عندما يعترف ياسر عرفات بالخطأ فإن معنى ذلك أن ثمة أمراً جللاً قد حدث. فإما أن يكون الرجل قد تغيّر، وإما أن تكون الأخطاء التي وقعت فيها السلطة الفلسطينية أكبر من أن يتحملها الفلسطينيون.
هناك اعتقاد في معظم بيوتات الحكم في دول العالم العربي، بأن القيادة والخطأ لا يلتقيان. وأن من مستلزمات الحاكم ليس عدم ارتكاب الخطأ، بل عدم الاعتراف به... وان الوقت كفيل بتصحيح الخطأ... اعتماداً ليس على ضعف الذاكرة العامة فقط، بل اعتماداً على مواصلة إغراقها بأخطاء متلاحقة. لذلك فإن الخطأ يكمن في الاعتراف به وليس بارتكابه!! وهناك اعتقاد آخر بأن الاعتراف بالخطأ ضعف، وأن المكابرة بالانكار قوة، حتى ولو أدى ذلك إلى الامعان في الخطأ. وأن ثمن الاعتراف والتراجع عن الخطأ أشد فداحة من ثمن تجاهله وإنكاره. فالحاكم في العالم العربي يأنف أن يعترف بالخطأ لأنه يجل نفسه عن ارتكابه. فعنده أن مجرّد الاعتراف هو ضعف وتنازل للخصم... ولذلك فإنه بدلاً من أن يتعلم من الأخطاء التي يرتكبها لتصحيح مسيرته ولتقويم سلوكه وتصرفاته، يمعن بارتكاب المزيد منها حتى "تتكسر نصال الأخطاء على النصال"...
ولو أن ياسر عرفات اعترف بالأخطاء التي ارتكبها وهو على رأس منظمة التحرير الفلسطينية في الأردن لما وقعت أحداث أيلول الدامية في عام 1970، والتي أدت إلى إخراج المنظمة من عمان.
ولو أنه اعترف بالأخطاء التي ارتكبها بعد ذلك في لبنان والتي كادت أن تجعل منه وطناً بديلاً للفلسطينيين، لما وقعت الحرب التي أكلت الأخضر واليابس على مدى 17 عاماً، وعرضته للانسحاق تحت مجنزرات الاحتلال الاسرائيلي... ومن ثم إلى إخراج المنظمة من لبنان أيضاً.
ولو أنه اعترف بأخطاء اتفاق أوسلو مع اسرائيل سواء من حيث مضمون الاتفاق أو من حيث طريقة التوصل إليه من وراء ظهر الدول العربية والقيادات الفلسطينية الأخرى، لما وجد نفسه الآن مستفرداً في حصاره اللا إنساني في رام الله.
ولو أنه اعترف بأخطاء احتكاره للسلطة الأمنية والمالية والسياسية والادارية... إلخ وهو سجين "مبنى المقاطعة" لما تعثرت الحكومات الفلسطينية ولما انتشر الفساد بشكل فاضح ولما وجدت الانتفاضة نفسها أمام مشروع فتنة بين الفصائل الجهادية التي تواجه العدوان الاسرائيلي المتوحش عليها.
فإذا كانت السلطة استبداداً، فإن السلطة المطلقة استبداد مطلق.
ولكن وللانصاف ليس ياسر عرفات نسيج وحده بين القادة العرب، رؤساء دول كانوا أو رؤساء أحزاب أو منظمات أو حتى رؤساء جمعيات خيرية أو رياضية. فالرئيس يبقى رئيساً حتى يوافيه الأجل. ولأن ارتكاب الأخطاء أو الاعتراف بارتكاب الأخطاء يتناقض مع الاستمرارية في الرئاسة ومع متطلباتها الاستعلائية، فقد تكوّنت ثقافة إخفاء الأخطاء تحت حصيرة السلطة. وبذلك تبقى هذه الأخطاء بعيدة عن النظر وبعيدة عن التداول حتى تبلغ من التراكم حد الانتفاخ فالانفجار... أو تتعفن فتفوح منها روائح الفساد التي تزكم الأنوف!!
غير أن ما تتميّز به أخطاء الرئيس الفلسطيني من حيث الأهمية الاستثنائية هي أنها وبكل بساطة أخطاء رئيس فلسطيني. فالأخطاء، وخاصة إذا كانت أخطاء جسيمة، لا يجوز أساساً تجاهلها والسكوت عنها أياً كان مرتكبها، فكيف إذا كان المسؤول عنها مباشرة أو بصورة غير مباشرة قائد مسيرة الشعب الفلسطيني ورمز كفاحه الأسطوري الطويل؟
لا يعقل أن يلتقي الاستشهاد والفساد فوق سطح واحد. ولا يعقل أن تضرب يد فلسطينية المحتل الاسرائيلي بحجر، وأن تمتد يد فلسطينية أخرى إلى فلس الأرملة الفلسطينية بالاختلاس. ولا يعقل أن يُكبح الانتفاضي المجاهد لحسابات سياسية، وأن يترك الحبل على غاربه أمام الفساد والمختلس.
لقد أدى تلاقي هذه التناقضات إلى الاضطرابات الأمنية التي عصفت بغزة ورفح وحتى ببعض مدن الضفة الغربية ومخيماتها. مما وضع الشعب الفلسطيني على شفير فتنة ما انفكت اسرائيل تعمل لها. ومن حسن الحظ أن الرئيس عرفات أدرك خطورة هذا الوضع واستمراره، فاعترف بالأخطاء، ربما لأول مرة في حياته النضالية. وبهذا الاعتراف تحديداً استعاد عرفات كقائد فلسطيني مصداقيته وبدا أشد قوة مما كان عليه قبل أسابيع.
يبقى الانتقال إلى الخطوة التالية التي تلي هذا الاعتراف مباشرة، وهي خطوة الرجوع عن الخطأ.
إن زعامة وطنية مبنية على قاعدة تصحيح الأخطاء هي أشرف وأنبل وأثبت من أي زعامة أخرى تقوم على قاعدة تجاهل الأخطاء ومعاقبة المنتقدين. ولا شك في أن أول وأهم خطأ يحتاج إلى تصحيح هو خطأ تعطيل عمل المؤسسات وتمكينها من أن تصلح نفسها بنفسها من خلال توزيع المسؤوليات وممارسة المراقبة والمحاسبة.
فمن الصعب تصوّر قيام دولة فلسطينية فوق أي جزء من التراب الفلسطيني المغتصب والمنتهك، ما لم تمارس هذه المؤسسات دورها بشفافية وبفعالية. فدويلة الفاكهاني شيء، والدولة الفلسطينية شيء آخر.
- آخر تحديث :
التعليقات