لن يكون هذا اليوم الأسود الوحيد في التاريخ السياسي للبنان، أنه مجرد يوم في مرحلة انتقالية طالت ولا تزال تمدد لنفسها بنفسها. وقد أخطأ كل من ظن أن ثمة استقراراً حصل في هذا البلد، بسبب تدفق السياح صيفاً، أو لأن الحروب تحولت مباريات في كرة السلة وكرة القدم، أو لأن «حروب الآخرين» على أرضه باتت تخاض على الشاشات بين «سوبر ستار» و«ستار أكاديمي»... الاستقرار الحقيقي لا بد أن يكون سياسياً - اجتماعياً يستشعره المواطنون ويطورنه، ولا يكون بتدخلات سافرة وبشعة من النوع الذي سمّم أجواء البلد في الأيام الأخيرة.

هذا الذي يسمونه اليوم تمديداً للرئاسة الحالية ما هو إلا تمديد لحالة يعيشها لبنان منذ نحو ثلاثة عقود. فهذا الحكم أصبح على صورة الحكم الذي انشأه وعلى مثاله، وأصبحت الرئاسة اللبنانية أقرب إلى فرع للرئاسة السورية، الأولى تستمد قوتها ونفوذها وبقاءها من الثانية، ولا شأن للأولى إلا ما تمنحه لها الثانية. وإذ يُحكى عن «رئاسات» ثلاث في لبنان، فإن ما يعرفه اللبنانيون جيداً أنها رئاسات مخطوفة ومصادرة ولا رأي لها إلا ما تراه دمشق. أما البرلمان، الذي خوّله الدستور انتخاب رئيس الجمهورية، في واحدة من أهم صلاحياته وأعلاها، فلا داعي للتعويل عليه في عملية انتخاب حرة وسيادية ونزيهة، لأن الأكثرية الساحقة مخطوفة بدورها ومصادرة بل مسحوقة أيضاً.

لذلك، لا عجب أن يصير اخراج «الاستحقاق الدستوري» على هذا النحو «التراجيكوميدي». لا جديد في الأمر سوى أن اللاعبين المحليين، نظراًَ إلى تفانيهم في الخضوع للقوة المهيمنة، ظنوا أنها تستطيع أن تبدي لهم بعضاً من الاحترام الذي يعتقدون أنهم يستحقونه، أو حتى ان تكون أكثر لطافة معهم هم حلفاؤها المضمونون. لا شيء من ذلك، ومن الخطأ أصلاً افتراض وجود السياسة حيث هي مفقودة منذ زمن، خصوصاً أن السياسة اعراف وتقاليد بمقدار ما هي قوانين ودساتير. كل ذلك مفقود. والذين لا يعترفون بأن النظام اللبناني تغير طبيعة وممارسة وروحاً، هم الذين يشعرون اليوم بخيبة أمل. الشعب فقد الأمل ولم يعد يشعر بالخيبة، انه ينتظر ليرى.

أقل ما يمكن قوله في مسرحية تعديل الدستور ان مخرجها أنهى جدلاً داخلياً وخارجياً استمر نحو سنتين بأفضل حل سيئ. لا يمكن وصفه بأنه حل خلاّق، انه مجرد فرض ارادة، بامتياز، وبكل الفجاجة المعهودة. الأكيد أن المواقف الدولية، من الولايات المتحدة وبريطانيا إلى فرنسا والمانيا، هي التي عجلت بهذا الضغط الأقصى على معارضي التمديد. ليست هذه المرة الأولى التي تؤدي فيها التدخلات الخارجية إلى نتائج عكسية. ففي كل مراحل الأزمة اللبنانية، وبالأخص منذ ترك لسورية أن تتصرف في لبنان وبلبنان، وبمباركة دولية، كانت هذه التدخلات تدفع لاعبي السياسة اللبنانيين إلى أحضان القوة الوحيدة المهيمنة.

والآن، بعدما استحكمت هذه القوة، وبعدما أصبحت الساحة اللبنانية ساحتها الوحيدة اقليمياً، وبعدما أصبح الوضع الاقليمي مترابطاً من العراق الى فلسطين الى لبنان، فإن كل من يتخيل انسحاباً سورياً تلقائياً وطوعياً ومجانياً من لبنان يكون واهماً جداً.

لا شك ان ما أملى هذا الاخراج الاعتباطي لمسألة التمديد هو قلق دمشق وخوفها من المرحلة المقبلة اقليمياً. لكن، بعيداً عن الاعتبارات الخارجية، يشكل هذا الاخراج تعبيراً عن فشل ذريع في العلاقة السورية ـ اللبنانية، فهو لا يعني سوى أن الثقة معدومة الى حد يستحسن معه عدم «تجريب» رئيس منتخب جديد. كل هذا العمل منذ نحو ثلاثين عاماً، كل هذا الجهد لإحكام السيطرة وابعاد أي سياسي وموظف يشتم لديه منحى معاد أو يشتبه لديه بنبرة استقلالية، وكل هذا «التعايش» و«التفهم» و«التكيف» الذي أبداه اللبنانيون للأمر الواقع، وكل الخطابات عن الاخوة والبلد الواحد «ذي الشعبين»... إذا كان كل ذلك لا يتيح لـ«الحلفاء» اللبنانيين انتخاب رئيس غير معاد لسورية، فإن ذلك لا يعني سوى ان التكاذب سيد الموقف، وان الطرفين يقيمان علاقة فاشلة لا يستقيم فيها إلا العصا اذ يشهرها القوي ليفرض ارادته. وهو قد فعل.