أول مرة وقعت فيها عيناي على الكاتب المغربي الراحل محمد شكري كانت في مقهى في مدينة أصيلة المغربية. كنت أشارك في ندوة من ندوات مهرجان أصيلة قبل عشر سنوات, وكانت ندوة تكريمية للروائي السوداني الطيب صالح يشارك فيها كتاب ونقاد عرب من بينهم الراحل إميل حبيبي وهشام شرابي وبرهان غليون وسعيد يقطين.

دخلت المقهى بصحبة عدد من الأصدقاء المشاركين في المهرجان ورأيت رجلاً يقف على رأسه محاولاً أن يوازن جسده فوق كرسي قش عتيق. واستمر وقوف الرجل على رأسه فترة زمنية أظنها قد طالت. (وقد علمت في ما بعد أن تلك كانت رياضته التي يمارسها إلى أن كبر وأكل جسمه المرض. كان يقف فترات زمنية طويلة على رأسه وعلى الشرفة كذلك). لم أتبين وجه الرجل إلا بعد أن قفز عن الكرسي وانتصب على قدميه وواجهنا بوجه مجهد زائغ العينين غير مبال. في تلك اللحظة تبينت ملامح صاحب "الخبز الحافي", ذلك المتسكع ابن طنجة القريبة من أصيلة, والأديب الذي طبقت شهرته الآفاق على رغم أنه لم يتعلم القراءة والكتابة إلا بعد أن تجاوز العشرين من العمر. الصديق القاص والروائي المصري عزت القمحاوي حاول أن يخلد لحظة وقوف محمد شكري على رأسه بأخذ لقطات له بآلة التصوير التي استلها عزت من كتفه في اللحظة التي تعرف فيها على ملامح شكري. التمع فلاش الكاميرا بصورة متتابعة وأمّل القمحاوي نفسه بثروة من الصور ينشرها في صحيفة "أخبار الأدب" التي يعمل بها. لكن القدر شاء أن تتعطل الكاميرا ويذهب جهد القمحاوي في تصوير صعلوك طنجة أدراج الرياح.

تمثل لحظة اللقاء تلك, التي تبعها حديث مقتضب مع محمد شكري الذي استل نفسه من بيننا وعاد إلى تسكعه في أرجاء مدينة أصيلة, طبيعة شكري وزهده في الأشياء والأضواء والشهرة الكاذبة. لقد أصبح كاتباً بالصدفة بعد أن تعرف اليه عدد من الكتاب الأجانب الذين سحرتهم مدينة طنجة فأقاموا فيها وكتبوا بعضاً من أعمالهم الأساسية انطلاقاً من فضائها وعوالمها المفتوحة الغامضة. كان بين هؤلاء كتاب في حجم الأميركيين تنيسي وليامز وبول باولز والفرنسي جان جينيه, وقد صحبهم شكري في أحياء طنجة وتلصص عليهم, بعباراته هو, وكتب عنهم بعضاً من أجمل نثره وذكرياته. هؤلاء كانوا نافذة شكري على الكتابة. بعض ما كتبه رواه لهم شفوياً فترجموه ونشروه في مجلات كانوا يكتبون هم أنفسهم فيها. لم يكن كتب "الخبز الحافي" عندما أدعى أن لديه سيرة مكتوبة, وما لدينا من طبعة "الخبز الحافي" هو ترجمة محمد برادة لما نشر في الفرنسية من نص رواه شكري شفوياً. وهكذا بدأ شكري يكتب بالعربية ولا يجد من ينشر له من دور النشر. الوحيد الذي تجرأ على النشر له كان سهيل إدريس الذي نشر له مجموعته القصصية "مجنون الورد" عن دار الآداب. لكن "الخبز الحافي" التي نشرت بالفرنسية والإسبانية قبل العربية ظلت تنتظر سنوات حتى قيض لها أن تنشر في المغرب. تلك الرواية الجريئة الفضائحية, التي تميط اللثام عن المسكوت عنه في العالم السفلي للمدينة المغربية, أصبحت حديث الكتاب والقراء من المحيط إلى الخليج, وتناقلتها الأيدي وصورت نسخها القليلة التي وصلتنا وتبادلها الأصدقاء ومحبو الأدب في كل العواصم العربية.

ومع أن شكري أصدر بعد "الخبز الحافي", حوالى ثمانية كتب, إلا أن تلك الرواية ظلت عمله الأساس الذي يلتصق باسمه ويقيم الصلة بينه وبين قرائه. ولعل ذلك يعود لا إلى فضائحية ذلك العمل بل إلى صدقه وحرارته, وتطابق القول مع المقول, والجرأة غير المسبوقة في الأدب العربي المعاصر لدى الحديث عن أمور يندى لها الجبين, ولا يجيء الكتاب العرب على ذكرها ونسبتها إلى حياتهم الشخصية. لكن غاية الأدب في معظم الأحيان هي أن يصدم لا أن يهدهد الأحاسيس ويدلك المشاعر الاجتماعية الكاذبة" غايته أن يكشف عن عورة المجتمع ويفضحه أمام نفسه. وقد كان محمد شكري من الجرأة بحيث يكون تلك العين البصاصة التي تتلصص على المجتمع فتعرض بالكتابة ما خفي عن الأعين من ذلك المجتمع المخادع الذي تعود أن يداري قسوته وفحشه وظلمه لمن لا حامي لهم: الأطفال, والنساء, والفقراء, وأصحاب العاهات. وقد كان الراحل محمد شكري نصيرهم, وصوتهم الذي يعلو باسمهم في عالم الرواية حتى بعد رحيله عن عالمنا.