لم يمنح الفلسطينيون إلى اليوم فرصة حقيقية ليظهروا بصورة بديلة من المخاوف التي قدمها الصقور الإسرائيليون والأميركيون على مدى سنوات طويلة. وبعدما ساد اعتقاد في أن انهيار المعسكر الشرقي وإبعاد الروس عن مواطئ قدم في الشرق الأوسط، يمكن أن يساعد في تشجيع إقامة دولة فلسطينية بمواصفات قابلة للتحكم، ثم لاحقاً بعدما أقصت الطبيعة الزعيم الراحل ياسر عرفات الذي كان يُنظر إليه عقبة، أو هكذا صوّر الأمر للحؤول دون أن يكون شريكاً مفضلاً في مفاوضات السلام، فإن محاولات كسو عظام السلام ببعض من اللحم وقليل من الأوكسجين لا تصنع القدرة على الحياة.

وعلى رغم أن فرضية قبول الجديد وسهولة التعاطي معه شجعت الفلسطينيين على نحو ايجابي في دعم المسار الديموقراطي كي لا يظل حكراً على الطروحات الإسرائيلية، فإن وضع الرئيس المنتخب محمود عباس بدا أسير خطوات محدودة، في مقدمها أن تنصيبه، الذي كان معولاً ألا تعترضه سلطة الانجاز في الميدان، تم على خلفية العزل وقطع الاتصالات وتوجيه تهم التقصير والعجز في محاربة «الإرهاب»، بينما الأصل في عمليات المقاومة، وضمنها تفجيرات معبر كارني، أنها مجرد تنفيس عن مشاعر مناهضة الاحتلال وستبقى قائمة طالما أن أسبابها الموضوعية مستمرة. ومع أن شخصيات من الجيل الثاني في السلطة الفلسطينية يمكن أن تقوم بأدوار أكثر ملاءمة للمرحلة عبر الافصاح عن الجرأة المسكوت عنها سابقاً، فإن هذا الاختيار لا يكون ناجعاً بالزعامة الجذابة والحنكة السياسية فقط، وإنما عبر توفير مناخ تغيير شامل، أقربه أن يكون الشركاء الآخرون في العملية ملتزمين مطالب انجاح الانتقال السياسي. والأكيد أنها لا تتعلق بإلغاء آثار الزعامة الفلسطينية السابقة، وإنما تتأسس في ضوء استقراء التاريخ ودلالات الصراع وخلق الظروف الملائمة للتغييرات الحقيقية ذات الارتباط بالقرار الإسرائيلي.

وبمعنى آخر فإن الاخفاق الحاصل لا يوجد عند الطرف الفلسطيني وإنما من خلال غياب شروط المفاوضات وقواعدها، إذ تحتمي إسرائيل بأي حادث لإنهاء ما تصفه بمهلة الاتصالات. والتنازل المطلوب هنا لا يمكن أن يأتي من الطرف المظلوم، وإنما من الجهة المحتلة غير القادرة على التخلص من منطق التعالي وفرض الشروط واحباط المشاعر، وما يترتب عليها من فقدان اليقين ازاء مستقبل المنطقة برمتها. والخطر الماثل مصدره عدم تحرر الإسرائيليين من تراث إهدار الفرص والتقيّد بذرائع اتهام الآخر واطلاق التصريحات الزائفة عن الرغبة في السلام. وحتى الآن لم تظهر رؤية إسرائيلية جديدة عن مستقبل التعايش وتلمس الطريق الصعبة لمحطات السلام، وإنما يصار إلى ملء هذا الخواء السياسي بشتى أنواع الأوصاف المثيرة للدهشة بين مسؤولية الاحتلال وحتمية المقاومة وشرعيتها في نطاق سلوك محبط للنيات والإرادات.

في معادلة التغيير كان الفلسطينيون أكثر ادراكاً للتوقعات، وحتى عندما تختلف قراءاتهم للأحداث وتتفاقم إلى درجة التناقضات، فإنها تلتقي عند المبادئ الأساسية، أي أهداف إقامة الدولة المستقلة. اذ تعلموا أن قيادة الرجل القوي في مرحلة الثورة يمكن أن يتفرع عنها رجال ومشارب واتجاهات عند مرحلة إقامة الدولة. والحال أن الكيان الإسرائيلي على نقيض هذا المعطى يسعى إلى الاحتماء بالمنطق الأحادي لرئيس الوزراء ارييل شارون في غير الزمان الملائم، قياساً إلى كون قادة إسرائيليين سابقين أبرموا اتفاقات مع السلطة الفلسطينية على عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات. لكن شارون ليس بالقوة التي توحي بها سياسته التي عجزت عن جلب الأمن والسلام، وإنما بسبب اعتماد نهج عدم الاستقرار والمغالاة في مخاوف الأمن يريد إحكام قبضته على السلطة عبر نزوات الاستخدام المفرط للقوة.

والفرق بين شارون ومحمود عباس أن الأول يسعى الى حشد الأصوات المتطرفة ذات الميول الاستئصالية لإبراز أن ديموقراطية إسرائيل بخير، بينما الثاني الذي ينزع إلى الانفتاح على كل الفصائل الفلسطينية يراد له أن يكون مجرداً من الدعم الديموقراطي، مع أن الحكمة تقضي بأن يكون ويبقى رئيساً لجميع الفلسطينيين، كون المحك الحقيقي للقضية ليس هذا الفصل أو ذاك، وليس هذه العملية أو تلك وإنما المؤشرات الدالة الى هروب إسرائيل وتنكرها لأي جهود حقيقية بدء مفاوضات السلام والذهاب بها إلى نهاية المطاف.