل في جدال أن هذا الحديث صحيح وهذا غير صحيح، وهذا حسن وهذا ضعيف إلخ، فهذا عمل المحدثين والفقهاء ولكن سوف نعمل على قاعدة أن كل حديث يخالف نصاً من القرآن فهو غير ملزم لنا ولهذا وضعنا 12 معياراً قرآنياً للتثبت من مصداقية ثبوت الحديث من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو مبلغ وليس له أن يزيد أو يغير أو يبدل «إن أنت إلا نذير»، «إن أنت»، أدوات القصر والحصر، فمثلا القرآن يؤكد حرية الفكر والاعتقاد في أكثر من 100 آية، ويأتي الحديث الذي رواه عكرمة «من بدل دينه فاقتلوه» هنا سوف نتوقف عند هذا الحديث ونضعه جانبا.
مثال آخر، فعندما يأتي القرآن ويؤكد أن الغيب علمه عند الله وحده، ويقول الرسول نفسه: لا أعلم الغيب، إذن كل الأحاديث أمن ما بعد الموت مباشرة، وحتى أمور القيامة والجنة والنار، سوف نتوقف عندها ونقول: إن هذه الأحاديث لا تلزمنا لأن هذه الأمور من الغيب والغيب مما استأثر الله به، وبالتالي سوف ننحي ما يقرب من 200 حديث في البخاري ومسلم كلها تتعلق بالغيبيات.
مثال ثالث: الأحاديث التي تتعلق بالمرأة مثل أنها «خلقت من ضلع أعوج»، هذا الكلام أساسا كلام التوراة «ولا أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة»، وهذه اشارة لحادثة تاريخية معينة في ظرف معين، وليست من المبادئ، فضلا عن أن راويها غير منزه، ولو أن المحدثين أمناء لاعترفوا بذلك، والراوي رجل يدعى «أبو بكرة»، كان عبدا في حصن سقيف عندما حاصر الرسول هذا الحصن وأعلن أن كل من يؤمن بالإسلام يصبح حراً، فتدلى بكرة من الحصن ولذا سُمي أبو بكرة، وكان هذا الرجل رجلا ذكيا، فبعد أن دخل الإسلام وأصبح حرا بمقتضى عهد الرسول أصبح مع الوقت من أثرياء البصرة، وفي عهد عمر بن الخطاب اتهم أبو بكرة المغيرة بن شعبة بـ «الزنا» والمغيرة من أصحاب الرسول العظماء وكان واليا للبصرة، آنذاك، خليفة المسلمين عمر بن الخطاب اهتم بالأمر وحقق فيه وثبتت براءة المغيرة بن شعبة، وتم جلد أبي بكرة ورجلين آخرين معه بتهمة حد القذف، وتم جلد كل واحد من الثلاثة ثمانين جلدة، وقال لهم عمر بن الخطاب: «توبوا، لأن الآية تقول: «ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إلا إذا تابوا»، تاب اثنان منهم إلا أبو بكرة أبى أن يتوب وقال: «لقد شاهدت الواقعة بنفسي ولن أتوب».
وما رأيك في حد الرجم؟
- إن حد الرجم موجود في القرآن، وأول حالة رجم كانت بخصوص يهوديين والأحاديث التي لدينا ثلاثة تقريبا ليس أكثر، ومحتمل أن الرسول طبق مبدأ «شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يختلف»، لأنه لما أتى اليهود وطلبوا منه أن يلغي الرجم قال لهم الرسول «ولكن في دينكم الرجم».
وقاعدة «شرع من قبلنا شرع لنا»، مبدأ فقهي يتفق مع الإسلام، والإسلام يؤمن بما جاء به الرسل السابقون وأن كل صحيح الأديان السابقة على الإسلام لا يختلف أبدا مع القواعد والمبادئ الإسلامية ولكن يتفق معها، وبشكل عام فالإسلام هو الدين في الحقيقة وما يختلف هو الشرائع.
لكن المفروض أن نُحَكِّم القرآن في هذا، والقرآن لم يذكر الرجم أبدا، وبالتالي فإننا نستبعده ولا نلتزم بهذا الحكم، لأن من صلاحية الرسول أن يخفف في الأحكام، لأن الله سبحانه وتعالى قال للنبي: «إنك رحمة للعالمين» و«لست عليهم بمسيطر» إلخ، ويقول أيضا: «لست عليهم بجبار»، فالرسول لم يأت بحكم أشد وأغلظ من الأحكام القرآنية.
ما رأيك في الاجتهادات التي قدمها المفكر السوداني محمود محمد طه الذي تم إعدامه بسبب مواقفه الفقهية؟
- الحقيقة أن مشكلة هذا الرجل، الذي يتمتع بقدر كبير من الذكاء، أن منهجه غير سليم، وقد جاوزت أفكاره الاجتهاد إلى الارتداد، وهو قد جاوز لأن علامة الإسلام «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، فهو تطرف في آرائه.
المشكلة الأهم في هذه القضية أننا يجب أن نعلم أنه «لا يفل الفكر إلا الفكر ولا يفل الحديد إلا الحديد»، بمعنى أنه إذا أردت أن تهدم فكرا وتحطمه تحطيما فذلك لا يكون بإعدام صاحبه أو القضاء عليه أو محاربته، فهذا يخلف من يتعاطف معه، وبالتالي يجد له اتباعا، وحتى الآن وعلى الرغم من مرور ما يقرب من ربع قرن على إعدام هذا الرجل، فإن هناك من أهل السودان من يتعلق به وبفكره ويذكره، وأيضا من خارج أهل السودان، وإعدامه رَوّجَ لأفكاره أكثر ما روج هو نفسه لها.
البعض يردد أن فتوى الدكتور يوسف القرضاوي وما يقدمه من اجتهادات في الغالب يكون له خلفية سياسية، فما رأيك؟!.
- لا أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال، فالرجل له اجتهاداته ودوره الواضح، والله وحده هو الذي يعلم إن كانت اجتهاداته وآراؤه لها خلفية سياسية أم لا.
يضعك البعض في سلة واحدة مع خليل عبد الكريم ونصر حامد أبو زيد وسيد القمني تحت مسمى «الإسلام النقدي»؟
- هذا تبسيط مخل ومخالف للحقيقة، أولا: لأن هؤلاء السادة كل منهم مختلف عن الآخر، ومن باب أولى فأنا مختلف عنهم جميعا، ولو كلف الذين يذهبون إلى هذا الرأي أنفسهم وقرأوا ما كتبناه لما ذهبوا هذا المذهب، لأن الخلاف واضح وكبير جدا، فبعرضهم اتجاها يخالف النص القرآني، يعامل القرآن في ضوء تاريخية الحدث، وينظرون نظرة المستشرقين الذين لا يرجون لله وقارا، ومنهم من يعامل النصوص برؤى مختلفة وغير منطقية، ومنهم من له اجتهاده الخاص والذي نحترمه، إلا أنه يسلك طريقا مختلفا عن رؤيتنا والتي أفردناها في كتابنا «نحو فقه جديد»
لقد شاركت ضمن عدد من المجددين في ما عرف بـ «إعلان باريس حول تجديد الخطاب الديني»، على ماذا اتفقتم؟!.
- كان اللقاء تشاورياً، وقد دعا له مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان في باريس، وشارك عدد من الإخوة كالدكتور فيصل دراج والدكتور نصر حامد أبو زيد وأحمد عبد المعطي حجازي وغيرهم من الزملاء الأفاضل واتفقنا على عدد من القضايا المهمة، من بينها أن تجديد الخطاب الديني أصبح ضرورة ملحة من أجل الإصلاح الشامل، وأنه من الضروري التمييز بين الإسلام وتاريخ المسلمين فالتاريخ السياسي للمسلمين هو تاريخ بشري حافل، ما يوجب النقد والنقض، وتوصلنا إلى أن من أبرز المعوقات أمام تجديد الخطاب الديني في العالم العربي التوظيف السياسي للدين بواسطة بعض الحكومات العربية والجماعات المتطرفة وبعض الأحزاب السياسية لخدمة أهدافها الخاصة، ونرجو أن يتم البناء على هذا اللقاء الذي خرجنا بعده بـ «إعلان باريس» من أجل أن نسهم في عملية الإصلاح التي ننشدها جميعا.
معركة الحجاب
أنت صاحب موقف قديم من «معركة الحجاب»، حتى قبل أن تثار في الأيام الأخيرة سواء بسبب قانون المنع الفرنسي أو قضية حجاب المذيعات في مصر؟
- في البداية عندما تعرضت لموضوع الحجاب بالدراسة، قمت بدراسته من الناحية التاريخية أولا، فوجدت أنه كان أصلاً أصيلاً في كل الحضارات القديمة تقريبا، باستثناء الحضارة المصرية، وكل هذه الحضارات كانت توجب على الحرائر الحجاب وعلى الإيماء السفور، لدرجة أن القانون الآشوري يعاقب الجارية إذا تحجبت ويعاقب الحرة إذا أسفرت، نرى أن هذه الفكرة انتقلت عبر القرون المتتالية والحضارات واخترقت المجتمعات المختلفة والحدود حتى وصلت لعمر بن الخطاب نفسه، ونجده يضرب جارية بمقرعته، ويقول لها:«يا لوكاع تتشبهين بالحرائر» وفي أثينا وفي أوج الحضارة الأثينية - عهد سقراط وأفلاطون - كانت المرأة فيها تحكم كما لو أنها في حريم تركي، إن الأوضاع الواحدة توجد أحكاماً واحدة بالتأكيد.
لما ظهرت الديانة اليهودية عززت مسألة الحجاب، والتوراة تشتمل على ذلك ولما جاءت المسيحية أيضا رسَخّتْ هذا المعنى، وعندما جاء الإسلام كان هذا الوضع موجوداً، كما كان الرق أيضا، وهنا فرض الحجاب على الإسلام أكثر مما فرضه الإسلام، وحاول الإسلام أن يتخلص من الحجاب كما حاول أن يتخلص من الرق.
القرآن تعامل مع هذا الأمر على أنه يعطي خطوطاً عريضة، يبدأ من الواقع ولكن ينتهى إلى التحرير، بطريقة تجنب وضع أحكام محددة فاصلة ملزمة، والقرآن كان يستطيع أن يضع حدوداً وأحكاماً تفصيلية، ولكن هذا ضد التطور، القرآن أعطى في هذه القضية مبادئ عامة مثل: الحشمة، الابتعاد عن الابتذال والخلاعة، وما شابه.
أما بالنسبة للآية «وليضربن بخمرهن على جيوبهن»، فهنا أمر يقضي بتغطية فتحة الصدر، وهذا هو الحكم الوحيد، ولقد وردت كلمة الحجاب في القرآن الكريم في سبعة مواضع ويتضح من ذكرها أنها لا تعني أبدا زيا كما يتوهم الناس، وإنما حجابا، قد يكون كالجبل الذي جعله الله دكا عندما تجلى له في سورة الشورى، وقد تكون أغلفة على القلوب أو حجابا بين المؤمنين والكافرين يوم القيامة أو كناية عن غروب الشمس.
وحتى في الآية التي تعلق فيها «الحجاب» بنساء الرسول فإن الصياغة كلها بدءاً من «وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب» تستبعد أن يكون المضمون زيا، إنهم لن يسألونهن «من وراء زي»، ولكن من وراء ساتر، من نوع ما يحجب السائل عن نساء الرسول.
ماذا عن رأيك في قانون المنع الفرنسي؟
- هذا القانون كان خاطئا، والحجاب لا يتنافى مع العلمانية إطلاقاً، والتعددية من أصول العلمانية، ومن العلمانية ومبادئها والحرية الشخصية أن يرتدي الشخص ما يريد صحيح لم ترد مسألة الملبس وحريته في إعلان حقوق الإنسان ولكن هذه من البداهة، ولكن هذا القانون تم استغلاله سياسيا مثلما فعلت بعض التجمعات الإسلامية في فرنسا وأوروبا عموما واستطاعت أن تبرز على السطح وتجد لها شعبية أيضا هنا بعض الجماعات والتيارات التي حاولت استغلال هذه القضية والتي اتخذت منها تلك الجماعات معركة لها، وعلى الرغم من أن الأمر أبسط من هذا بكثير.
ماذا عن الحجاب زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم؟
- كل الشواهد لدينا تؤكد أن المرأة في عهد الرسول لم تكن تضع نقابا يغطي وجهها، وهذه الحقيقة يدل عليها قيام المرأة بدور فعال في المجتمع الإسلامي، شمل المشاركة في الصلوات وأداء الحج، والمشاركة في الحروب، ولم يكن معقولاً أن تقوم بهذه المهام منقبة.
والحالات التي تكشف أن وجوه النساء كانت مكشوفة على عهد رسول الله، وأنه تقبل هذا ولم يأمر واحدة بتغطية وجهها، على الرغم من تعدد لقاءات النساء بالرسول وهن مكشوفات الوجوه عديدة وتحفل بها الكتب، فلا داعي لذكرها، وقد أمر الرسول بألا تمنع النساء عن الصلاة بالمسجد وأمرهن بالحج ونص على أن يكن مكشوفات الوجوه عند الطواف، وأمر بأن تحتشد النساء جميعا عند صلاة العيد، ومن لم تكن لها ثوب فلتستعر ثوبا من أخرى.
بل إننا نجد حديثا في البخاري «كان الرجال والنساء يتوضأون في جامع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميعا، وجاء الحديث تحت باب حكم «وضوء الرجل مع امرأته في إناء واحد،» وجاء في «إرشاد الساري لشرح البخاري للعلامة القسطلاني الجزء الأول» قال: حدثنا عبد الله بن يوسف النفيس وقال:«أخبرنا مالك الإمام عن عبد نافع مولى ابن عمرعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ورواية أبي ذر وابن عساكر عن ابن عمر أنه قال: «كان الرجال والنساء» يتوضأون في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم جميعا، أي حال كونهم مجتمعين لا متفرقين.
هذه رواية قوية جدا، سلسلة الذهب كما يقولون، والبعض يقول: إن هذه الرواية كانت قبل نزول آية الحجاب، ولكن لما تحرينا الأمر وبحثنا فيه وجدنا في كتاب عمر بن الخطاب لابن الجوزي أن عمر هو الذي فصل بين الرجال والنساء عندما وجدهم يتوضأون، هذا معنى أن هذا الوضع استمر طوال عهد الرسول ثم أبو بكر وجزء من خلافة عمر بن الخطاب الذي نهى عن ذلك.
كيف تنظر لدعوات قاسم أمين لتحرير المرأة المصرية؟
- قاسم أمين لم يكن شخصا مشبوها، كما أن كتابه «تحرير المرأة» لم يكن يتضمن شيئا سيئا أو مخالفا، فقاسم أمين عُرف بالوطنية وعندما ألقت الظروف بعبد الله النديم بين يديه كوكيل نيابة أكرمه ومنحه مالا وأوصى برعايته في السجن ثم سافر للقاهرة يسعى إلى إطلاق سراحه، وكان هذا دأبه في كل ما يعرض عليه من قضايا لها طابع وطني، ولم يكن ما طالب به الرجل من تحرير المرأة في كتاباته المختلفة خروجا على الإسلام، ولكن تطبيقا للقرآن وإعمالا للفكر والعدل، وهما مما دعا إليه القرآن، وقيل: إن قاسم أمين كتب ما كتب بتأثير من الأميرة نازلي فاضل، ولكن هيهات، فأين هذا الرومانسي النبيل من تلك الأميرة النزقة؟، إننا نحملها فوق طاقتها وننسب إليها ما لا يتسع له صدرها, ومع أن كتاب «تحرير المرأة»، وضع المرأة المصرية على عتبة المستقبل، فإن المعارضة العنيفة حالت من دون أن يدرس ما قدمه قاسم أمين من قضايا دراسة موضوعية، وللأسف ما دعا إليه قاسم هو اليوم شيء عادي، بل أقل من العادي ولكن التقليد الأعمى وثقاقة الموروث تدفع بنا دائما للتأخر والجهل في آن.
قلت في إحدى مقالاتك: إن علم التجويد هو المدخل الشرقي للموسيقى ويفترض أن تتعلمه بنات الكونسرفتوار، كيف ذلك؟.
- قال أحد الفقهاء المعاصرين ممن يشغلون منصبا مرموقا: «نعم إن القرآن هو المعجزة العظمى للإسلام، ولكنه لا ينبغي وجود معجزات أخرى لتثبت الإيمان وترسخه في النفوس، إلخ».
وهذا كلام متهافت ركيك، لأنه يعني أن القرآن كمعجزة غير كاف وفي حاجة لعوامل إضافية، فضلاً عن أنه يخالف صريح القرآن من ناحية، وواقع الحال من ناحية، إن القرآن يتمتع بقوة الخلق والإبداع والتأثير ويعجز كل ما سواه عن أن يصل إلى ما وصل إليه، ومن أبرز عناصر الإبداع التي أودعها الله تعالى القرآن النظم الموسيقى، ولأنه أول ما يؤخذ به الإنسان إذا تلا وسمع الموسيقى، والموسيقى والكلام أصوات، وعندما تتآلف الأصوات بالطريقة التي درسها علماء الموسيقى فإنها تحدث آثارا عميقة في النفس، ليس فحسب في نفس الإنسان بل في الحيوان نفسه، ولسنا في حاجة لأن نلوذ بالمثيولوجيا اليونانية وما ذكرته عن «أورفيوس» الذي كان يسوق بالنغم الشجي المنبعث من الناي الحيوانات والوحوش، لسنا في حاجة لهذا المثل لأن لدينا أمثالا عربية عديدة، فمثلا في المأثورات العربية قصة لـ «الفارابي» الذي كان موسيقيا متمكنا عندما دخل على سيف الدولة وهم يتحدثون عن الموسيقى فأخذ آلته وركّبها بطريقة معينة وعزف عليها فأخذ القوم يضحكون فغيّر العزف فأخذوا يبكون وأخيرا غير طريقته فناموا فخرج وتركهم نائمين، وقد تكون هذه الرواية وغيرها نالتها المبالغة أو موضوعة ولكن الأمر المحقق الذي اتفق عليه القدماء والمحدثون أن للموسيقى أثرا بالغا في النفس الإنسانية يجعلنا كما يقول كارلايل: «نقف على حافة اللا نهائية».
وللقرآن موسيقاه الخاصة البديعة التي يكشف عن جانب منها التجويد والذي هو في حقيقة الحال نوع من التلحين الموسيقي للقرآن بما يتفق مع وضع القرآن ولم يكن هناك اختلاف في مشروعية التجويد.
ولا جدال في أن التجويد فرع من فروع الموسيقى الرفيعة يفترض أن تتعلمه بنات الكونسرفتوار وطلبة معاهد الموسيقى في ما يتعلمون لأنه المدخل إلى الموسيقى الشرقية، وأغلب الظن أن عدم تقدم العلماء القدامى إلى ما بعد «التجويد» يعود إلى ما روي في بعض الأحاديث عن كراهتهم للموسيقى كانت في الحقيقة لاقترانها عند العرب باللهو والشراب وليس لكونها موسيقى كما يعود أيضا إلى سيطرة وبروز علوم اللغة وبالذات البلاغيات التي جعلتهم يركزون على اللسانيات أكثر من الصوتيات.
ما رأيك في قول، إن هناك فنا إسلاميا وآخر غير إسلامي؟
- الحقيقة هذا كلام سخيف، فالإسلام يقدر الفن الهادف والجاد والأصيل وللأسف العقل العربي يعاني أزمة من أنه يتحول بشكل بطيء جدا وهناك أشياء لم نكن نقبلها منذ عقود والآن نقبلها بعد معارك طويلة وطحن في الهواء، وهذا كله بسبب إعمال العقل.
أميركا أحسنت ما فعلت
ما رأيك في القضية المثارة «الإصلاح إما من الداخل وإما من الخارج» وما رأيك في الدعوات القائمة لرفض أي إصلاح يأتي من الخارج وإن كنا في حاجة له؟
- الإسلام ليست له جنسية، فهو فوق الجنسيات، والحكمة ضالة المؤمن ينشدها أنى وجدها ونحن نطالب بالإصلاح منذ سنوات طويلة واليوم وعندما تأتي الولايات المتحدة الأميركية أو غيرها وتطالبنا بإصلاح أنفسنا نقوم برفض هذه الدعوة بحجة أنها دعوة أجنبية وبالرغم من أن الإصلاح والتغيير قضيتنا الأساسية، وبذلك نخسر قضيتنا من باب العناد.
بالنسبة للعراق، أعتقد أن أميركا أحسنت وأصابت تماما، وقدمت خدمة جليلة للعراق وأهله، فقد أزاحت أميركا نظام صدام حسين المستبد، الذي استعصى على العرب جميعهم، واستبد بشعبه وفعل به الأفاعيل وروّع جيرانه من المسلمين وهدد حياتهم، صحيح أن أميركا وتحديدا الإدارة الأميركية أخطأت وأساءت لنفسها قبل أي أحد وبخاصة بعد الصور الأخيرة التي نشرت عن التعذيب في سجن أبو غريب، ولكن ومع هذا فكل ذلك لايبدو قطرة في بحر إجرام صدام حسين، ولا ننسى أن من كشف فضيحة أبو غريب هم الأميركان أنفسهم، كما أن الشعب العراقي أصبح له دور ويتظاهر ويخرج إلى الشوارع، وقبل ذلك كان حاكمه يرتكب المنكرات - بالرغم من أن ظلم ذوي القربى أشد مرارة على النفس - ولا يستطيع أحد أن يقول له لا, ويجب أن نعلم أن أميركا دولة أجنبية ولن تستمر في العراق، وبوش نفسه لن يستمر في الحكم، ولكن العراق سوف يكون أفضل حالا وأكثر عافية.
في رأيك هل تصلح المعونات كوسيلة للإصلاح السياسي؟
- أريد أولا أن أقول إنني من ناحية المبدأ ضد كل المعونات، كما أنني ضد الاقتراض من الدول الأجنبية، وأنا أبني هذا القول كفلاح مصري يؤمن بالمثل «على قد لحافك مد رجليك» وكمسلم يؤمن بالحديث «ما عال من اقتصد».
والمفكر المسلم عندما يدرس نظرية الإسلام في الاستدانة، يمكن أن يفهم دروسا قيّمة وكلها في النهاية ترفض الدين ولا يمكن الاستدلال على جدواها بمشروع مارشال، الذي بنى ألمانيا بعد أن تهدمت بفعل هزيمة 1945 لاختلاف الأوضاع، لقد كان الغرب يريد بناء ألمانيا بالفعل حتى تقف أمام ألمانيا الشرقية الشيوعية، وكان لدى ألمانيا رجال يكرسون حياتهم لخدمة بلادهم كما كانت لديها مهارات وخبرات,,, إلخ، وكل هذا منعدم تماما في حالة المعونات التي تقدمها أميركا وغيرها إلى العالم الثالث، وقد تلقت مصر وحدها منذ «كامب ديفيد» أكثر مما تلقته ألمانيا من مشروع مارشال، وأهدرت كلها أو ذهب معظمها لجيوب سماسرة وعملاء وموظفين، أو أنفقت على مشروعات غير إنتاجية، ولهذا فإننا لم نتقدم بل تأخرنا وأصبح الدولار الذي كان يفترض أن يكثر من المعونة الأميركية نادرا ويساوي سبعة جنيهات كاملة! فإذا كان من الممكن استغلال هذه المعونات للضغط للإصلاح السياسي - أعني لتحقيق الديموقراطية وتعديل نظم الحكم الفاسدة ما بين ملكية أو قبلية أو شمولية - فقد يكون هذا أفضل ما يمكن من وسيلة سيئة لتحقيق غاية طيبة، ولكن هل يمكن هذا؟ أعتقد أنه غير ممكن فالوسيلة السيئة قلّما تنتج نتيجة طيبة، كما أني أشك في نية الدول المانحة، لأن سياسات كل دولة إنما تحكمها مصالحها الخاصة وليست مصالح الآخرين، هناك احتمال أن تكون هناك بعض المصالح للدول المانحة تتقاطع مع مصالح الدولة الفقيرة التي تتلقى المنح، وهنا قد تكون هذه المعونات حسنة وإن كانت المعونات نفسها سيئة وإن حسنها قد أريد بها مصلحة الدول المانحة أكثر من مصلحة الدول المتلقية، والموقف الأمثل أن نرفض المعونات جميعا ونعتمد على قوانا الذاتية، والقضية هي: هل النخب المصرية والنظم الحاكمة جادة في الإصلاح أم أنها غير جادة؟، إذا كانت جادة فهي ليست في حاجة لمعونة الغير، لأن في مصر أضعاف اضعاف المعونات لكنها إذا كانت غير جادة فلا فائدة في شيء وستهدر «البالوعة» كل ما تأتي به «الحنفية»، وسنظل متخلفين، بل سنزداد تخلفا!