دخلت ذات يوم بيت صديق عربي يدرس في جامعة السوربون، وفوجئت بأنه يعلق على جدار غرفة الضيوف في منزله الباريسي مقلاة قديمة ذات مقبض خشبي متآكل وقد علاها الصدأ، وعندما سألته عن السبب الذي دفعه إلى اختيار المقلاة، قال بكلمة واحدة “فولكلور”، وكان لا بد لي أن أذكر صاحبي بأن الآنية التي تنتهي إلى متحف أو جدار يجب أن يكون قد مضى زمن طويل على هجرها واستبدالها، وأذكر أنني قلت لصاحبي وهو من قرية عربية، إن والدته قد تقلي البيض هذا المساء بمقلاة مماثلة، وحبذا لو يرسلها إليها.

ولأن الشجى يبعث الشجى، فقد تذكرنا معاً، صديقي وأنا، تلك الحكاية التراثية عن جوع مزمن وفريد، فقد رُوي عن رجل طاعن في الشقاء أنه كان يوقد ناراً تحت مقلاة لا يوجد فيها شيء، وبدأت تحمرّ وتفوح منها رائحة الحديد المحترق، وكانت حجة الرجل كما قال، أنه رُوي عن أبيه بأن جده قلى فيها ذات يوم قطعة من اللحم.. وهو يبحث عما تبقى من الرائحة.
بالطبع ثمّة مبالغة في معظم الحكايات الشعبية الموروثة تحوّلها إلى ما يشبه الكاريكاتير، فحين يضاعف رسام الكاريكاتير أنفاً أو أذناً عشرات المرات فلكي يقول لمن يشاهد عمله إن هذا العضو أو ذاك هو الأبرز في هذه الشخصية، بل هو توقيعها.

وما أعنيه بالفولكلور السياسي لا يختلف كثيراً عن المقلاة، سواء تلك التي علّقها صديقي على جدار منزله الباريسي، أو التي قلى فيها رجل طاعن في الشقاء الهواء. فثمّة أحزاب وتنظيمات سياسية في الوطن العربي، لم يتبق لها من الماضي غير الطقوس، وما يقترن بالأطلال من أغنيات وأناشيد، أما الأفكار والمفاهيم والنظريات فقد أصبحت في خبر كان، وحين لا تجد الفكرة من يغذيها ويديم فاعليتها ويشحنها بعوامل جديدة فإنها تذبل وتتحول إلى هشيم، وغالبية التنظيمات الفولكلورية تفعل ذلك، فهي إذ تهجر الفكرة لمصلحة الشعار، تضحّي بالبرتقالة وتحتفظ بقشرتها وما تبقى من رائحتها.

لهذا قد يقلّ أعضاء تنظيم فولكلوري عن عدد أصابع اليدين، رغم أن الصراع على منصب الأمين الخاص.. لا العام، قد لا يختلف كثيراً عن صراع بين مرشحين في تنظيم يبلغ عدد أعضائه أكثر من مليون.
وما أفهمه من مصطلح الفولكلور ليس السائد الشعبي فقط، إذ لا بد من القطيعة بين الأداة واستعمالها كي تتحول إلى مجرد ذكرى، أو قرينة شيء ما. فالآلات القديمة التي كانت تستخدم لشحذ السكاكين أو للكنس أو لطحن القهوة حلّت مكانها آلات حديثة، سهلة الاستعمال وكهربائية لا تبذل فيها اليد جهداً عظيماً من أجل محصول شحيح.

وفي السياسة هناك أفكار أنهى الزمن صلاحيتها وأصبحت كأشعة الكواكب المتلاشية والمنقرضة، لكن ضوءها لا يزال سائرا نحو الأرض.
وهناك، على ما يبدو، وصفتان لتجديد صلاحية ما انتهت صلاحيته، الأولى هي المط، وليّ العنق، كي تستجيب الفكرة لما هو طارئ وجديد، والثانية تجديد الفكرة من خلال تفجير ممكناتها الهاجعة، وغالباً ما تكون الوصفة الأولى هي ما يجتذب الناس، لسهولتها، ولأنها لا تتطلب استقراءً معمقاً، أو بحثاً عن الممكنات.

لهذا تتحول حتى الأفكار العظيمة إلى ما يشبه المقلاة المهجورة المغمورة بالصدأ، وهذا ما يفسر ما يُسمى الانكفاء الايديولوجي أو “الدوغمائية” التي ما إن تستبد بذهنية ما حتى تحجرها وتحشو الدماغ داخل الجبس، بحيث يتوقف الوعي عن النمو، ويصبح المُبتلى بهذا الداء آخر من يعلم بما حلّ به.

والسائح الغربي الذي يشتري طربوشاً أو كاميرا من صناعة مطالع القرن الماضي، لن يرتدي الطربوش بدلاً من القبعة في بلاده، ولن يلتقط الصور لأطفاله بكاميرا عمياء، قيمتها الوحيدة في كونها صُنعت قبل مائة عام.
وقد يستخدم هذا السائح الطربوش وهو يمتطي جملاً بين الأطلال في هذا العالم القديم، لكنه ما إن يحزم حقائبه حتى يرميه، وإن اصطحبه فمن أجل التندر أو من أجل حفلة تنكرية في حفلة رأس السنة.

أعرف، بالطبع، أن الأفكار ليست طرابيش أو كاميرات عمياء قديمة، وأن هناك من الأفكار ما وُلد قبل خمس ألفيات ولا يزال قادراً على مواصلة الحياة، لكن السياسة ليست أفكاراً مجرّدة، أو فلسفة كونية تتمحور أسئلتها حول الحياة والموت والوجود والعدم.
أفكار السياسة متحركة، وقابلة للتمدد والانحسار، لأن العمل السياسي هو أساساً فن الممكن، وبالتالي فهو فن المراوغة، والسجال والقدرة على الاستباق. لهذا، فالنظريات القديمة التي وُلدت في عالم كانت تضاريسه السياسية مختلفة جذرياً عن تضاريس عالمنا التي بها الكثير من الرومانسية وظلالها، ولم تكن تستفيد من منجزات العلوم الإنسانية كالسايكولوجيا والانثربولوجيا، لأن هذه العلوم كانت في طفولتها.

وقد يكون من حق أي إنسان أن يستجيب لهواجس “النوستالجيا” ويعيش في الماضي وقد أغلق الأبواب، وأوقف عقارب الساعة أو قلعها من جذورها، لكن مثل هذا الإنسان ليس من حقه أن يتحول إلى واعظ أو منظّر، لأنه عندئذٍ سيرتطم حتماً بعوالم لم تكن مدرجة في أجندته، وسيكون أشبه بمن يحارب طائرة بسيف، أو من يسابق سيارة حديثة على ظهر بعير أو حصان.
الفولكلور آسر، وله جاذبية، عندما يكون بالفعل تعبيراً عن قطيعة بين الواقع والرمز وبين الاستخدام وذكرى هذا الاستخدام. أما مقلاة صاحبي، والتنظيمات الطللية فهي بالتأكيد فولكلور من طراز آخر، إنها فولكلور سياسي.