شكل تصويت مجلس الأمن في الثالث من سبتمبر الجاري على قرار سحب القوات الأجنبية من لبنان واحترام سيادة هذا البلد وتفكيك الميليشيات الحزبية ونشر الجيش اللبناني على الحدود الجنوبية وإجراء انتخابات نزيهة وحرة من دون تدخل خارجي في لبنان نكسة جديدة للدبلوماسية السورية تساوي بل تفوق النكسة التي مثلها تصويت الكونغرس الأميركي منذ أقل من عام على قانون محاسبة سوريا. وفي الحالتين تتحمل الدبلوماسية السورية المسؤولية الرئيسية عن دفع الأمور في اتجاه تضييق الخناق على سوريا وتسهيل الأمر على أعدائها من أجل فرض ما يشبه الحصار والعزل الدولي عليها.
يحتج المسؤولون السوريون، وهم على حق، بأن القرار الذي أصدره مجلس الأمن يمثل بحد ذاته تدخلا خارجيا في شؤون لبنان الخاصة وأن العلاقات السورية اللبنانية مسألة تخص الدولتين ولا يوجد أي مبرر قانوني لطرحها في مجلس الأمن. ونحن نضيف إلى ذلك أن ضمان سيادة واستقلال لبنان ليس بالتأكيد غاية هذا القرار وأن هدفه الحقيقي هو إخراج سوريا من لبنان لغير صالح سوريا ولبنان.
لكن هذا لا يقلل من عبء المسؤولية التي تقع على الدبلوماسية السورية. فإذا كنا نعرف أن هناك فريقا قويا في الإدارة الأميركية لا يتردد ولم يتردد في إعلان عدائه لسوريا ولا يخفي أهدافه من هذا العداء، وهي بالدرجة الأولى تطمين إسرائيل ومساعدتها على تمرير سياستها الإقليمية القائمة بالدرجة الأولى على تكريس الاحتلال ومن ورائه توسيع رقعة الاستيطان اليهودي على الأرض العربية، فنحن لا نعرف بعد الغايات التي دفعت الدول الأوروبية وعلى رأسها فرنسا، وهي صديقة لسوريا، بل حليف استراتيجي بنظر النظام القائم، إلى الدخول في مثل هذه العملية التي تشكل خطوة إضافية على طريق عزل سوريا وحصارها. بل إن شرعية هذا السؤال تتضاعف إذا عرفنا أن فرنسا هي التي كانت وراء المبادرة في صوغ هذا القرار. وهي التي حثت الولايات المتحدة الأميركية ودفعتها إلى تبنيه وتقديمه إلى مجلس الأمن. ومن هذه الزاوية يعكس تصويت المجلس على القرار انقلابا في العلاقات التقليدية بين أوروبا وسوريا يحتاج إلى تفسير. كما تحتاج إلى تفسيرات مماثلة المواقف الجديدة لقسم كبير من حلفاء سوريا في لبنان وكذلك للمعارضة السورية نفسها وقطاعات واسعة من الرأي العام السوري.

في نظري تعاني الدبلوماسية السورية من ثلاثة عيوب أساسية هي التي تفسر إخفاقاتها المتتالية منذ زوال الحرب الباردة ومراكمتها للأخطاء والنكسات. العيب الأول هو الاعتياد على الاستهتار بالمعايير الدولية وقواعد العمل المتبعة ومن ورائه الاستهتار بالرأي العام واعتمادها المفرط على القوة. والثاني هو تمحورها حول الذات وعجزها عن التعامل في إطار من علاقات التبادل وتكامل المصالح والندية التي لا يقوم من دونها أي تحالف جدي ومثمر. والثالث تشبثها بمفهوم وتصور مغلق وبدائي لموضوع السيادة ومن ثم تجاهلها للمفاعيل المتبادلة للسياسات الوطنية على النظام الدولي العام، وبالتالي تصرفها كما لو أن الدول مجموعة من الذئاب التي تتنازع الغنائم في غابة لا أحد يملك حق فرض النظام واحترام المصالح المتبادلة فيها.

ويظهر الاستهتار وعدم مراعاة قواعد اللياقة السياسية في هذا الموضوع من خلال إبراز المسؤولين السوريين للحقوق التي تخولها لهم الاتفاقات السورية اللبنانية كما لو أن هذه الاتفاقات والحقوق التي نجمت عنها ليس لها تاريخ سياسي ولم تحصل في بيئة جيواستراتيجية ولم تشارك في تكوينها أطراف إقليمية ودولية. فإذا كان من الصحيح أن تعديل الدستور يتم في إطار قانوني وأن العلاقات السورية اللبنانية قائمة على اتفاقات ثنائية إلا أن من المعروف أيضا أن كل ذلك كان ولا يزال ثمرة علاقات سياسية وتحالفات استراتيجية. فلا أحد من الدول يجهل كيف تم التوقيع على هذه الاتفاقات ولا كيف يتم الترتيب للإبقاء عليها من خلال الانتخابات النيابية وغير النيابية. ولم تخف القيادة السورية نفسها-من باب التأكيد على إمساكها بالوضع اللبناني أمام خصومها- تدخلاتها العلنية. وهي، أكثر من ذلك، لا تحاول حتى أن تخفي مصالحها الاستراتيجية من التدخلات أو تسعى إلى ربطها ولو شكليا بالمصالح اللبنانية التي يشكل الانسجام والسلم الأهلي والتوافق الوطني وتجنب الانقسام غايتها الحقيقية. فلا يمكن أن تحل المراعاة الشكلية للمظاهر القانونية مشاكل الخلاف والتنافس والصراع السياسي التي لا يمكن لدبلوماسية أن تنجح من دون أخذها بالاعتبار. ومن الواضح أن الدبلوماسية السورية تحاول أن تخفي عجزها السياسي الناجم عن ضعف شرعية مطالبها في الحفاظ على الأمر الواقع وراء التزامات قانونية تعرف هي نفسها أنها مؤقتة وخالية من الصدقية.

وكما أن القانون لا يلغي السياسة ولا يمكن أن يبرر إلغاءها فإن التحالف لا يعني خدمة المصالح الخاصة وتجاهل المصالح العمومية الوطنية والعالمية. وهذا هو أصل الخطأ الثاني. فقد اعتادت القيادة السورية أن تستثمر التحالفات لغرض واحد وفي اتجاه واحد هو خدمة مصالحها الخاصة وعدم الاهتمام بمصالح الآخرين مهما كانوا. ولو أرادت الدبلوماسية السورية أن تكون مخلصة لتحالفاتها الداخلية والخارجية في لبنان وغير لبنان لوجدت كم هو مفيد لها أن لا تقوم بخطوات يمكن أن تترتب عليها أضرار أو عواقب كبيرة من دون أن تتشاور مع حلفائها المحليين والدوليين وأن تعمل بالتعاون معهم وبصورة جدية وصادقة. إن عجز الدبلوماسية السورية عموما عن بناء علاقات متكافئة مع الأطراف الأخرى يجعل سياستها تتراوح بين خطين: إحلال علاقات التبعية والاستزلام محل علاقات التحالف عندما يكون الطرف الثاني هو الأضعف، وممارسة سياسة المراوغة والخداع واللف والدوران لتحقيق مصالحها الخاصة وحدها عندما يكون الطرف الثاني قويا. وفي الحالتين ليس بمقدور مثل هذه السياسة بناء علاقات ثقة وتقدير متبادلين مع الأطراف الأخرى. وهذا ما يفسر الانقلابات المستمرة التي تعيشها هذه العلاقات مع جميع الدول وإخفاقها في بناء تحالفات ثابتة ومثمرة سواء أكان ذلك على المستوى الداخلي أو الإقليمي أو الدولي.

أما الخطأ الثالث، وهو الأهم، فهو التصور البدائي الذي لا تزال تأخذ به الدبلوماسية السورية في ميدان العلاقات الدولية والاستمرار في التعامل داخل هذا الميدان على الأسس التقليدية المبسطة التي برزت في القرن السابع عشر في اتفاقية وستفاليا والتي تجاوزها الزمن منذ قرون. ويفترض هذا التصور والتعامل أن الدول قوى متجاورة ومتعايشة تعمل كل منها بمفردها وتسعى إلى اقتناص أكثر ما تستطيع من المنافع بصرف النظر عن الأطراف الأخرى وهي لا ترى كيف تشكل هذه الدول اليوم نظاما واحدا متفاعلا ومتداخلا يتأثر فيه كل طرف بما يفعله الطرف الآخر، ويحتاج بقاؤه واستقراره بالتالي إلى تنسيق بين عناصره واحترام حد أدنى من القواعد والمبادىء المشتركة كما يحتاج النجاح السياسي والدبلوماسي فيه إلى فهم الآثار المتباينة للسياسة الوطنية على الآخرين والسعي لجعلها متوافقة، عن طريق التنازلات والتسويات والحوارات، مع مصالح الأطراف الأخرى، خاصة الحليفة منها، لكن حتى غير الحليفة أيضا. وهو ما يفترض تحلي أي طرف بالحد الأدنى من الشعور بالمسؤولية الإقليمية والدولية ورفض الاستسلام للأهواء الأنانية والطفولية وتجيير كل شيء لصالح المنفعة الفردية. فحتى يضمن طرف من الأطراف الاحترام لوجوده وحقوقه ينبغي أن يظهر هو نفسه قدرته على الارتفاع فوق مصالحه الضيقة والصغيرة ووضعها في إطار المصلحة العليا للنظام العام ولانسجام المنظومة الدولية. وهذا يعني أن اشتغال النظام الدولي المتفاعل والمندمج بل والابقاء عليه يستدعي تسليم جميع الأطراف بحد أدنى من احترام القواعد القانونية ومراعاة المصالح المتعددة وعدم الإخلال بالتوازنات الكبرى وعدم التصرف كما في غابة طبيعية. وإذا كانت الغطرسة ورفض تحمل المسؤولية الجماعية والمشاركة فيها والانفراد بالأمر دفع بدولة من وزن الولايات المتحدة إلى الاخفاق في مشاريعها، كما بين ذلك مثال احتلال العراق، فما بالك بالدول الصغيرة الأقل وزنا وشأنا في السياسة الدولية. هذا التثبت المرضي حول مفاهيم بالية لموضوع السيادة الوطنية وتأويل هذه السيادة تأويلا بدائيا يضعها باستمرار في مواجهة السيادات الأخرى أو في تناقض دائم معها يجعل من غير الممكن بناء أي تعاون دولي ثابت وبناء في أي مجال. وهذا ما يجعل الدبلوماسية السورية المحافظة والجامدة معا تبدو في الوقت نفسه دبلوماسية مغامرة وخطيرة النتائج معا. وهذا ما يفسر أيضا ما تواجهه هذه الدبلوماسية، بالرغم من التعاطف الهائل الذي تحظى به سوريا في كل المواقع الدولية، من عثرات وما تلقاه من إخفاقات متتالية ومن ضعف مثير في الانجاز. إنها لا تقوم بشيء آخر في الواقع سوى هدر الرصيد المعنوي والسياسي الضخم الذي يتمتع به وينتجه المجتمع السوري في مهاراته العملية وعلاقاته الودية مع الشعوب الأخرى وحرقه للحفاظ على مظاهر القوة الفارغة والتصلب الأهوج لنظام أصبح يعيش خارج بيئته الحقيقية ولم يعد يملك وسائل التفاهم والتواصل مع أي شريك أو حليف من شركائه وحلفائه سواء أكان ذلك في الداخل الوطني أو في الخارج الاقليمي والدولي معا.