أي ربح يحققه الزعيم الشيعي مقتدى الصدر يعتبر خسارة للحكومة العراقية الموقتة، كونها لم تستطع استيعاب تياره ولم تتمكن بالقدر نفسه من إلغائه في معادلة الترتيبات المقبلة. بيد ان الأخطر في المواجهة بين الطرفين أنها نقلت البعد الديني، والشيعي تحديداً، إلى الواجهة منذ أقحم بعض وزرائها إيران في الصراع. ومع افتراض أن الأخيرة كانت المستفيد رقم واحد من الحرب الأميركية على العراق، فالصحيح أيضاً أن جرّها إلى التعاطي مباشرة والأوضاع الداخلية في البلد المأزوم لا يمكن أن يدفعها إلى التنازل عن سلطاتها المعنوية ازاء شيعة العراق وارتباطهم الروحي بالنجف الأشرف. ما يعني أن المعركة تصبح دينية وتلتقي عند حاجة إيران إلى تكييف ملامح عدوها الحقيقي أو الافتراضي.
والحال أنه كان أجدى أمام حكومة اياد علاوي الافادة من اتباع الصدر لتشكيل تيار معارض يفسح في المجال أمام تترتيب البيت العراقي ديموقراطياً. وليس في إمكان رموز المعارضة السابقة لنظام الرئيس المخلوع صدام حسين احتكار كل السلطة الممنوحة إليهم أميركياً، لأن ذلك يحول المعركة إلى صراع بين الداخل والخارج من دون احترام قواعد اللعبة الديموقراطية القائمة أساساً على توسيع حجم المشاركة وتداول السلطة، وطالما أن الأمر يتعلق بفترة انتقالية، فإن منطق الأشياء يحتم ألا يتكاثر فيها الأعداء المحليون الذين لا تستطيع الخطابات شديدة اللهجة إلغاءهم وبين الاتجاه نحو تصدير عدو ما أنه أكثر خطورة وتجاهل الأعداء الحقيقيين تضيع فرص التعايش الديموقراطي. وليس في مصلحة أي حكومة عراقية موقتة أو شرعية أن تترك آثاراً عميقة في ذاكرة العراقيين التي لم تشف بعد من تسلط النظام السابق وجبروته.
خطأ حكومة علاوي أنها تريد اقناع العراقيين أن لا جدوى من مقاومة الأهداف الأميركية عبر السلاح. لكنها لا تقدم وصفة مقنعة حول بديل آخر، والأمل في انتشار السلاح وغياب الأمن والاستقرار أنه رديف لوجود قوات الاحتلال مهما أضفي عليه من مصطلحات، لأن القتل واحد وإن تعددت مصادره.
والاحراج الذي تتعرض له الحكومة العراقية ليس بعيداً عن المطلب الأميركي، كونه يخدم حسابات واشنطن لمرحلة ما بعد تسليم جزء من السيادة. والحكمة تقضي اطفاء الحريق أولاً قبل البحث عن مُشعله، طالما أن حرائق العراق ليست دينية محضة أو عرقية محضة أو سياسية محضة، ولكنها تخليط من كل أصناف الأهوال التي يمكن أن تصيب بلداً لم يخرج من الحرب بعد. ولا تصمد معادلة نهاية الحرب أمام ما يحدث في العراق ما دام أن كذبة تسليم السيادة لأهل البلد امتداد لكذبات أخرى لا تقل سخرية وألماً مثل أسلحة الدمار الشامل أو بناء واحة الديموقراطية وجلب الإعمار والاستقرار. ولا تعدو مواجهات النجف أن تكون طبعة منقحة لجولات جديدة من الحرب غير المنتهية حتى وإن تغايرت وجوه المتحاربين وألقابهم.
لا تُكسب الشرعية بالحرب. ولكن الحرب حين تكون شرعية من منظور أخلاقي على الأقل، فإنها تصبح مبررة مثل الطلاق الذي هو أبغض حلال عند الله. وخطأ الحكومة العراقية الموقتة أنها تريد كسب شرعيتها بالقوة، تماماً كما فعلت الولايات المتحدة في الحرب على العراق، إذ ارادتها وأقرتها في الواقع.
وبصرف النظر عن تباين أهداف الحربين الأميركية على العراق والحكومية على تيار الصدر، فإن النتيجة واحدة اسمها تدمير الأرض والإنسان. وكان أجدى بحكومة علاوي ألا تنوب عن الأميركيين في حرب ليست حربها، فهي رسمت اسبقيات تثبيت الأمن والاستقرار والانصات إلى نبض الشارع في توفير الخدماتة وإقرار دولة القانون والمؤسسات، لكنها وقفت عند منتصف تالطريق لدى تجزئة السيادة غير القابلة للتصرف إلا من طرف الشعب، وفي حال كان خصومها غير ديموقراطيين وغير منضبطين لقوة القانون، فإن موقعها في القرار إن كان يحتم عليها عدم الوقوف في مقاعد المتفرجين، فإنه بالقدر نفسه من المسؤولية يفرض ألا تحول جزءاً من الشعب إلى أعداء.