يلف غموض كثيف صورة المشهد السياسي اللبناني في اليوم التالي لموافقة المجلس النيابي على تعديل الدستور وتمديد ولاية الرئيس إميل لحود ثلاث سنوات. وبما أن الصورة مشوشة، إلى هذا الحد، ولدى جميع المعنيين، فهذا يعني أننا في مأزق.
هناك مَن يحاول دفع هذا المأزق بlt;lt;تكبير الكلامgt;gt;. القائلون بlt;lt;موت الجمهوريةgt;gt; وlt;lt;انتهاء الديموقراطيةgt;gt; يبالغون غير مدركين أنهم، بذلك، يلغون شروط قدرتهم على المعارضة. والقائلون بlt;lt;انتصار الخط الوطنيgt;gt; وlt;lt;غلبة التنسيق مع سوريا على المشاريع المشبوهةgt;gt; يبالغون أيضاً غير مدركين أنهم يقدمون تقويماً سلبياً جداً لجهدهم في انتصار كل من lt;lt;الخطgt;gt; وlt;lt;التنسيقgt;gt;.
يتوجب على المرء أن يكون مكابراً حتى لا يعترف بحقيقة المأزق. إن تحوّل التمديد بعد تعديل الدستور إلى خيار وحيد دليل على وجود مشكلة. والمشكلة، في المضمون، هي عدم انعقاد تسوية حول لبنان ما يجعله، مرة أخرى، ساحة صراعات كانت على الدوام عنصر تهديد له. والمشكلة، في الشكل، هي أن الإخراج الذي اعتمد يدل على هشاشة في وضع الائتلاف الحاكم فكيف إذا أضيف إلى ذلك التأثير الذي تمارسه المعارضة (المسيحية تحديداً).
لقد أثبتت الأسابيع الماضية أن التحالف المؤيد لهذا الشكل من العلاقات اللبنانية السورية هجين.
ثمة حلفاء لسوريا يقدمون لها دعماً شعبياً. إنهم الأقوياء في طوائفهم (رفيق الحريري، وليد جنبلاط). يريد هؤلاء مقابلاً محلياً لذلك. لذا فإنهم يعاندون، ولو بتفاوت، ويضعفون، بالتالي، أوراق المساومة في يد دمشق. وثمة حلفاء يعطون سوريا ولكنهم يتعرضون إلى مزاحمة جدية (نبيه بري). يغلّب هؤلاء، في النهاية، lt;lt;التحالفgt;gt; على ما سواه. وثمة حلفاء يأخذون من سوريا مواقع نفوذ مبالغاً فيها. هؤلاء يؤيدون بلا تحفظ سواء كان الخيار لحود أو غيره (باستثناء آل المر اللحوديين (أسباب خاصة). ويحتل lt;lt;حزب اللهgt;gt;، في هذه المروحة، موقعاً حرجاً إذ إنه مضطر إلى المفاضلة بين الاطمئنان المؤكد إلى لحود بحكم المعرفة والتجربة وبين الاصطفاف الداخلي الذي يثيره التمديد والذي يكشف، إلى حد ما، المقاومة على صعيد وطني.
إذا كانت هذه حالة lt;lt;التحالف الحاكمgt;gt;، فإن خصوم الشكل الراهن للعلاقات اللبنانية السورية في وضع lt;lt;أسهلgt;gt;. ليسوا مدينين لدمشق بشيء. وهم، في حالة البطريرك صفير، دائنون أو هكذا، على الأقل، ما قاله لهم بعض المقربين من سوريا. يريد هؤلاء تسوية سورية مع وضع لبناني يشكلون نواة صلبة فيه. ومع أن شعارهم هو lt;lt;احترام الدستورgt;gt; فإن التسوية المرتجاة تنهض على الحيّز الذي يحرّره الردع الأميركي للنفوذ السوري في لبنان. ليس معنى ذلك أنهم lt;lt;يراهنونgt;gt; على الولايات المتحدة. ولكن معناه المؤكد أنهم لا يمانعون من الاستفادة من موازين قوى مفترضة من أجل إنتاج تسوية يقدمونها على أساس أنها الأكثر قدرة على حماية سوريا وحماية لبنان وحماية شكل آخر من العلاقة بين البلدين.
الحصيلة الإجمالية للمشهد اللبناني، منظوراً إليه من دمشق، أن مجموعة عوامل التقت، وعلى رأسها الانفجار (الموقت؟) في الائتلاف الحاكم، وجعلت من أي اختيار آخر، غير لحود، مدخلاً إلى تراجع مفتوح على المجهول وعلى احتمال التلاقي بين حلفاء متذمرين وlt;lt;خصومgt;gt;، ولو عاقلين، إنما على قاعدة سياسية تتضمن بعض ما ترفضه سوريا في الظرف الدولي والإقليمي الراهن.
قد لا تكون مشكلة سوريا مع بعض اللبنانيين، من الأطياف كلها، اعتراضهم على لحود. المشكلة، على الأرجح، امتلاكهم لتقدير قائل إن لحود خيار مستحيل. وهو مستحيل، بالضبط، لأن سوريا لن تجرؤ على مواجهة أميركا خاصة إذا مالت إليها دول غربية أخرى. إن هذا التقدير يعني نوعاً من استبطان موازين قوى ناشئة ترغم دمشق على التراجع. والاستنتاج السياسي من ذلك أن من يمتلك هذا التقدير لن يكون في وارد الدعوة إلى أي صمود جدي إذا تعرّض لبنان إلى ضغوط خارجية.
النتيجة lt;lt;الطبيعيةgt;gt; لما تقدم هي تبلور القرار القائل بأن كلفة الأزمة الناجمة عن التمديد أقل من كلفة الأزمة الناجمة عن التراجع، أو عمّا كان سيبدو تراجعاً. من هنا لم تمانع دمشق في تحمّل مسؤولية الأزمة.
غير أن ما جرى اكتشافه بسرعة هو أن الوضع اتجه نحو مأزق لا نحو أزمة. أي أن ثمة خطأ حصل في تقدير الكلفة. وينعكس هذا الخطأ في غياب أي مضمون واضح للمرحلة المقبلة وفي نوع الميوعة السياسية التي نعيشها الآن. لقد برز احتمال أول. ثم برز احتمال ثان. ثم لم نعد نعرف ماذا سيحصل.
الاحتمال الأول: كنا متجهين نحو تجديد للرئيس لحود لست سنوات عبر انتخابات. وقيل إن العهد الجديد سيثبت الخيار الإقليمي، ويتحرّر نسبياً من الحلفاء، ويطلق ورشة إصلاحية يمكنها أن تكسب قطاعات شعبية يتم، عبرها، تعويض خسارة العهد وسوريا بالشركاء في الائتلاف. لقد جرى تداول هذه الصيغة وبدت ملامحها في ما نقله زوار الرئيس. غير أنها لم تحظ بحقها من النقاش الذي كان سيستحضر تحفظات ذات صلة بالتجربة السابقة ومصيرها، كما بتراجع قوة الدفع الإصلاحية وزيادة وزن قوى الاعتراض. كما أن هذه التحفظات كانت ستطال التلويح شبه الانقلابي الذي سيجد نفسه في مواجهة مع خصوم العهد الأول والخصوم المستجدين للعهد الثاني، ناهيك بالتحالف، أو التنسيق، بين الطرفين.
الاحتمال الثاني: تراجع الاحتمال الأول فجأة فبتنا أمام تمديد لثلاث سنوات من دون انتخاب. واستقر الوضع على تشاور مع أقطاب في الائتلاف الحاكم (باستثناء جنبلاط) يوحي أن تسويات كثيرة عقدت. يعني ذلك أن التجديد lt;lt;التغييريgt;gt; تحوّل إلى تمديد lt;lt;تمديديgt;gt;.
ثم دخلنا في ضباب. شكل الحكومة الجديدة؟ رئيسها؟ صلاحياتها الاستثنائية في وجه البرلمان؟ الحريري؟ التوازن في رأس السلطة التنفيذية؟ توزيع المسؤولية عن الملفات؟ تكنوقراط؟ وزراء دولة؟ سياسيون على الهامش؟ توزيع الصلاحيات حسب lt;lt;الطائفgt;gt;؟
الاحتمال الأول مكلف. الاحتمال الثاني مكلف. لكن الغموض هو دليل مأزق قد يتمادى ويجعل كل أمل بأي إصلاح في مهب الريح. هل يمكن، مثلاً، بعد تجربة lt;lt;البوانتاجgt;gt; الأخيرة، lt;lt;المغامرةgt;gt; بسن قانون انتخابي عادل؟ هل يوفر تمديد من ثلاث سنوات أفقاً لأي مشروع؟ هل سندخل، بعد أيام فقط، في المعركة الرئاسية للعام 2007؟
أكثر من ذلك، ثمة تناقضات تستدعي توضيحاً.
إن التناقض قائم بين منطق يدافع عن التمديد لدواع إقليمية، ما يستدعي توسيع القاعدة السياسية للمواجهة، وبين منطق يدافع عن التمديد لدواع إصلاحية موجهة، أساساً، ضد lt;lt;شركاءgt;gt; بما يقود إلى تضييق القاعدة السياسية ولو على أمل (زائف؟) بأن تتسع مع الزمن و... النجاح.
هذا تناقض حقيقي قد لا يملك أحد ترف تأجيل البت به. لماذا؟ لأن الوضع شرع يتعرض إلى ضغط دولي. كان يمكن القول، مثلاً، إن التمديد استباق لضغط أميركي أو رد عليه ولكن، في المقابل، يمكن الزعم بأن التحرك الفرنسي هو رد على التمديد ولو اتخذ شكل البحث عن دور. وفي انتظار حل هذه الأحجية فإن السؤال المطروح: بأي وضع لبناني داخلي نتعاطى مع تدخل غربي قد يتحول إلى مشروع تدويل؟ أكثر من ذلك، بأي وضع لبناني lt;lt;نواجهgt;gt; في ظل ما يبدو نوعاً من الغياب لأي احتضان عربي جدي لخطوة التمديد؟
على المعنيين بالشأن اللبناني إدراك أن التمديد جعل المناعة الداخلية أقل في حين أن الضغط الخارجي ازداد. والرئيس لحود هو بين هؤلاء المعنيين علماً بأنه من الصعب مفاتحته بذلك لأن كلاماً من هذا النوع لا يقال في فترة مخصصة لتقبل التهاني.
إن المأزق المشار إليه يكون كارثة إذا عومل بتجاهل أو قيل إن إدارة الظهر له هي أفضل علاج.
مرة أخرى قد يدفع لبنان ثمن العجز عن إنتاج معارضة متماسكة. لقد حالت صراعات السلطة، في السابق، دون ذلك. ويحول دون ذلك اليوم الغموض الكامل حول تركيبة الائتلاف الحاكم في السنوات المقبلة. إلا أن هناك أسباباً أخرى لتعثر المعارضة. فهذه لن تنجح في التشكّل كجبهة بعد أن فشلت في التوافق على مرشح. والمعلوم أن الفترات الانتخابية لا تخدم وحدة المعارضة. ثم إنها لن تتصرف كمن يستدرج تدخلاً أجنبياً وتخشى من مزايدات على يمينها تقود الشارع المحبط. أضف إلى ذلك أنها في غير وارد صفقة مع الحكم ولا في موقع القدرة على نسج تحالفات مع قوى أخرى. وأخيراً فإن بينها من يريد التبرؤ من تصريحات اعتبرت lt;lt;التمديد فعلاً تفجيرياًgt;gt;.
المأزق اللبناني شامل. لا وجود لمخارج عادية. وليس مؤكداً أن الوضع كان سيكون أفضل بكثير لو أن مسار الأسابيع الأخيرة اختلف قليلاً.
- آخر تحديث :
التعليقات