لابد للعرب من أن يجدوا عقداً اجتماعياً وسياسياً جديداً يعيد بناء أمتهم التي تعرضت لتفكيك وتخريب يكاد يشمل كل مقومات وجودها. وقد أصبحت الأمة مهددة بما هو أخطر من الاحتلال العسكري لبعض أقطارها وأراضيها، وهو احتلال مساحات واسعة من العقل العربي الذي فقد بعضه التوازن والاتزان ولم يعد يعرف مصلحة أمته من مصلحة خصومها.
ولم يكن جديداً على العقل العربي أن يواجه حملات التشكيك بالأمة وبقدرتها على إبداع نموذجها الحضاري. ولكن الهجمات الماضية كانت أقل حدة وجرأة عليه مما يتعرض له اليوم. ولم يكن المهاجمون يمتلكون التقنيات الضخمة التي تمتلكها الهجمة المعاصرة.
فحين قادت الشعوبية حملتها الشهيرة على العروبة في أواسط العصر العباسي كان المهاجمون يحتمون بالإسلام وهذا ما كان يجعل العرب مطمئنين لأن خصمهم يدين بدينهم بل يبدع حملته الأدبية بلغتهم وشعرهم. وكانوا يتداولون مفردات الحملة على أنها من الطرائف كما فعلوا في ترديدهم لقول أبي نواس مثلاً: قل لمن يبكي على رسم درس - واقفاً ما ضر لو كان جلس.
وحين هاجم المغول الأمة العربية، غزا العرب عقول المغول بالإسلام، فعاد الجيش الغازي إلى قواعده مسلماً. وحين غزا الفرنجة الأمة في الحملات الصليبية، تشبث العرب بدينهم، وتمكنوا بقيادة صلاح الدين الأيوبي الكردي من تحقيق النصر في حطين، وعاد الصليبيون إلى أوروبا يحملون معهم الحسرة ومعها الثقافة العربية الإسلامية التي أسهمت بقوة في بناء الحضارة الأوروبية المعاصرة. ولم يجد العرب أية غضاضة في أن يحكمهم قادة كبار من غير العرب ما داموا مسلمين. فقد سلموا قيادتهم للمظفر قطز، ومن بعده للظاهر بيبرس الذي أعاد للخلافة رمزها العربي مجاملة. ولكن الأمة تمادت في التراخي حتى وجدت نفسها رعية عند صغار مماليكها، إلى أن طردهم العثمانيون، ليبدؤوا حكم الأمة قروناً باسم الدين.
وفي القرن العشرين ومع بداية تشكل الدولة العربية الحديثة، وقع شرخ كبير في العقد الاجتماعي العام بسبب الفصام بين المشروع العربي والمشروع الإسلامي، نتجت عنه صراعات شغلت الأمة على مدى سنوات القرن، وبدأت الحملات المعادية للأمة تلعب على إذكاء نار الخصام، مع أن فكرة القومية العربية لا تصطدم مع الإسلام في شيء. كما أن الإسلام لا ينكر أهمية موقع العروبة منه، ولكن بعض النظريات الإسلامية المتشددة اعتبرت المجتمع جاهلياً ونادت بالدولة الدينية الخالصة، مما عمق الخلاف بينها وبين التيارات القومية التي نادت بالعلمانية أو الماركسية أو الليبرالية.
وكانت الحملات المعادية للأمة تقذف نيرانها على كل التيارات الفكرية ذات السمة الوطنية. فقد واجه الفكر القومي حملات التشكيك بالعربية لغة وثقافة ومكانة حضارية، بل إن بعض كبار منظري الثقافة العربية المعاصرة ممن انخرطوا في هذه الحملات متأثرين بدراستهم في جامعات أوروبا في مطلع القرن العشرين وجدوا أن السبيل الوحيد لنهوض الأمة هو التوجه المطلق إلى الغرب. ولكن الفكر القومي أصر على أن سبيل النهوض هو بعث الأمة العربية من جديد، كما أن الفكر الإسلامي أصر على أن السبيل هو بعث الأمة الإسلامية.
وقد تمسك الفريقان القومي والإسلامي باللغة وبالتراث وبالثقافة العربية، واستعادا في كل الأدبيات والإبداعات تاريخ وإنجازات الحضارة العربية الإسلامية، واعتبرا تحرير فلسطين والأراضي العربية المحتلة واجباً قومياً أو فرضاً دينياً متفقين على أن الصهيونية هي العدو الذي ينبغي صد عدوانه.
وفي مواجهة الحملة الراهنة على الأمة وجد العرب والمسلمون أنهم في الهم شرقُ. فالحملة الراهنة لا تفرق صواريخها وقنابلها بين تيار وآخر، وهي تريد تغيير المنطقة بدءاً من اسمها، حيث حلّ اسم الشرق الأوسط محل اسم العالم العربي، وباتت إسرائيل الدولة الأقوى في المنطقة وهي المرشحة غربياً لقيادة الشرق الأوسط الكبير. ولكي تتمكن من قيادته بسهولة عليه أن يخلع رداء العروبة وقفطان الإسلام، وأن يتمثل قيم وأنماط الحياة في الغرب.
وعلى الرغم من جدية التهديد للأمة التي باتت الجيوش المدججة بأحدث وأعتى الأسلحة تحاصرها من كل صوب، فإنها تزداد تمسكاً بهويتها وخصوصيتها. ولكن لابد من الاعتراف بأن الخلل في بنية العقد الاجتماعي العربي يكبر ويتسع. فقد اضمحلت أحلام الوحدة وقبل الجميع أن يحل محلها طموح عملي تحت شعار التضامن العربي، ولكن هذا التضامن يقع في أدنى مستوياته، ويعجز عن الانتقال من المشاعر إلى الفعل، وهو مهدد بأن يتحول إلى تضامن بعضهم مع إسرائيل بذريعة المصالح الاقتصادية والسياسية المرحلية على حساب مصالح الأمة الاستراتيجية.
والمشكلة الخطيرة اليوم أن يتسع بعض الصدر العربي لإسرائيل وأن يحتضنها على الرغم من أنها تمعن في العدوان على الشعب الفلسطيني، وترفض السلام، حيث لم يعد لديها ما يدعوها إلى أن تدفع ثمناً للسلام ما دام العرب يقدمون لها ما تريد رغبة أو رهبة. وإذا فقدت الأمة العربية في المستقبل (تفاؤلاً بأنها لم تفقد بعد)، إحساسها بالتضامن الجاد وبالأمن المشترك، فإن قيام إسرائيل بعدوان على أي بلد عربي لن يجعلها تخسر شيئاً مما أنجزته مع بقية العرب.
صحيح أن ما يمكن أن تحققه إسرائيل عبر القوة المطلقة التي توفرها لها الولايات المتحدة هو مجرد أهداف مرحلية غير قابلة للبقاء والاستمرار، ولكنها ستكون قادرة على إنهاك الأمة العربية وعلى إخراجها من التاريخ لعقود طويلة، بل على إعادتها إلى عصر ما قبل النهضة العربية، وهذا ما وقع به العراق الشقيق الذي دُمّرت بنيته المعاصرة بعد انهيار النظام. وهذا ما يعاني منه الشعب الفلسطيني الذي تهدم إسرائيل ما يبني. وهذا ما سبق أن فعلته إسرائيل في لبنان الذي بذل شعبه جهداً ضخماً ودفع ثروات باهظة لإعادة الإعمار.
وإسرائيل تخطط اليوم لتوسيع مساحة الدمار في المنطقة كي تكون وحدها الدولة العصرية المتقدمة فيها. وكي تنشغل الشعوب العربية بإعادة بناء ما تهدَّم، وتنفق ثرواتها فيه. وقد يستمر هذا الإنهاك والإضعاف للعرب عقوداً حيث لا مخرج منه إلا بمتغيرات دولية كبرى.
وبعض العقلاء من دعاة السلام في إسرائيل ينظرون إلى البعيد ويفضلون أن تعقد إسرائيل صفقة سلام متكافئة وعادلة مع العرب لأنهم يدركون أنها تحقق ضمانات أوثق للتعايش الممكن، وهم يدركون أن فرض الاستسلام على العرب سيكون مرحلياً، ولن يضمن لإسرائيل استمرار القوة والتفوق العسكري.
إن إدراك مخاطر المستقبل يجعل الحاجة ماسة إلى عقد عربي جديد، تتم فيه المصالحة بين التيارات الفكرية التي ينبغي أن تقرب بينها الأهداف الاستراتيجية الموحدة والمصالح العليا للأمة، وبوسعها جميعاً أن تجد في الديمقراطية فرصاً متكافئة تتيح لكل قوى الأمة أن تشارك في رسم السياسات وتنفيذها. وبوسع الفكر القومي أن يستوعب القطرية بوصفها مكوناً للقومية وليست بديلاً عنها، وبوسع الفكر الديني أن ينهي النقاش غير المجدي حول إشكالية الدين والسلطة، ليعمل على صلة الدين بالأمة بوصفه رؤية فلسفية وطاقة روحية كبرى. وأرجو أن يفرق كذلك بين العلمانية الملحدة التي تحارب الدين وتعتدي على حريات الاعتقاد وبين العلمانية المؤمنة التي لا تتدخل في معتقدات الناس وسلوكهم الروحي، وأن يركز المفكرون الإسلاميون جهدهم على ترسيخ مفاهيم الاعتدال والوسطية التي تمتلك رؤية واسعة للكون، وفهماً رحباً للتدافع الإنساني يمكن الأديان من تحقيق حالة الإخاء الإنساني بدل الشقاق. وسيسهم التوجه نحو رؤية اقتصادية واحدة للأمة في إنهاء حالات الخلل التي أعاقت تحقيق التكامل الاقتصادي الذي يوفر للعقد الاجتماعي حيوية تمكّن السياسة من تحقيق تنمية مستدامة تعزز الأهداف القومية وتمتن عرى التواصل الثقافي والاجتماعي.
وليست الدعوة إلى عقد اجتماعي عربي نوعاً من الترف الفكري، فهو حاجة ماسة لكل الدول العربية التي هددت جامعتها بالانهيار بسبب انهيار العقد القديم، الناجم عن ضعف الشعور بالانتماء، وهو أخطر ما يواجه الأمم، ويهددها بالفناء.