هناك تيار سياسي لبناني يتبنى المطالعة التالية: لا نستطيع رفض قرار مجلس الأمن 1559. الواقعية والعقلانية ترغمان على قبوله. لا يجوز الاصطدام بالعالم. إن السياسة هي التكيّف والتأقلم. علينا أن ندرك ما يُراد منا تنفيذه وننصاع. كل ما عدا ذلك مغامرة وتقليد لصدام حسين. إن معمر القذافي هو النموذج الأرقى. إرادة الولايات المتحدة لا رادّ لها. لا مجال لتسوية أو مساومة ناهيك عن ممانعة أو مقاومة. مَن نحن حتى نعارض؟ ما هي حساباتنا؟ ألسنا نعيش في هذا العالم؟ ألا نعرف معنى غضبة واشنطن؟ إنه عصر القطب الدولي الوحيد، وما أدراكم ما القطب الوحيد؟
أنصار هذه المطالعة lt;lt;الحكيمةgt;gt;، lt;lt;الواقعيةgt;gt;، هم، بالضبط دعاة سلوك مضاد لها تماماً: لبنان هو بلد العنفوان والستة أو سبعة آلاف سنة حضارة (ثمة خلاف حول ألف سنة!). إن الحرية أغلى من الحياة وأعلى قيمة منها. من التافه تماماً التوقف عند ثمن إنقاذ الأعجوبة. يكفي أن نريد حتى يصير. السيادة، السيادة، السيادة.
هذه محاولة لتعيين الممكن والمستحيل، الامتثال والتمرد، حسب الحاجة والمصلحة. وهي محاولة تستعين، تبريراً للامتثال، بمنظومة مفاهيم ذات صلة بموازين القوى. ولكنها تتحول إلى زجل خالص عند الدعوة إلى رفض أمر واقع آخر.
ومن الملاحظ أن جامعي هذين lt;lt;النقيضينgt;gt; هم في الغالب من ناصحي الشعب الفلسطيني بالامتثال حيال احتلال lt;lt;لا طاقة له على مقاومتهgt;gt;. علماً بأن سؤال lt;lt;الطاقةgt;gt; نفسه يغيب عند حضور lt;lt;العنفوان اللبنانيgt;gt; في كل ما له علاقة بالعلاقة مع سوريا. هذا مع العلم بأن لا مقارنة بين إسرائيل في فلسطين وبين سوريا في لبنان، كما لا علاقة لضراوة المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل بعنف الاحتجاج اللبناني ضد هذا النمط من العلاقة مع سوريا.
يتصرف هذا التيار وكأنه لا يرضى للبنانيين ما يدعو الفلسطينيين إليه. كما أنه يدعو اللبنانيين والسوريين معاً إلى سلوك حيال الأميركيين هو، بالضبط، السلوك الذي يدعو إلى عكسه في علاقات اللبنانيين بالسوريين. وليس أسهل من ملاحظة القفز الرشيق بين التحليل الذي يريد نفسه بارداً من جهة، وبين التعبئة المتهورة من جهة ثانية.
هذا التناقض الشكلي لا يعود كذلك، أي لا يعود تناقضاً أبداً، إذا خرجنا من معادلة العلاقتين الثنائيتين (لبنان سوريا) و(سوريا أميركا) لندخل في معادلة العلاقة المثلثة (لبنان سوريا أميركا).
في هذه العلاقة المثلثة ينتفي التناقض النظري بين دعوة اللبنانيين إلى التمرد على العلاقة الراهنة مع سوريا، وبين دعوة السوريين واللبنانيين إلى الامتثال للولايات المتحدة. ينتفي التناقض لأننا نصبح أمام الحقيقة القائلة بأن خطاب التمرد ينهض على قاعدة الاستفادة من الأرجحية الأميركية. أي إن الوزن الأميركي يدخل في جوهر الحسابات حتى لو لم يفصح عن نفسه وحتى لو اتخذ شكلاً موارباً. إن الدعوة إلى التمرد اللبناني على سوريا هي هي دعوة اللبنانيين والسوريين إلى الخضوع لواشنطن. نحن، إذاً، في الواقع، أمام خطاب متماسك يرى في السياسة الأميركية سقفاً لا يمكن المساس به بما يجعل طريق الامتثال له يمر، حكماً، بالإصرار على lt;lt;نسفgt;gt; العلاقات اللبنانية السورية.
ربما كانت العودة إلى المثال الفلسطيني تخدم في إلقاء ضوء كاشف على تعقيدات هذه المعادلة.
إن دعوة الفلسطينيين، باسم الواقعية، إلى نوع من الاستسلام لا تتناقض مع تناسي هذه الواقعية عند تناول العلاقات اللبنانية السورية. لماذا؟ لأن الولايات المتحدة لا تحتل المكان نفسه في كلتا المعادلتين. ففي الحالة الفلسطينية الإسرائيلية تقف أميركا إلى جانب إسرائيل وتكاد تتماهى معها. أما في الحالة اللبنانية السورية فإن أميركا تقف في صف صياغة محددة لها تولى القرار 1559 الكشف عن بعض بنودها.
والخلاصة أننا أمام جذع مشترك هو الامتثال للولايات المتحدة، وهو جذع يتفرع منه غصنان. الأول اقتراح المغامرة على اللبنانيين والثاني اقتراح الواقعية على الفلسطينيين.
لا بد لهذه المحاولة lt;lt;الفهلويةgt;gt; من أن تنتج أطروحات ملازمة لها لا تخلو من غرابة. إن lt;lt;أطروحة الفخgt;gt; واحدة منها.
وlt;lt;أطروحة الفخgt;gt; هي التي تقول إن المقاومة، أي مقاومة، سواء في فلسطين، أو في العراق، أو في لبنان (ضد إسرائيل)، لا تفعل سوى صب الماء في طاحونة الحلف الأميركي الإسرائيلي... الملعون طبعاً.
وهكذا تصبح المقاومة، مهما كانت قاصرة أو عبثية، مجرد أداة أميركية أو إسرائيلية، في حين أن lt;lt;المقاومة الفعليةgt;gt; (lt;lt;المقاومة الشريفةgt;gt;، كما كان يقول الشيخ بيار الجميل) هي تلك الداعية إلى تنفيذ الخطة الأميركية أو الإسرائيلية كاملة.
إن الإحباط الحاسم لهذه الخطة هو بالخضوع لها ممّا يسقط في يد أصحابها ويحوّل انتصاراتهم الكمية، في هذا الديالكتيك العجيب، إلى هزيمة نوعية ماحقة!
هذه التخريفات هي الأكثر ازدهاراً في لبنان هذه الأيام. فالأوقات شديدة الاضطراب وتحتاج، فوق التخريفات، إلى... بشوات!
وهي مزدهرة لدى فريق من اللبنانيين يحاول تلفيق نظرية تجمع في جبهة واحدة بعض محرري السجون الإسرائيلية وبعض من لم يندم لحظة على التحالف مع إسرائيل من أجل مقاومة التوطين بسلاح إسرائيلي وبقيادة أرييل شارون (رحم الله ضحايا صبرا وشاتيلا). وليس صدفة، ربما، أن يتولى متحدرون من أصول يسارية الجهد الأبرز في هذا التلفيق.
إن المدافعين عن lt;lt;الواقعيةgt;gt; الفلسطينية وlt;lt;العنفوانgt;gt; اللبناني (وهما ابنان شرعيان لحتمية الامتثال للولايات المتحدة) يرفضون الاعتراف بما استجد في فلسطين منذ سنوات، وبما استجد في المنطقة، وبما هي عليه اليوم العلاقات الأميركية الإسرائيلية، وبمراحل إعادة هيكلة المنطقة.
إن الموقف الأكثر واقعية في لبنان هو الذي يقول إن قرار مجلس الأمن 1559 غير قابل للتطبيق. وإذا كان من عنفوان ذي جدوى فهو في رفض الانتحار الجماعي الذي يُراد لنا أن نمارسه في أجواء احتفالية.
- آخر تحديث :
التعليقات