كم كنت أود ان أعلّق على أحداث النجف التي تفجّرت قبل أيام، لكن أي كلام بهذا الشأن إما يسوق الى اتهامي بالمزايدة أو يفضي الى مواجهتي بمباركة لحدث قد يثبت التاريخ في يوم من الأيام انه حدث استثنائي. فباعتقادي ليس مألوفاً ان تتحول عاصمة دينية كالنجف الأشرف الى حقل رماية، ولكن يظهر ان «السيادة» كالشاعر ... يجوز لها ما لا يجوز لغيرها.
وهكذا، مع تعذر التعليق، اعتقد ان النبأ الآخر الذي يستحق التوقف عنده هو اعتذار صحيفة الـ«واشنطن بوست» لقرائها عن خذلانها اياهم في تغطيتها المسألة العراقية.
ًهنا اتوقع ان يهب بعض أخوتنا محاولين تذكيرنا مجدداً بعظمة المفاهيم المعروضة علينا (او المفروضة ...لا فرق)، بدليل ان الـ«واشنطن بوست» بجلال قدرها ... تعتذر بينما لم يعتذر ـ مثلاً ـ ياسر عرفات من شعبه ولو مرة واحدة.
ولا شك ان الاستعداد للاعتذار مكرمة، والإقرار بالخطأ فضيلة. وحسناً فعلت الـ«واشنطن بوست» بهذا الاعتذار حفاظاً على البقية من احترام الناس لها ولاستقلاليتها التي جعلت منها في يوم من الأيام منبراً حراً كشف قاذورة «ووتر غيت»، وصوتاً مجلجلاً شجاعاً ضد فاشية اليمين المتطرف الذي اورق وأثمر في عهد الرئيس رونالد ريغان... وها هو يتوالد ويستولد في عهد الرئيس جورج بوش الابن.
الـ«واشنطن بوست» التي خاض منها بن برادلي وبوب وودوارد وكارل بيرنشتين معركتهم الظافرة لكشف «ظلامية» أرباب ماكينة الحزب الجمهوري وتآمرهم على ابسط مبادئ الديمقراطية، حوربت بلا هوادة في عهد ريغان عندما تبنى اليمين المتطرف صحيفة منافسة تنطق باسمه في العاصمة الاميركية هي الـ«واشنطن تايمز». وتلقت «التايمز» من الريغانيين كل الرعاية والتسريب المفيد بهدف كسر شوكة «البوست»، وما زالت حتى اليوم الناطق شبه الرسمي باسم «المحافظين الجدد». وفي المقابل ظلت «البوست» الظاهرة الاعلامية المحترمة التي تليق بقارئ حر يحترم الحرية ويأنف التآمر والكذب والتآمر.
ظلت كذلك حتى مأساة 11 سبتمبر (ايلول) 2001 وما تلاها من استغلال سيئ للشعور بالصدمة في الشارع الأميركي.
وفي حين استطاعت صحف قليلة جداً، كالـ«النيويورك تايمز» ، استعادة توازنها واستأنفت دورها التنويري التشكيكي، انقادت الـ«واشنطن بوست» لحملة الشحن والتخويف التي اعتمدت لشن حرب على كل من يرى «المحافظون الجدد» انه آن أوان تأديبه أو تركيعه. بل، ونشطت في صفحات «البوست» أقلام متعصبة مثل تشارلز كراوثهامر محرضة على كل أشكال الحرب على العرب والمسلمين والاوروبيين والليبراليين والمستقلين من كل عرق ولون، بينما صمت العقلاء وخففت أصواتهم.
وهكذا، خلال العامين الأخيرين فقدت «البوست» احترام الألوف من جمهورها الوفي. وأذكر انني التقيت في لندن قبل بضعة أشهر سيدة أميركية في الخامسة والثمانين من العمر، كانت انتقلت قبل ربع قرن من نيويورك للعيش في العاصمة الأميركية، ولم يطل بها الزمن حتى صارت من قراء «البوست». هذه السيدة أخبرتني انها هجرت الصحيفة في العام الماضي عائدة الى الحبيب الأول الـ«نيويورك تايمز» حسب قولها «بعدما تضايقت من جبن الواشنطن بوست وخذلانها قراءها باستكانتها التامة لادارة بوش».
حالة هذه السيدة النيويوركية، تنطبق على كثيرين. ولذا أميل الى الاعتقاد بأن الصحيفة تشجعت أخيراً على مراجعة حساباتها بعدما تبين لها الكم الهائل من الاكاذيب والافتراءات الذي تورطت وغيرها من وسائل الاعلام بترويجه بالوكالة عن «الماكينة الجمهورية ـ المحافظة» لتسويغ نهج الحروب الاستباقية المفتوحة على الجميع. وبعدما اكتشفت ان حبل الكذب قصير حقاً في عصر الانترنت والصور التلفزيونية الحية التي يكرهها جداً وزير الدفاع دونالد رامسفيلد.
ولكن اذا كانت الـ«واشنطن بوست» قد تحلت ـ ولو متأخرة ـ بفضيلة الإقرار بالخطأ ... أما آن الأوان لتعميم هذه الفضيلة على من يفترض انهم أحرى بالاعتذار؟ فهم من أهل البيت، وكما يقال «صاحب البيت أدرى بالذي فيه»؟