ليست اليمن وحدها التي فقدت عبدالله الاشطل مندوبها الدائم لدى الامم المتحدة طوال ما يزيد على ربع قرن، ذلك ان الاشطل خسارة عربية بكل معنى الكلمة في ضوء ما كان يمتلكه من صفات جعلت منه مواطناً عالمياً وعاشقا لنيويورك من دون ان ينسى في اي وقت انه ابن اليمن، كل اليمن، وانه عربي مرتبط بقضايا امته ايضاً.
كان عبدالله الاشطل الذي انطفأ قبل ايام في نيويورك بعد صراع طويل مع السرطان احد ابرز السفراء العرب الذين عرفتهم الامم المتحدة, خدم مندوباً لما كان يسمى اليمن الجنوبية بين 1973 و1990. واستمر بين 1990 و2002 مندوباً دائماً لليمن الواحد الموحد، وقد ساعدته في ذلك بوصلته السياسية التي قلما تخطئ والتي مكنته من الخروج حياً من عدن وعدم الوقوع في فخ الانفصال والانفصاليين لاحقاً على الرغم من الاغراءات الكثيرة, فهم الاشطل باكراً ان البقاء في عدن في ظل استمرار الصراعات بين «الرفاق» سيؤدي الى ثمن غال يدفعه شخصياً على غرار ما حصل قبل سنة من التحاقه ببعثة بلاده لدى الأمم المتحدة، عندما سقطت طائرة كانت تقل السفراء اليمنيين الجنوبيين المعتمدين في الخارج الذين وجهت اليهم دعوة لعقد مؤتمر في البلاد, وكانت النتيجة ان الطائرة التي استقلوها للقيام برحلة داخلية فجرت في الجو, نعم فجرت في الجو وقضي على مجموعة من افضل الديبلوماسيين اليمنيين بحجة تطهير البلاد من الرجعيين.
سمحت نيويورك للاشطل ابن الشمال الذي انتقل الى الجنوب للعيش فيه بعد الاستقلال بصفة كونه كادراً بارزاً في حركة القوميين العرب، بأن يتعرف الى العالم على حقيقته فتبددت اوهام كثيرة تكونت لديه مذ كان طالباً في الجامعة الاميركية في بيروت التي تخرج منها الاشطل منتصف الستينات ليعمل بعد ذلك في المجال السياسي, وتحول الاشطل في عدن من قومي عربي الى ماركسي, بل صار بين الاكثر تطرفاً بين يساريي الجبهة القومية التي ما لبثت ان استولت على السلطة في الجنوب والتي انبثق عنها لاحقاً الحزب الاشتراكي اليمني الذي كان من الناحية النظرية مجموعة من الاحزاب القومية قبلت الانصهار في حزب واحد, ويعتبر «الاشتراكي» الحزب الشيوعي الوحيد الذي حكم احد البلدان العربية.
لأنه كان في نيويورك، ظل عبدالله الاشطل بعيداً عن الصراعات وعمليات التطهير الداخلية التي مرت فيها اليمن الجنوبية التي شهدت تحولات في العمق ادت الى جعل البلد جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الاشتراكية وموطئ قدم للاتحاد السوفياتي في الجزيرة العربية, ولأنه كان في نيويورك، استطاع عبدالله الاشطل تفادي مصير كثيرين من الذين عرفهم، على رأسهم سالم ربيع علي (سالمين) الذي كان حتى العام 1978 رجل البلاد القوي والذي تخلص منه خصومه بمساعدة كوبية وذلك بعد اتهامه بالسعي الى الانفتاح على الجوار بما في ذلك على الشطر الآخر من البلاد، اي اليمن الشمالية, كذلك تفادى عبدالله الاشطل مصير ابن يافع محمد صالح مطيع وهو ابرز وزير للخارجية عرفته اليمن الجنوبية, والى الآن لا يزال الغموض يحيط بالظروف التي ادت الى التخلص من احدى ابرز الشخصيات في اليمن الجنوبية والاكيد ان هذا الغموض لن يتبدد قريباً، وقد لا يتبدد يوماً في غياب شخصيات كانت على علم بالذي حصل وقتذاك في حين يفضل الذين يعرفون بعض الحقائق من امثال الرئيس السابق علي ناصر محمد الصمت على اي شيء آخر,,, او البقاء في العموميات مع تحميل المسؤولية لآخرين.
ومن شرفة شقته في نيويورك، شاهد الاشطل انهيار النظام في اليمن الجنوبية عندما اصطدم علي ناصر محمد بخصومه في 13 يناير من العام 1986. وتحولت الصدامات بين «الرفاق» حرباً اهلية بكل معنى الكلمة, وتبين ان الحزب الاشتراكي لم يغير شيئاً في المجتمع الذي بقي قبل كل شيء مجتمعاً قبلياً, وكان الدليل على ذلك ان المسلحين الذين زحفوا على عدن من المناطق القريبة منها، خصوصاً محافظة لحج، كانوا وراء التخلص من علي ناصر وزمرته, فقد تغلب الحس القبلي على اي شيء آخر في تلك المرحلة.
ادرك عبدالله الاشطل بحسه السياسي المرهف ان النظام في الجنوب انتهى في العام 1986، ذلك ان وجوده في الامم المتحدة اتاح له معرفة ان الاتحاد السوفياتي في عهد ميخائيل غورباتشوف لم يعد مستعداً للاستثمار في اليمن الجنوبية, وباختصار شديد يمكن القول ان مندوب اليمن الجنوبية في الامم المتحدة كان بين الديبلوماسيين القليلين الذين استوعبوا ان العالم بدأ يتغير وان الحرب الباردة تشرف على نهايتها وان الاتحاد السوفياتي الذي عرفناه لم يعد موجوداً, اكثر من ذلك كان «الاشطل» كما يحب ان يناديه الاصدقاء يتحدث صراحة في مجالسه الخاصة عن حدود قدرات الاتحاد السوفياتي وعن ضعف اقتصاده وعن عدم قدرته على البقاء قوة عظمى الى ما لا نهاية.
عرف العالم عبدالله الاشطل اثناء فترة الاحتلال العراقي للكويت عام 1990، ذلك ان اليمن كانت وقتذاك عضواً في مجلس الامن تمثل فيه المجموعة العربية، وكان على اليمن التي تعتبر بين اوائل الذين دعوا الى انسحاب القوات العراقية من الكويت مراعاة المواقف العربية كلها، فلم تتخذ موقفاً مؤيداً لعملية عسكرية تؤدي الى انهاء الاحتلال, وظلت اليمن حتى اللحظة الاخيرة تراهن على امكان انسحاب عراقي من الكويت قبل بدء العمليات العسكرية, لم يكن امام مندوب اليمن سوى تنفيذ المطلوب منه, وقد ثار عليه كثيرون علماً انه كان يدرك في قرارة نفسه انه كان عليه ان يؤدي مهمته لا اكثر ولا أقل آخذاً في الاعتبار غياب الاجماع العربي حيال كل ما له علاقة باستخدام القوة مع العراق قبل استنفاد الوسائل السلمية.
لم تغب موازين القوى عن بال مندوب اليمن الذي كان يعرف ان العراق سيخرج خاسراً من المواجهة، ذلك انه كان على علم بكل شاردة وواردة وكان يعرف من صديقه نزار حمدون حقيقة الاوضاع العراقية وحقيقة ما يدور داخل العراق, وخطف الموت نزار حمدون باكراً والمؤسف ان التاريخ لن ينصف رجلاً بذل كل ما يستطيع لاعادة النظام العراقي الى جادة الصواب منذ ما قبل ارتكابه مغامرته المجنونة المتمثلة باحتلال الكويت, وهي مغامرة جرّت الويلات على العراق والشعوب العربية والمنطقة كلها.
اياً يكن الموقف من عبدالله الاشطل خلال فترة الاحتلال العراقي للكويت، اظهر الرجل انه سياسي استثنائي بكل معنى الكلمة عندما انحاز الى الوحدة صيف العام 1994. اختار عبدالله الاشطل منذ لحظة اندلاع المواجهات ان يكون مع الوحدة فوقف ضد الانفصال علماً بأنه مسؤول يمني جنوبي سابق, دافع عبدالله الاشطل عن الوحدة بكل امكاناته وكان يعلم جيداً ان ما تعرضت له اليمن وقتذاك كان مؤامرة خارجية كما كان يعلم ان الوحدة خير ضمانة لعدم سقوط البلد في حروب داخلية معروف كيف تبدأ وليس معروفاً كيف تنتهي, كان يقول انه ناضل كل حياته من اجل الوحدة، فكيف يمكن ان يتخلى عنها بعدما تحققت.
قبل اقل من سنة، راح عبدالله الاشطل يودع الاماكن التي عرفها وزار بيروت وتمشى في حرم الجامعة الاميركية حيث درس وحيث تعرف على زوجته المقبلة التي صارت رفيقة العمر والدرب, قال وهو يودع الأصدقاء، انه سيعود الى لبنان في حال استطاع التغلب على السرطان وانه يود لو يمضي بقية حياته بين صنعاء وبيروت, لم يتحقق حلم عبدالله الاشطل انما العزاء الوحيد للذين عرفوه يتمثل بأنهم التقوا سياسياً وديبلوماسياً استثنائياً لا اوهام لديه قلما عرف اليمنيون والعرب مثله,,, يكفي انه عرف العالم على حقيقته كما عرف باكراً معنى الشعارات الفارغة وان التخلص منها افضل خدمة للعرب والعروبيين والعروبة.