فاطمة الحجري، الوسط: .. لنتخيل معا فرحة أمهات أنهكهن الصبر والانتظار عندما تتكحل أعينهن بعودة أبنائهن المعتقلين البحرينيين من سجون غوانتنامو، أية قرة عين تلك؟! غبطة ممتزجة بحزن ثقيل، هلاهل وتهليل وارتعاش فرح وعبارات يخالطها قدر وافر من الهذيان... أليست الصورة مستعادة من تلك التي رأيناها لأمهات رقصن فرحا في شوارع القرى والمدن عندما أطلق سراح أبنائهن من المعتقلين والمحكومين إبان العفو الشامل في العام 2001؟
أتذكرون أية فرحة عشنا؟ كانت الليالي تشبه الصباحات، الشمس لا تغيب لأنها كانت تشرق من أنفسنا، والقمر آنذاك بقي بدرا مساءات طويلة على غير عادته، ذلك لان الظلام الذي خنق النفوس وخيم لسنوات انقشع إلى غير رجعة...
عندما أطلقت الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان حملتها الوطنية للعمل على إطلاق سراح معتقلي غوانتنامو في النصف الأخير من مايو/ أيار الماضي كان الهدف تكرار الفرحة تلك، مع فارق في موقع الاعتقال الذي سيعود منه أبناء الوطن هذه المرة... لا بد.
وبشكل مواز، سارت خطى مركز حقوق الإنسان الذي ربما كان أكثر عملية في التعامل مع القضية، فتحرك على إيجاد محامين دوليين لتحريك القضية الراكدة منذ سنوات.
غوانتنامو وأبو غريب
كشف فضائح التعذيب في سجن أبوغريب في العراق، كان مادة صحافية دسمة تغني عن جوع شهور من البث والمتابعة والتحقيق، من منا تحمل مشاهد التعذيب وتجريد الإنسان من إنسانيته في أبوغريب وباقي السجون الأميركية في العراق؟ وإذا كانت قوات الاحتلال "الداعية الأكبر إلى السلام وحقوق الإنسان" قد قدمت إلى العراق قبل أكثر من عام من الآن، لتحرير شعب العراق والبحث عن أسلحة الدمار الشامل التي لم ير لها أثر.
باليوميات التي نتتبعها من مشاهد تفجير وقتل واختطاف ترجمت قوات الاحتلال مفهومها للسلام والقانون وحقوق الإنسان في بلد زعمت أنها تغزوه لتحرره، لكن ماذا نتوقع أن يكون مفهومها للحقوق والإنسانية في سجون غوانتنامو القابعة في شرق كوبا؟
لا شيء سوى الانتظار
الأهالي هنا ليسوا بمنأى عما يحدث، يتتبعون بشغف ما تبثه وسائل الإعلام من صور لسجناء مكبلين بالأصفاد والأغلال، يدركون رفض حكومة الولايات المتحدة السماح للمعتقلين بالمثول أمام أية محكمة أو هيئة قضائية، ويعرفون أنها تتكتم لدرجة السرية على أسماء المعتقلين وجنسياتهم وأعدادهم وحتى ماهية جرمهم وسبب اعتقالهم، لكنهم مكتوفو الأيدي، لا يستطيعون الوصول لأبنائهم ليزوروهم كما حال المعتقلين في باقي السجون في دول العالم، وعلى رغم ذلك يسرعون إلى أي بارقة أمل تطرأ، يتعلقون بالقشة كما يتعلق الغريق، ينتظرون الرسائل القليلة العدد والفقيرة في المحتوى، يقصدون الوفود الأمنية تارة والجهات الحقوقية تارة أخرى، فلا يحصدون إلا مزيدا من الانتظار والأمل الذي يهاجمه اليأس في كل حين.
سجون صممت للإذلال
في بيان أصدرته جمعية حقوق الإنسان في 19 مايو/ أيار الماضي أكدت "أن معتقلي غوانتنامو يرزحون في أبشع المعتقلات المصممة خصيصا لإهانة كرامة المعتقلين وإذلالهم وتحطيم معنوياتهم".
ولم يستبعد البيان أن "تتكرر مشاهد تعذيب سجن أبوغريب في سجون غوانتنامو التي تحتجز ستة من المعتقلين البحرينيين نقلوا إلى هناك بعد الحرب على أفغانستان من دون اتهام محدد أو محاكمة، في وقت تناقلت الأنباء تعرض أحد المعتقلين البحرينيين للتعذيب الوحشي على أيدي الجنود الأميركيين قبل شهور قليلة من الآن".
وفي التفصيل جاء: ان تلك المعتقلات "محاطة بسرية تامة ولا يسمح لوسائل الإعلام بزيارتها، حرم على المعتقلين الاتصال بالعالم الخارجي، إلا رسائل تصل على فترات متباعدة، الأمر الذي يتعارض مع جميع مبادئ حقوق الإنسان والشرعية الدولية".
واقع الحال
بعيدا عن متون البيانات والأخبار الصحافية، وقريبا من معاناة أهالي المعتقلين الذين يركزون الجهد الآن على النتائج التي سيخرج بها الناشط الحقوقي والمحامي كلايف سميث الذي غادر البحرين قبل أيام بعد حصوله على توكيلات الأهالي للدفاع عن أبنائهم، وبعد سلسلة لقاءات رسمية وأهلية وبعد ما أصدرت أخيرا المحكمة العليا الأميركية حكما قضائيا يجيز التقاضي أمام المحاكم الأميركية.
التعاطي مع معاناة معتقلي غوانتنامو وصلت إلى أوجها في الوقت الراهن، بعد أن كسبت تعاطف أعضاء مجلسي النواب والشورى من جانب، ومع اقتراب صدور الأمر القضائي الذي سيلزم "حكومة بوش" بالسماح لمحامي المعتقلين بالزيارة من جانب آخر، بعدما كانت الزيارات حتى يومنا حكرا على الوفود الرسمية بين الحكومات.
وفي الوقت الذي تحظى لجان مناصرة المعتقلين في غوانتنامو سواء العربية أو الأجنبية بدعم حكوماتها لتحريك ملف المعتقلين والدفع نحو محاكمتهم محليا كل في بلده، كالكويت والسعودية وقطر واليمن على الصعيد العربي، وبريطانيا واستراليا وفرنسا على الصعيد الأجنبي، إذ أفلحت هذه الدول في إقناع الإدارة الأميركية في استرجاع معتقلين لتتم محاكمتهم داخليا إن ثبتت التهم ضدهم، فإن أهالي المعتقلين في البحرين عبروا في أكثر من مناسبة عن عدم رضاهم عن الجهود الرسمية، واصفين المبعوثين الرسميين بعدم الأهلية تارة، ومنقوصي الجدية تارة أخرى.
رهان على حلحلة الملف
على صعيد متصل، يراهن ناشطو حقوق الإنسان على حلحلة هذا الملف العالق منذ سنوات في هذا الوقت بالتحديد دون باقي الأيام مع اقتراب موعد الانتخابات الأميركية المقرر عقدها في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، هذا من جانب، اما الجانب الآخر، فيتعلق بالحماسة والثقة التي يتحدث بها مندوب مؤسستي العدالة في المنفى والحقوق الدستورية الأميركية كلايف سميث خلال الحوارات التي أجراها محليا مع عدد من النواب والشوريين والأهالي، إذ راح يؤكد انه "يملك من الأدلة ما يكفي لتبرئة المعتقلين من تهم الإرهاب"، وخصوصا مع وجود نحو 600 محام مستعدين للدفاع عن معتقلي غوانتنامو البالغ عددهم 542 معتقلا. ويتكئ سميث في أدلته على "طريقة الاعتقال التي جرت في أفغانستان عندما رصدت الحكومة الأميركية مكافآت مجزية لكل من يعثر على المشتبه بهم ما فتح المجال على مصارعيه للوشايات التي راح ضحيتها أناس أبرياء".
معاناة الأهالي
وفي محور البراءة، يبقى ذوو المعتقلين متمسكين ببراءة أبنائهم الذين اعتقلوا في ظروف غامضة وقيدوا إلى سجون غوانتنامو من دون جرم محدد ومن دون محاكمة عادلة أو غير عادلة طوال تلك السنوات. يقول ماجد النعيمي، والد المعتقل عبدالله الذي سيق إلى سجون غوانتنامو وهو ابن 18 عاما في العام 2001 خلال مرافقته لرحلة إغاثة في باكستان:
"ابني كان يدرس في الإمارات، وذهب إلى باكستان مع عدد من الشباب المحملين بمواد إغاثة "..." اعتقلته الحكومة الباكستانية خلال صلاة الفجر، وسجنوه في سجن "كوهات" أواخر العام ،2001 وصلنا خبر اعتقاله من أشخاص مجهولين، تحدثنا مع السلطات في البحرين وبعثوا برسالة إلى القنصل البحريني هناك، لكنهم لم يعثروا عليه، بعدها عرفنا انه نقل إلى غوانتنامو مع كل الذين نقلوا... ومن يومها لم نره ولم نعرف حقيقة ما يعيشه ويعانيه، عدا رسائل مقتضبة لا تحمل إلا السلام وطلب السماح والرضا، من دون أية تفاصيل أخرى".
ويضيف النعيمي "يكرر عبدالله في كل رسالة انه بريء من أية تهمة، وكل رسالة تصل تهيج جروحنا وتجعل والدته طريحة الفراش من لهفتها عليه، فلا شيء لديها سوى الذكرى والصبر".
وبالمثل، يقول عبدالله كامل حاجي، إن شقيقه عادل ذهب بشكل فردي إلى باكستان بعدما رآه من مشاهد الدمار والمأساة التي خلفتها الحرب الأميركية على أفغانستان عبر التلفزيون.
ويزيد "عن طريق الصحف عرفنا انه قبض عليه مع جماعة مسكتهم إحدى القبائل الباكستانية فقط لأنهم عرب ومسلمون وسلمتهم إلى السلطات الباكستانية التي سلمتهم بدورها إلى الأميركيين وهم مجردون من السلاح ولا تهم محددة بحقهم".
"أخبارهم انقطعت قبل عام تقريبا، لدى عادل بنت عمرها الآن 12 عاما تتقاسم مرارة فقد والدها مع والدتها، لم تعد هناك رسائل، والسبب مجهول، وعندما تحدثنا إلى الجهات الحقوقية اخبرونا أنها حالة عامة تسري على كل ذوي المعتقلين".
وعن الرسائل القديمة يقول: "كانت تصل مقتضبة، قليلة الكلمات، تصل لتهنئ بالعيد مثلا، ولا تحمل إلا السلام "..." جميع المعتقلين لا يستطيعون أن يكتبوا كثيرا بسبب الرقابة".
أما بسؤاله عن المعاناة التي يعيشها وأسرته جراء فقد أخيه يقول: "ماذا تتوقعون من أخ فاقد أخاه وهو حي؟ نتذكره في كل وقت، ونتابع أخبار تعذيب المعتقلين في سجون غوانتنامو فتتعذب أرواحنا ألف مرة، لم نعد نعرف عنه شيئا، فالأخبار انقطعت جميعها "..." الله اعلم بالحال، والدته وزوجته لا تملكان إلا الدموع والدعاء وتعيشان مع صور جد قليلة له لأنه كان لا يحب التصوير".
أما إلهام إبراهيم زوجة المعتقل عيسى المرباطي، فهي مسئولة عن خمسة أبناء يلحون في السؤال عن مصير والدهم الذي غابت أخباره منذ أكثر من ثلاث سنوات، تقول: "منذ عام انقطعت الأخبار والرسائل، وقبل شهور قليلة وكلنا المحامي سميث الذي وعدنا بتحريك القضية وفي المحاكم الأميركية "..."، الجهات الحقوقية في البحرين سواء المركز أو الجمعية بذلا جهودا محمودة ووقفا معنا كثيرا، لكننا نحتاج إلى وقفة مشابهة من المسئولين وأصحاب القرار على غرار ما تفعله الدول الأخرى التي تبدو أكثر جدية في الاهتمام بمصير أبنائها ورعاياها".
وتضيف "بتكاتف الجهود يمكن أن نصل إلى نتيجة، فالضغط يمكن أن يحرك الوضع كما فعلت بعض الدول".
"عيسى لم تكن له صلة بأية جهة، كان إنسانا عاديا ذهب لحمل المساعدات عن طريق باكستان وبعد فترة عرفنا عن طريق الانترنت انه اعتقل "..." أطفاله يكبرون وهو بعيد عنهم، والصغار يسألون لماذا ليس لدينا أب كباقي الأطفال؟ فيما يلوذ أبنائي الكبار بالصمت الذي يكون أكثر بلاغة في التعبير عن الألم المخنوق في صدورهم... لا نملك إلا أن نفوض أمرنا إلى الله". بعد التفويض إلى الله، فوض الأهالي قضية أبنائهم إلى المحامين الذين يؤكدون أن تحركهم الآتي سيكون بداية النهاية لمعاناة المعتقلين وذويهم، وحتى تحين بداية النهاية يأمل الشارع البحريني قدرا أكبر من التعاون على الصعيد الرسمي يوازي جهود الحقوقيين الذين يبذلون جهودا واضحة لوضع النهاية لرحلة العذابات علهم يظفرون بالنصر ويشعرون بفضلهم الكبير في حال خرجت الأمهات يهللن بعودة أبنائهم... إلى هنا ونختم بالآية التي تكررها قناة المنار دوما لتشعرنا أن النصر قريبا قرب أنفاسنا "إنهم يرونه بعيدا... ونراه قريبا".


للتأريخ... عهود ومواقف دولية لا تجد اعترافها في غوانتنامو

تكفل المادة "9" في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وجود مراجعة قانونية الاعتقال من جانب محكمة متخصصة، فيما تكفل المادة "14" من العهد نفسه، الحق في محاكمة عادلة، وتنص المادة "49" على انه لكل شخص حرم من حريته بالتوقيف أو الاعتقال حق الرجوع إلى محكمة لكي تفصل هذه المحكمة دون إبطاء في قانونية اعتقاله، وتأمر بالإفراج عنه إذا كان الاعتقال غير قانوني.
تقضي المادة "59" في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بأنه لكل شخص وقع ضحية توقيف أو اعتقال غير قانوني حق نافذ في الحصول على تعويض.
قال رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر جاكوب كلينبرغر، في بيان أدلى به أمام لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في 18 مارس/ آذار من العام 2003: "أن قانون حقوق الإنسان وقانون اللاجئين والقانون الإنساني الدولي فيها هدف مشترك هو حماية حياة الإنسان وسلامته وكرامته "..." وهذه المجموعة من القوانين وآليات الإشراف عليها تشكل شبكة مترابطة من الضمانات للأفراد، خصوصا في الحالات الطارئة، عندما يكونون أكثر عرضة للانتهاكات. ويشكل إعداد وتطوير هذه المجموعات من القوانين على مدى نصف القرن الماضي إنجازا إنسانيا ملفتا. وقد أنشئ نظام شامل لا يكون فيه أية دولة فوق القانون ولا يقع أي شخص خارج نطاق حماية القانون. وإذا طبق بصورة صحيحة وكاملة، يظل القانون الدولي أحد أقوى الأدوات المتوافرة تحت تصرف المجتمع الدولي للحفاظ على النظام والاستقرار الدوليين وضمان سلامة وكرامة جميع الأشخاص". وفي 27 مايو / أيار من العام 2003 طلب رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر من وزير الخارجية الأميركي ومستشار الأمن القومي من السلطات الأميركية تطبيق الإجراءات القانونية اللازمة وإجراء تغيرات ملموسة تطال أكثر من 600 محتجز في غوانتنامو.
في مقابلة أجرتها منظمة العفو الدولية في أغسطس /آب من العام 2003 قال المعتقل السابق في غوانتنامو محمد نعيم فاروق إنه يعتقد بوجود الكثير من الأشخاص الأبرياء محتجزين في القاعدة البحرية، مقترحا أن يقف المجتمع الدولي في وجه ما يحدث وأن يضع حدا لهذا الظلم. رفضت إدارة بوش الخضوع لاتفاقية جنيف الثالثة واعتبروا أن كل معتقلي غوانتنامو "محاربون غير شرعيين"، ليضموهم إلى قائمة اللصوص والمجرمين والإرهابيين، رافضة إسباغ صفة أسرى الحرب على المعتقلين الذين تتهمهم بالانتماء إلى "القاعدة"، وتعتبرهم مقاتلين معادين ينتمون إلى نظام طالبان. أكد مسئولون في وزارة الدفاع الأميركية اعتماد وسائل التحقيق القاسية مع سجناء غوانتنامو التي وافق عليها وزير الدفاع وأدانوها بدورهم.