لان إنكار البديهيات خطر للغاية بقدر ما هو سهل للغاية، فإن أحاديث الاستاذ هيكل التي تبثها قناة lt;lt;الجزيرةgt;gt; تبدو بالغة الاهمية، لأنها تستدعي الى الوعي العربي العديد من البديهيات التي تعرضت للإهدار والإنكار في خطابنا السياسي والثقافي. من هذه الزاوية فإنني أزعم ان تلك الاحاديث تمثل أقوى حملة لإبطال مفعول الافكار lt;lt;المفخخةgt;gt; التي سربت الى العقل العربي خلال السنوات الاخيرة.
خذ مثلاً حلقة الخميس الماضي (26/8) التي تحدث فيها الاستاذ هيكل عن الملف الفلسطيني، وقال إنه أكبر من فلسطين والفلسطينيين، لأنه جزء من مشروع كبير يهدد أمن الامة العربية والاسلامية كلها. وهو مشروع امبراطوري تخطط له وتباشره الولايات المتحدة، واسرائيل أداة ورأس رمح فيه. وفي حين ان الاخيرة تحقق مآربها وتمضي حثيثاً صوب تصفية القضية والشعب من خلال الاستيطان والابادة اليومية المنظمة، فإنها تفتح الطريق في الوقت ذاته لمشروع الهيمنة، الذي يتجاوز حدود العالم العربي، منطلقاً الى قلب آسيا، واصلاً الى تخوم الصين.
أعرب الاستاذ هيكل عن رفضه واستنكاره لمصطلح lt;lt;التضامنgt;gt; مع شعب فلسطين، قائلاً بوضوح وحسم ان ذلك الادعاء يمثل تسطيحاً ساذجاً للقضية، التي تمس صميم الامن القومي العربي. الامر الذي يعني ان الدفاع عن فلسطين هو في حقيقة الامر دفاع عن الذات وعن أمن الامة بأسرها. يعني أيضاً ان العرب اذا قدموا شيئاً لفلسطين، فإنهم لا يتفضلون على lt;lt;أشقائهمgt;gt; ولا يمنون عليهم، وانما هم في حقيقة الامر يدافعون عن وجودهم ومصالحهم العليا. يعني كذلك وباختصار ان ضياع فلسطين لن يكون إلا فصلاً تمهيدياً لضياع الامة العربية بأسرها. وهو ما ينطبق عليه المثل العربي الشهير: أكلت يوم أكل الثور الابيض!
تساءل الاستاذ هيكل: أين نظرية الامن القومي العربي؟ وكان سؤاله استفهامياً واستنكارياً في الوقت ذاته. ذلك انه بدأ بالاشارة الى الخطر الذي يلوح في الافق، من جراء تقدم مشروع تصفية القضية الفلسطينية مستصحباً معه تقدماً موازياً لمشروع الهيمنة، الامر الذي يعني بشكل مباشر انكشاف الامن العربي، ومن ثم تهديد مصير الامة. ليس ذلك فحسب، وانما قال منبهاً ومحذراً ان الذي تشهده المنطقة الآن في فلسطين والعراق ليس إلا تمهيداً لمشروع التمكين للهيمنة الذي سيكون معركة القرن الحادي والعشرين.
بعد ان بسط هذا المشهد المؤرق تساءل عن نظرية الامن العربي، بصيغة بدت في الوقت ذاته مستغربة ومستنكرة ان تواجه الامة مخاطر وتهديدات من هذا القبيل، ثم تغيب فيها استراتيجية للدفاع عن أمنها ووجودها.
استطراداً من هذه النقطة أثار الاستاذ هيكل قضية العمل العربي المشترك، أياً كانت صيغته، باعتبار ان تغييبه في ظروف التحدي الراهنة يعد صدى عبثياً ولا معقولاً يمكّن من الاستفراد بكل قطر على حدة وافتراسه. وأبدى دهشته من تعثر العلاقات العربية الايرانية وانقطاعها في بعض الحالات، في الوقت الذي يعد تمتين تلك العلاقات من ضرورات الاحتشاد في مواجهة الاخطار المحيطة، خصوصاً ان ايران من الدول القليلة التي ما زالت تتحدى بثبات مشروع الهيمنة الاميركية.
فضح الاستاذ هيكل أيضاً كيف تلاعبت اسرائيل بورقة السلام، ووظفتها من أجل تكريس الاحتلال، وقال ان اسرائيل لم تجرؤ على شن هجومها الاستيطاني لابتلاع الضفة الغربية إلا بعد حرب عام 73، التي أعلن في أعقابها الرئيس السادات انها lt;lt;آخر الحروبgt;gt;، اذ ان غصن الزيتون الذي أشهره الرئيس المصري السابق اعتبره الاسرائيليون ضوءاً أخضر لشن هجومهم الاستيطاني الاول. وكان الهجوم الثاني بعد زيارة الرئيس السادات للقدس عام 77، أما الهجوم الثالث والاكبر فكان بعد توقيع اتفاقيات اوسلو عام 93 بين قيادة منظمة التحرير واسرائيل.
لم يكتف الاستاذ هيكل في هذا الكلام بتذكيرنا ببعض البديهيات المهمة في الملف الفلسطيني، ولكنه أيضاً بدد الاوهام التي سوّقها البعض في ما يخص ذلك الملف. ومجمل الموقف الذي عبر عنه يفسر لنا الى حد كبير السبب الذي دعاه لان يخرج عن صمته، ويعاود الاطلال علينا بعد عشرة أشهر من lt;lt;استئذانهgt;gt; في الانصراف. ورغم انه في خطاب الانصراف ذكر انه سوف يبتعد فقط ولن يعتزل، وانما سيظل حاضراً من خلال ما يعده من ملفات أو عبر شاشة التلفزيون، إلا انني أرجح ان يكون توقيت خروجه على الملأ الآن فرضته عوامل عدة، في المقدمة منها سخونة وجسامة الاحداث التي تلاحقت على المنطقة، والفوضى التي ضربت أطنابها في الساحة الثقافية واستصحبت محاولة الانقلاب على منظومة المسلمات والقيم الشريفة المستقرة في الضمير العربي.
وليس من شك في ان هذه المحاولة، التي ما زالت مستمرة، تستفز الضمير الوطني وتستنفره. ولذلك فإن استدعاءها لصوت في نزاهة ومرجعية الاستاذ هيكل يبدو أمراً طبيعياً بل ضرورياً. ذلك انه اذا لم يتكلم في هذا الظرف فمتى يتكلم اذن؟ واذا سكت فإن ذلك سيعد بشارة كبرى للميليشيات المتربصة بالمسلمات والثوابت، ولمنتجي ومروجي الافكار المسمومة والمفخخة، التي تسوق الاستسلام والانبطاح من ناحية، والانخلاع من الثوابت من ناحية ثانية.
إن الخطر الذي نحن بصدده مزدوج. فهو ليس متمثلاً فقط في ما يوجه الى الامة من سهام وطعنات من الخارج، ولكنه يتجلى أيضاً في حملة التجريح والتقويض لأبرز وأهم مسلمات المجتمع وثوابته، الامر الذي يعني ان المعركة دائرة على جبهتين، الاولى في الداخل والثانية في الخارج. ويعني في الوقت ذاته ان الطعنات التي تستهدفنا ليست موجهة الى صدورنا فحسب، وانما هي موجهة أيضاً الى ظهورنا. وهو تزامن ينبغي ان يستلفت انتباهنا، وان يدفعنا الى التساؤل عما اذا كان الامر مجرد lt;lt;صدفةgt;gt; ام ماذا؟
يضاعف من خطورة التحدي ان الميليشيات المهاجمة لا تجد صعوبة تذكر في شن حملاتها، وان الافكار الفتاكة والمفخخة التي تروج لها يمكن تسويقها بسهولة بالغة في ظروف المنابر المفتوحة. اذ يكفي مثلاً في محاولة ضرب المقاومة واغتيالها معنوياً ان يوصف المقاومون بأنهم lt;lt;إرهابيونgt;gt; أو lt;lt;حربجيةgt;gt; أو lt;lt;أعداء السلامgt;gt;، اذ بالالحاح على أوصاف ملغومة أو مسمومة من هذا القبيل يرجى ان تهدر قيمة المقاومة وتشوه صورتها، وتقرن بمشاعر الاستياء والاستهجان من جانب الرأي العام المتلقي.
واذ أفهم ان تستخدم الابواق الاسرائيلية أو الاميركية أوصافاً ومصطلحات من هذا القبيل، فإن ترديدها في خطابنا الاعلامي أو السياسي لا يمكن افتراض البراءة فيه. ومن ثم لا يمكن إلا ان يفسر بحسبانه طعناً للمقاومة ولمجمل العمل الوطني، لا يخدم إلا السياسة الاسرائيلية والاميركية.
ان ثمة وعياً كافياً بخطاب التكفيريين التقليديين الذين يخرجون من عداهم من الملة الدينية، لكني أزعم أن الوعي محدود بالتكفيريين الجدد الذين يدعون الى الانخلاع من الملة الوطنية والقومية، عبر تقويض أواصر الانتماء وقيم الثبات والصمود، وتسفيه أحلام الامة وأشواقها. ومن أسف ان عناصر التكفيريين الجدد أصبح لها وجودها الملحوظ في مختلف وسائل الاعلام العربية، بعكس التكفيريين التقليديين الذين يتحركون في الظلام، ولا يجرؤون على الجهر بدعاواهم على الملأ. أما هؤلاء الجدد فإنهم يبثون دعاواهم على ملأ من الناس، وبعضهم ممكن من بعض المواقع الاعلامية التي باتت مخصصة لبث أفكارهم المعادية للعروبة بمختلف تجلياتها وتداعياتها وللهوية الاسلامية بتعبيراتها المتباينة. ليس ذلك فحسب، وانما هم أيضاً معادون لفكرة الاستقلال الوطني ولمقاومة الاحتلال. وإلحاحهم شديد ومستمر على عزلة كل قطر عربي (استناداً الى شعار lt;lt;نحن أولاًgt;gt; ومصلحتنا فوق وقبل الى مصلحة اخرى). وهذه الدعوة الى العزلة استصحبت مراهنة ضرورية على الالتحاق بالولايات المتحدة التي يحاولون إرهابنا بعظمتها وقوتها التي لا تقهر، وسلطانها المهيمن على مقدرات العالم. ومراهنة موازية على التطبيع مع اسرائيل، مع إغوائنا بمزايا تجاهل القضية الفلسطينية التي اعتبروها عبئاً ثقيلاً طال احتماله، من ثم دعونا الى القفز فوقها وصولاً الى lt;lt;السلامgt;gt; الذي يمكننا من الانصراف الى التنمية والتعمير والرخاء.
كأن قوة أميركا التي لا يختلف عليها أحد، لا يتم التعامل معها إلا بالاستسلام والانبطاح. وكأن اسرائيل جادة في سعيها لإقرار السلام العادل، وكأنها لم تستثمر إشارات السلام في مضاعفة التوسع والتمكين للاحتلال. وكأن التفريط في قضايا الامة وانكشاف أمنها القومي من شروط التعمير واستجلاب الرخاء. وكأن الدول المعنية تقاعست عن التنمية والاعمار طيلة العقود الثلاثة الاخيرة، لأنها كانت مستغرقة في الحرب ضد اسرائيل، أو تعبئ مواردها لأجل ذلك.
في خطابهم يقترن التكفير بالتدليس. فالمقاومة تعد إرهاباً، والاحتلال يصبح تحريراً، والعمالة تغدو تحالفاً استراتيجياً، والامتثال للهيمنة شرط للدخول في عصر العولمة، ورفض الاستسلام والركوع تعبير عن عدم الواقعية ونقص الحنكة السياسية. والمشكلة الفلسطينية تختزل في صلاحيات عرفات حيناً، وفي العمليات الاستشهادية حيناً آخر، وليست في الاحتلال الذي هو بيت الداء وأصل البلاء. أما الاستقلال الوطني والاكتفاء الذاتي وعدم الانحياز ووحدة الامة ومقاومة الاستعمار ورفض القواعد الاجنبية، فهذه كلها في نظرهم وخطابهم شعارات وعناوين من بقايا عصر مضى، وقد تجاوزتها الخرائط السياسية وعفا عليها الزمن.
لا نريد أن نعطي هذا الخطاب أكثر من حجمه، لان أصحابه لا يزالون يمثلون شرائح في النخبة معزولة عن المجتمع، ومكشوفة أوراقها، وبالتالي فإن تأثيرها لا يزال محدوداً. ولولا حضورها الملحوظ على المنابر الاعلامية لما سمع بها أحد ولا اكترث بها أحد، بالتالي فإن الضجيج الذي تحدثه يتجاوز بكثير الطحن الذي تنتجه.
اشتبكت مع أحدهم ذات مرة على صفحات lt;lt;الاهرامgt;gt;، فكان هناك نص ثم رد عليه، أعقبه رد على الرد. وذات صباح كنت في الطريق الى مكتبي في مبنى الاهرام، وصادفني أحد عمال المؤسسة المخضرمين الذين يتابعون ما تنشره الصحف، على الاقل بحكم البيئة التي يعمل بها، فأقبل علي قائلاً: لماذا تضيع وقتك في الحوار مع صاحبنا هذا، في حين ان الكل يعرف انه lt;lt;أمريكانيgt;gt; لا يوثق فيه ولا تحترم أي كلمة يقولها؟
استغربت الملاحظة، ليس لأنها غير صحيحة، ولكن لأنني لم أتوقع أن تصدر عن عامل بسيط يفترض انه محدود الوعي والثقافة. وكانت كلماته تلك سبب توقفي عن الاستمرار في المناقشة، التي أنهيتها في فقرة أضفتها في ذيل مقال الاسبوع التالي.
رغم محدودية الخطاب، فإن علو نبرته في السنوات الاخيرة، وتمكين رموزه من بعض المواقع والمنابر الاعلامية يحتاجان الى تفسير وتحليل. واذا جاز لي أن أجتهد في هذا الصدد فإنني أستأذن في استعادة كلام قلته من قبل عن ان أجواء القوة والعافية تستخلص من الناس أفضل ما فيهم، في حين ان أجواء الضعف والهزيمة تستخرج من الناس أسوأ ما فيهم. وأحسب ان العالم العربي يعيش تلك الاجواء الاخيرة. ولعل مشهد احتلال العراق يعد نموذجاً يعزز ما أدعيه. ذلك انني لا أعرف غزواً عسكرياً لبلد قوبل بمثل ذلك الترحيب والتسويغ الذي قوبل به غزو العراق، ولا أعرف زماناً جرى فيه الاحتفاء بالانصياع للولايات المتحدة والتحالف معها لتمكينها من مخططاتها، أو بإقامة قواعدها العسكرية على أراضي الدول المحتلة، يمثل ما حدث في زماننا هذا.
من الانصاف ان نقرر هنا ان هذه الاصداء حاصلة على مستوى النخب بالدرجة الاولى، التي لها حساباتها ومصالحها الخاصة. في حين ان الجماهير العريضة بتلقائيتها وفطرتها السليمة لا تتأثر بسهولة بتلك الاجواء والتقلبات. وهو ما نجده واضحاً في نموذج المشهد العراقي، الذي وقفت فيه النخب السياسية وبعض الشرائح الثقافية في جانب، في حين وقفت الجماهير والامة كلها في جانب معاكس. والحاصل في فلسطين نموذج آخر، فهناك نخبة أنهكت ورضخت، وهناك شعب لا يزال صامداً يدفع من دمه ثمن الدفاع عن شرفه وحلمه.
حين تظهر أمارات الانكسار في الابنية السياسية، وتظهر في الافق سحابات الضعف والتحلل، وحين تغيب الرؤية الاستراتيجية الواعية بمصالح الامة العليا، فإن تجليات العفن الثقافي تبدو صدى طبيعياً للوهن والضياع، الامر الذي يهيئ أجواء مواتية لتسرب الافكار التي تسوغ الهزيمة والانبطاح، باعتبار ان تلك هي lt;lt;الموجةgt;gt; السائدة التي يتعين ركوبها. وحين يظهر في الافق الاستاذ هيكل بصوته ووزنه متصدياً للموجة، فإن كلامه يصبح مثل عصا موسى التي ألقاها في مواجهة سحرة فرعون، فأخرست ألسنتهم وأحبطت ما يأفكون. شكراً إستاذ هيكل.
- آخر تحديث :
التعليقات