بلغ من هول تأثيرات زلازل "تسونامي" في وعي أسقف كانتربري روان وليامز، أن دفعته للقيام بتأملات دينية حول الكارثة، ومن ضمن ذلك التشكيك في رحمة الله عز وجل، أو كما يعبّر المسيحيون: عنايته! فروان وليامز يعرفُ امرأة وِرعة وابنتها، وكانا تقومان بعمل خير من أجل الأطفال الفقراء في سريلانكا حين نال منهما الزلزال، وذهبتا ضحيته شأن مئة وخمسين ألفاً آخرين، وربما أكثر، في دول آسيا الشرقية جميعاً، لكن بشكل خاص في إندونيسيا، حيث مات غرقاً أو اختناقاً ما لا يقل عن مئة ألف وفي جزر أتشيه وسومطرة على الخصوص أيضاً. هل تتصل شكوك أسقف كانتربري بهذا الحدث الهائل بالذات أم أن لها سياقات إضافية، وظروفاً أخرى؟ المعروف أن البروتستانتية تعاني من تمزق شديد منذ أكثر من عقد من الزمان، وباتجاهين متناقضين: اتجاه الليبراليين الجدد، واتجاه الإنجيليين الجدد والمولودين ثانية. وفي حين يكسب الإنجيليون الأصوليون كل يوم أرضاً جديدة، بين البروتستانت والكاثوليك على حد سواء، يخسر المحافظون والليبراليون مساحات قديمة ومألوفة باستمرار. الإنجيليون الجدد يقولون بالعناية الكاملة لله، والتفويض الكامل والعمل من أجل أن يستحقوا الاصطفاء والتحول العجائبي من الله. وهم يعيشون على وقع تحقق النبوءات الإنجيلية حول نهايات العالم، ونجاة المؤمنين المسيحيين بطرائق عجائبية أيضاً. وهذه الانتظارات الإيمانية تجد تصديقاً وتطبيقاً لها في الحياة العملية الدنيوية، بالحفاظ على ما يعتبرونه طبيعة وتقليداً: الأسرة المتماسكة، معارضة وسائل منع الحمل، الحفاظ على أخلاقيات الجنس الطهورية، معارضة الإجهاض، معارضة وسائل الإعلام وطرائقه الصناعية، معارضة ظهور الشاذين والشاذات اجتماعياً، ومعارضة زواج المثليين والمثليات، والسخط على الزواج المدني.
وهذه الآراء معروفة عنهم في أميركا منذ زمن طويل، ولا يختلف الكاثوليك عنهم كثيراً فيها في عهد هذا البابا بالذات. بيد أن الجديد امتداد هذا "البرنامج" إلى أوروبا، وفي النواحي البروتستانتية بالذات، وميل الإنجيليين الجدد إلى التسيّس، أي العمل السياسي من أجل تحقيق تلك المطالب. فالسياسيون في الأنظمة الديمقراطية يتأثرون كثيراً بآراء الناخبين، ومنذ النصف الثاني من السبعينيات، أقبلوا بكثافة على المشاركة في الانتخابات، وأسهموا أواخر السبعينيات في المجيء بجيمي كارتر للرئاسة، لكنه خيّب آمالهم باجتماعياته الداخلية، واهتمامه أكثر من اللازم بإنصاف العرب والفلسطينيين. فهناك جزء محترم من الإنجيليين الجدد يسمي نفسه:"المسيحيين الصهاينة"، ومن بين هؤلاء توم ديلاي، زعيم الأكثرية الجمهورية بالكونغرس. وهؤلاء يعتبرون الاستيلاء اليهودي الكامل على فلسطين جزءاً من النبوءات الإنجيلية التي ينبغي أن تتحقق لكي يعود المسيح. ويبلغ عدد هؤلاء حوالي الـ15 مليوناً، من أصل 50 مليون إنجيلي جديد، رؤيتهم إيجابية بشكل عام تجاه اليهود (شعب العهد القديم) وإسرائيل.

لقد خذل الإنجيليون كارتر، ووقفوا بجانب رونالد ريغان، فحصل براحة على الفوز في فترتين متتاليتين. وفي أيامه ظهرت الشعارات والنبوءات الدينية باعتبارها جزءاً من السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وتجاه الاتحاد السوفييتي (إمبراطورية الشر) بالذات. وكانوا يعتقدون أن جورج بوش الأب هو الخليفة الأفضل لريغان، وقد قاد حرب الخليج الثانية، لكنه خيّب آمالهم من جديد باحترامه لآراء المؤسسة السياسية الأميركية، والسير على هدي توجهاتها بالداخل والخارج. وقد استطاع كلينتون في الوقت نفسه توحيد الديمقراطيين من ورائه، والحصول على دعم شبه كامل من جانب الأقليات مثل اليهود والسود.
بيد أن الإنجيليين الذين أحسّوا مرارة فقدان السلطة في فترتي كلينتون، بحيث تفكك تحالفهم المسمّى "الأكثرية الأخلاقية"، حزموا أمرهم من جديد ووقفوا من وراء جورج بوش الابن، الذي قال بالانتماء إليهم، ففاز بصعوبة في المرة الأولى، وبراحة في المرة الثانية.

لقد كان المقصود من وراء هذا الاستطراد، الوصول إلى أن الفكر الإنجيلي الصاعد، استطاع القيام بأمرين: ضرب التقليد الأكثري البروتستانتي في الولايات المتحدة بشكل رئيسي، مع التأثير المتزايد في أوروبا، وضرب الاتجاهات الليبرالية داخل الكنائس البروتستانتية، والتي كانت ذات شعبية في أوساط الشباب في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. ولذلك يضيع الآن رجالات المؤسسات والكنائس الكبرى البروتستانتية: فهم لا يستطيعون الالتحاق بأطروحات المحافظين الجدد لأنهم بذلك يذوبون لصالحهم، وفي الوقت نفسه لا يستطيعون البقاء في المواقع المحافظة، لأنها ما عادت جذابة، ولا تحظى حتى بتأييد الدولة الواضح في إنجلترا وألمانيا، وهما الدولتان الأكبر في أوروبا من حيث بروز الطابع البروتستانتي فيهما. ولهذا فقد اختار رجالات الكنيسة (الرسمية) البروتستانتية الجانب الليبرالي، والليبرالي الراديكالي أحياناً. ولا شك أن تحولات عميقة حصلت لدى سائر الأطراف تحت وطأة موجات وعواصف الحداثة.

لكن الأطروحة الأساسية استمرت: فعل الخلاص الفريد الذي أنجزه المسيح، والسؤال: كيف يمكن الانضمام إليه؟ علامات الأزمنة وتحولات القرون، والنزعات الألفية تسود لدى البروتستانت خارج أطر المؤسسات الدينية وحدود الدول. فالخلاص في متناول اليد، والمهم استحداث النية والقصد للتوجه إليه، والمؤسسة الدينية حائل دونه. والمسيحية الأولى فردية وجماعية وإنما بدون قيود أو مؤسسة. وطبيعي ألا تلقى هذه الأفكار ترحاباً لدى المؤسسة الكاثوليكية، لأنها صارت جزءاً من الدين، وهذا إن لم تكن جزءه الأساسي. أما لدى البروتستانت التقليديين، فقد صارت المؤسسة علامة النجاح الدنيوي، وبالتالي الفوز الأخروي. ولارتباطها بالدولة الوطنية في الظهور، فقد صارت إحدى دعائم الاستقرار بعيداً عن الثورانات الأصولية، والنزوعات الفردية المتطرفة. أما الآن، فيتزعم الإنجيليون الجدد نزوعات "العودة" إلى المسيحية الأولى، وإلى الحالة الطبيعية، في حين يبدو التقليديون والمحافظون في المؤسسات مع الدولة الحديثة، ومع التلاؤم مع العولمة. وبمعنى آخر: المحافظون في المؤسسات، والذين شكلوا في مرحلة من المراحل: الأرثوذكسية أو تيار الوسط الأكثري، يجتاحهم الأصوليون فيهربون باتجاه الحداثة وعقلانيتها، في حين يتجه الجدد إلى التلقائية واللامؤسسية والعجائبية.
هذا المشهد العجيب في الكنائس البروتستانتية لا يبتعد كثيراً عن المشهد في قلب الإسلام، وإن لم يكن في أوساطنا رجال دين مثل أسقف كانتربري. فهناك في الأصل اتجاهان عقديان يخترقان الإسلام كله منذ القديم: اتجاه الوجوب والعدل، واتجاه الرحمة والفضل. الأول قاده المعتزلة، والثاني قاده الأشاعرة من أهل السنة. وانضمت إلى أحدهما على تفاوت كل التيارات والفرِق الأخرى. لكن غلب في الأعصر المتأخرة الاتجاه الثاني، ولدى سائر الفِرق. إنما الجديد في الأمر أن المؤسسة الفقهية التي كانت تحرسُ التقليد الأرثوذكسي، إذا صح التعبير، انهارت، ولصالح الأصوليين الإحيائيين، كما هو معروف. وهؤلاء يتشددون مثل الإنجيليين الجدد على مسائل اتباع الشريعة، والالتزام من أجل الخلاص، والتأكيد على ضرورة التحول باعتبار أن الناس إما فَجَرة وإما غافلون، ووحدهم هم المهتدون!

إلى أين نحن ذاهبون؟
طارق علي تحدث عن صدام الأصوليات، ويعني بذلك الصدِام بين أصولية ابن لادن والأصولية الأميركية الصاعدة مثلما حدث يوم 11 سبتمبر 2001، أو ما حدث في أسبانيا. والخطرُ هنا ليس كما يقول الأصوليون في تخلي الله عز وجل عنا، بل في أسباب معقولة معروفة لم نأخذ بها. إذ تأتي علينا سنة 2005، ونحن نعاني من مشكلات شبه مستعصية في فلسطين والعراق وأفغانستان، والآن الكارثة في إندونيسيا بعد استبشارنا باستقرار الحياة السياسية هناك، والبدء بالنهوض. ويأتي العام 2005 وليس هناك تقدم كبير على الجبهة الاقتصادية، إنما المشهد أفضل من العام الماضي إذ تتراوح نسبة النمو بين 4 و5% في أكثر الدول العربية. أما النهوض الكبير فيحتاج إلى 7 أو 8% وعلى مدى عشر سنوات. والتشاؤم الذي يلفّ الحياة والاستقرار، يسري على نواحٍ أخرى لا يؤمل أن تكون الأوضاع فيها أفضل من العام المنقضي. فنحن تحت وطأة القوة الظاهرة، ولا أمل إلا برحمة الله، شاء أسقف كانتربري أم أبى.