عندما شاهدنا للمرة الأولى مشهد دورة المياه في فيلم العصور الحديثة الذي أخرجه ومثل فيه دور البطولة الفنان تشارلي شابلن، لم يخطر على بالنا أن هذا الاختراع المذهل الذي تخيله هذا الفنان المبدع سوف يكون حقيقة واقعة نعيشها ونمارسها. في هذا المشهد كان تشارلي شابلن يحاول أن يدخن سيجارة في مواعيد العمل خلافاً للقواعد، فظهرت له على الحائط صورة مدير المصنع يزجره ويأمره بالعودة فوراً إلى موقعه في عمله. كان المشهد “خيالياً” ومحفزاً على التفكير في المستقبل. كنا في ذلك الوقت نقرأ ل ه د. ويلز وجول فيرن ونحلم بأشكال المستقبل، ونتساءل إن كنا سنعيش لنرى تحقيق هذه الخيالات والأحلام وتحولها إلى واقع معيش.

تذكرت فيلم العصور الحديثة وأنا أقرأ محادثة طريفة يتداولها الأمريكيون كرد فعل للقوانين المتعددة التي شرعتها إدارة الرئيس بوش لحماية الولايات المتحدة من تهديدات إرهابية محتملة، كلها من دون استثناء قلصت مساحة حرية الفرد العادي وكلها - من دون استثناء أيضاً - سمحت لأجهزة متعددة في الحكومة بالتدخل في شؤون المواطنين ومعرفة أدق أمورهم خصوصية وحساسية. كانت المحادثة بين عامل تليفون في محل لصنع البيتزا وأحد الزبائن. ودارت كالآتي:

عامل تليفون محل البيتزا: شكراً على اتصالكم بنا، هل لي أن أعرف رقمك القومي؟

الزبون: مرحباً، أريد أن أطلب بيتزا.

عامل التليفون: يجب أن أعرف أولاً رقمك القومي يا سيدي.

الزبون: رقمي القومي؟ نعم. انتظر لحظة هو 546102 - 45 - 610204998.

عامل التليفون: شكراً لك يا سيد شيهان. أرى أنك تعيش في المنزل رقم 1942 طريق ميدولاند ورقم هاتفك 2366 - ،494 ورقم هاتف مكتبك في شركة لنكولن للتأمين هو 2302 - ،745 ورقم هاتفك النقال هو 2566 - 266 وعنوانك الإلكتروني..

الزبون: لحظة من فضلك. كيف حصلت على كل هذه المعلومات؟

عامل التليفون: أجهزتنا مربوطة بالشبكة القومية الأمريكية للمعلومات يا سيدي.

الزبون: وما هذه الشبكة؟

عامل التليفون: هي شبكة متصلة بوزارة الأمن الداخلي. سيدي أسئلتك هذه سوف تضيف 15 ثانية إلى الوقت المسموح لك لتتقدم بطلبك.

الزبون: نعم نعم. أريد أن أطلب زوجاً من فطيرة البيتزا المضاف إليها كمية كبيرة من اللحم.

عامل التليفون: لا أظن يا سيدي أن هذه فكرة طيبة.

الزبون: ماذا تعني؟

عامل التليفون: سيدي إن سجلاتك الطبية تشير إلى أنك تعاني ارتفاعاً في ضغط الدم، وارتفاعاً شديداً في نسبة الكولسترول. وتقول الأوامر الصادرة لنا من هيئة الرعاية الصحية إنه غير مسموح أن نلبي طلباً يضر بصحتك.

الزبون: بماذا تنصح إذاً؟

عامل التليفون: يمكنك أن تجرب البيتزا المصنوعة بفول الصويا وهي منخفضة الدهون. أنا متأكد أنها ستعجبك.

الزبون: ما الذي يجعلك تقول إنه سيعجبني شيء كهذا؟

عامل التليفون: حسناً يا سيدي. سأقول لك. أمامي معلومات عنك تقول إنك كنت في الأسبوع الماضي في مكتبة الحي الذي تسكن فيه، وطلبت استعارة كتاب عن الوجبات التي تستخدم فول الصويا. سيدي هذا هو ما جعلني أقترح عليك بيتزا من فول الصويا.

الزبون: حسناً حسناً.. ابعث لي إذاً باثنتين من الحجم العائلي.

عامل التليفون: ولكن هذا سيكون فائضاً عن حاجتك يا سيدي أنت وزوجتك وأربعة أطفال وكلبين. ولكن كما ترغب يا سيدي. سيكون الحساب مبلغ 99.49.

الزبون: دعني أقرأ عليك رقم بطاقة الائتمان.

عامل التليفون: أنا آسف يا سيدي، ولكني أخشى أنه سيتعين عليك أن تدفع نقداً. تقول المعلومات التي أمامي إنك تجاوزت المبلغ المسموح لك في كل بطاقاتك الائتمانية.

الزبون: سوف أذهب الآن إلى شباك صرف النقود في البنك المجاور لمسكني لأسحب مبالغ نقدية قبل أن يصل سائقكم إلينا.

عامل التليفون: لا يا سيدي حتى هذا لا ينفع فإن حسابك في البنك مكشوف.

الزبون: لا بأس. أرسل البيتزا وسيكون النقد جاهزاً. كم ستأخذ من الوقت؟

عامل التليفون: حوالي 45 دقيقة.

الزبون: سآتي بنفسي لأخذها.

عامل التليفون: يا سيدي كيف ستأتي وسيارتك سحبت منك لأنك لم تسدد أقساطها وحتى لو كانت معك فلا يوجد في حوزتك ما تدفع لتملأ خزانها.

الزبون: إنك (عبارات غير مهذبة).

عامل التليفون: أنصحك أن تحتاط إلى ما تقوله يا سيدي، فأنت لم يمض عليك أيام قليلة منذ خروجك من السجن المحلي بسبب إساءتك إلى ضابط شرطة وإهانتك للمحكمة. سيدي، هل هذه أول بيتزا لك منذ عودتك إلى المجتمع؟

الزبون: (لا يرد).

عامل التليفون: هل من طلبات أخرى يا سيدي.

الزبون: معي كوبون للتر مجاني من الكوكاكولا.

عامل التليفون: آسف يا سيدي. لا أستطيع أن اقدم لك أي مشروب غازي لأنك تشكو ارتفاع نسبة السكر في الدم. وتعلم يا سيدي أن الدستور الجديد للولايات المتحدة يحرم ذلك. شكراً يا سيدي على اتصالك بنا.
***

انتهت المحادثة المزعومة. ولكني، وبعد تجاربي السابقة مع مشهد صورة مدير المصنع يراقب دورة المياه وموظفيه، ومع كتُب ويلز وفيرن وجورج أوريل وغيرهم، أصبحت أكثر حرصاً واحتراماً في التعامل مع كل رواية أو طرفة أو محادثة تزعم أنها ترى المستقبل. كلنا نعرف أن احترام الدولة لأسرار وكوامن وخصوصيات المواطن الأمريكي - وكان مضرب الأمثال ومنتهى الآمال في عوالمنا غير الديمقراطية وغير القانونية - يتدهور. فإذا كان المواطن الأمريكي الذي يستخدم البريد الإلكتروني يعرف أن ما يقرؤه ويشاهده ويرسله ويتسلمه تراقبه Cookies وتنقل مضمون الرسائل المتبادلة أو نصوصها إلى جهات تعمل بالأمن والتجسس وصحافة التشهير والفضائح والشركات الكبرى. هذا المواطن الأمريكي نفسه قد يركب سيارة تحمل بطاقة إلكترونية تنقل كل المعلومات عن موقع السيارة في أي لحظة وسرعتها وحمولتها وحالتها الميكانيكية. في الأصل كانت وظيفة هذه البطاقة إنذار الراكب بخطر أو بخلل، وإبلاغ جهات الإنقاذ بالمعلومات الضرورية. وفي الوقت نفسه، وهذا ما يعرفه المواطن الأمريكي أو لا يعرفه، إبلاغ أجهزة تهتم بتتبع تحركات المواطنين الأمريكيين أو تحديداً من تريد تتبعهم. ثم إنه في الولايات المتحدة، كما في غيرها، لم يعد الفرد منا يعرف إن كان الجار في المسكن أو في المكتب أو في الطريق يتحدث في هاتفه النقال أم يقوم بتصويره من دون استئذانه، وأن هذه الصور يمكن أن تذهب في اللحظة نفسها التي تلتقط فيها إلى جهات لها مصلحة في معرفة مكان الفرد ومن في صحبته وماذا يفعل أو يفعلون.

كنا ونحن نتلقى دراستنا العليا في أمريكا الشمالية - كان هذا منذ سنوات غير قليلة - نطمئن إلى أن التقارير الطبية التي يكتبها عنا الأطباء ويضعونها في ملفات ستبقى دائماً وأبداً وبحكم القانون تقارير سرية، وليس لأحد حق الاطلاع عليها إلا بقرار صادر من قاضي محكمة وبرضا المريض. والمعروف أن التقارير الطبية، إلى جانب نتائج الكشف والتشخيص، تحتوي أيضاً على معلومات أخرى أكثر من المعلومات عن المرض وتوصيفه وأدويته، فهي تحوي معلومات عن أقارب المريض لمعرفة مدى انتشار المرض في العائلة والأدوية التي تعاطاها المريض على امتداد حياته ومختلف الأمراض. ثم صدرت قوانين جديدة قبل وبعد 11/،9 لم تعد بفضلها هذه التقارير تحظى بالسرية التي كانت تتمتع بها في السابق. وقد أثير الموضوع حديثاً عندما طلبت وزارة العدل الأمريكية من بعض المستشفيات ملفات عن مئات السيدات اللائي أجرين عمليات إجهاض في المنطقة التي تقع فيها هذه المستشفيات. حدث أيضاً أن طلبت وكالة التحقيقات الفيدرالية “المباحث العامة” من مستشفيات مدينة بتسبرج وأطبائها الإبلاغ فوراً عن أي حادث أو أي إصابة “مشبوهة”، مثل مريض على جسمه طفح جلدي أو جريح فقد إصبعه أو عضواً في جسمه. وتدافع أجهزة الأمن عن هذا الطلب بالقول إن هناك احتمالات قائمة بأن يكون هذا الطفح أو هذا العضو الناقص نتيجة تعرض المريض إلى عناصر كيماوية أو بيولوجية بينما كان يستعد للقيام بعمل إرهابي مستخدماً الكيماويات أو الأسلحة الجرثومية أو البلاستيكية. كما طولب الأطباء في الولايات المتحدة وفقاً لقواعد “قانون الوطنية” الذي صدر في أعقاب 11/9 بأن يقوموا بإبلاغ المباحث العامة الفيدرالية بنتيجة الفحص قبل أن يبلغوا المريض صاحب الشأن. ومعنى هذا الطلب أن يترك الطبيب مريضه في قاعة الكشف ويخرج ليتصل بالمباحث العامة ويبلغها بحالة المريض ثم يعود للمريض لإبلاغه. لم نعرف بعد إن كان الهدف إفساح الفرصة أمام أجهزة الأمن لاتخاذ إجراء ما، مثل اعتقال المريض أو فرض الرقابة عليه وقت خروجه من العيادة، أم أن هناك أهدافاً أخرى.

وحدث بعد 11/9 أن طلبت وزارة العدل من الجامعات تقديم كافة المعلومات التي في حوزتها عن الطلاب الأجانب من دون أن يعلم الطلاب بهذا الأمر. وقد قاومت بعض الجامعات، وقاومت أيضاً وزارة التعليم الأمريكية تنفيذ هذا الأمر، مؤكدة ضرورة صدور قرار من قاضي محكمة في كل حالة على حدة. في الوقت نفسه كانت إدارة الهجرة تطلب من جميع الجامعات الأمريكية معلومات عن 200 ألف طالب أجنبي. واستجابت وقتها مائتا جامعة في أسابيع قليلة. أذكر ويذكر الكثيرون من الأجانب ممن درسوا في الولايات المتحدة أن الطالب الأجنبي كان فخوراً بانتمائه إلى جامعة تستأذنه قبل أن تنقل معلومات عنه إلى أجهزة حكومية تختص بالأمن وبالهجرة والصحة، أو إلى شركات خاصة تطلب هذه المعلومات للتعرف إلى إمكانات الطالب العلمية والذهنية لتوظيفه عندما يتخرج. ولم تتوقف عند هذا الحد حملة اليمين الحاكم في أمريكا لتقييد حريات المواطن الأمريكي وانتهاك “عالمه” الشخصي والسماح بتداول المعلومات عنه، أي تعريته أمام “الدولة”.