أسامة العيسة من القدس: عندما كان ياسر عرفات، الرئيس الفلسطيني الراحل، يعالج في مستشفى باريسي من مرضه الخطير، ظهرت مشاعر لدى فئات عديدة تجاه عرفات الذي كان يعيش أيامه الأخيرة في غيبوبة، ولكن مشاعر الرائد محمد الداية (37 عاما) كانت من نوع أخر.

والداية هو اشهر حارس لياسر عرفات ورافقه كظله طوال أكثر من 16 عاما، وربما كان الحارس الوحيد الذي حفظ الفلسطينيون اسمه ورددوا عنه الحكايات.

وفي التاسع من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، بكى الداية المقيم في غزة، بحرقة عندما بثت أخبار عن تدهور خطير في صحة عرفات، وكانت أمنيته الوحيدة أن يكون معه، ولكن عدم سماح سلطات الاحتلال له بالسفر، بدد تلك الأمنية، مما زاد من حرقته.

ومحمد الذي لم يفق من صدمة رحيل عرفات، هو ابن يوسف الداية احد حراس عرفات والذي قتل في غارة إسرائيلية على مقر عرفات في ضاحية حمام الشط في تونس العاصمة عام 1985، وفي حين نجا عرفات من تلك الغارة التي شنت بعد خروجه من مقره بدقائق، فان يوسف الداية كان من ضمن الذين قتلوا فيها.

وشب محمد الداية على قصص وحكايات والده عن عرفات، ويقول بأنه تشرب حب عرفات من والده، وأصبح مثله حارسا لعرفات، بل أكثر حراسه التصاقا به، ومستعدا في كل لحظة لصد أي محاولة اعتداء أو اغتيال قد يتعرض لها رئيسه الذي تبناه وأصبح أبا ثانيا له.
ولعب عرفات دور الأب الفعلي لمحمد الداية وباقي أفراد العائلة، وعندما كان يريد شخص أن يتزوج إحدى شقيقاته كان عليه أولا مقابلة عرفات بصفته ولي أمرها.

وترددت حكايات كثيرة عن الدورات التدريبية التي تلقاها محمد الداية، ومهاراته وإخلاصه لعرفات، ولشائعات قيل أن وراءها مقربون لعرفات شعروا بالغيرة من مكانته لدى رئيسهم.

وبعد أن عاد مع رئيسه إلى الأراضي الفلسطينية وفق اتفاق اوسلو، توسعت دائرة معارف الداية وأصبح صديقا للصحافيين الذين كانوا يتجمعون أمام أي مكان يذهب إليه عرفات ليغطوا أخباره، ويطلبون منه تسهيل مهامهم.

ولوحظ أن هذا الحارس الرياضي المخضرم، بدا يظهر له كرش صغير في الفترة التي أعقبت اتفاق اوسلو ولم يكن قد ظهر بعد الخطر الإسرائيلي المتربص بعرفات.

ورافق الداية، عرفات في مفاوضات كامب ديفيد في صيف 2000، وأشاد بصمود رئيسه أمام ما اعتبر ضغوطا إسرائيلية اميركية عليه للتخلي عن الثوابت الفلسطينية.

وأدى فشل تلك القمة إلى اندلاع انتفاضة الأقصى وتطور الأوضاع حتى فرض الحصار على عرفات طوال سنوات وكان أكثرها خطورة في نيسان (ابريل) 2002، عندما حاصرت قوات الاحتلال مقر عرفات في رام الله وبدأت هجوما عليه، وفي تلك الأيام الحرجة أعلن عرفات بأنه لن يكون "أسيرا أو طريدا، بل شهيدا..شهيدا..شهيدا".
وفي ذلك الحصار لم يكن محمد الداية مع رئيسه أو إلى جواره لأنه كان في غزة عند عائلته محروما من الوصول إلى الضفة بسبب عدم حصوله على التصريح اللازم من سلطات الاحتلال.

وحينها أعرب الداية عن أمنيته بان يكون أول من يستشهد "دفاعا عن رئيسي وأبي عرفات".

وتوقع الداية أن يدافع زملاؤه عن عرفات، وهو ما حدث حيث قتل عدد منهم في أثناء العمليات الإسرائيلية والتي انتهت بعد فترة بإبرام صفقة تم فيها اعتقال احمد سعدات أمين عام الجبهة الشعبية ورفاقه وإبعاد المحاصرين في كنيسة المهد إلى غزة ودول أوروبية.

وأكد الداية أن عرفات سيدافع عن نفسه إذا اقتحم الجنود مقره وسيقاوم حتى الموت قائلا بان عرفات طالما تحدث عن حلمه بالموت شهيدا، وهو ما تحقق له، كما يرى كثير من الفلسطينيين عندما توفي قبل اقل من شهرين في أحدى ضواحي باريس من مرض غامض، متهمين إسرائيل بدس السم له، وهو ما أكده فاروق القدومي الذي خلف عرفات في رئاسة حركة فتح وقال انه حاول أن يوسط دول عربية لتوفير الترياق لعرفات ولكنه فشل.

واستقبل الداية خبر وفاة عرفات المتوقع كالصاعقة، ولم يستطع الوصول إلى الضفة الغربية فشارك في جنازة رمزية مهيبة نظمت لعرفات في غزة.

واستخدمت في تلك الجنازة سيارات تابعة للرئاسة الفلسطينية كان يستخدمها عرفات، سارت وكأنها في موكب يقل عرفات ومساعديه، بينما ارتدى محمد الداية لباسه العسكري راكضا بجوار سيارة المرسيدس السوداء وكان عرفات يستقلها فعلا، ومسخرا كل حواسه ملتفتا في جميع الجهات ليصد أي خطر عن عرفات وكأنه حاضرا وراكيا سيارته.

في تلك اللحظات المفعمة بالمشاعر والحنين كان محمد الداية في قمة تألقه كحارس ويعيش ذروة حكاية درامية كحارس.

وبعد انتهاء الجنازة الرمزية وأيام العزاء عادت الأحزان إلى محمد الداية الذي يصبح يظهر على كل يوم جمعة مؤديا الصلاة في مسجد الشيخ زايد في غزة.

ولا احد يعرف بماذا يفكر الداية وهل يشعر بأنه لو كان مجاورا لعرفات في الفترة الأخيرة لكان يمكن أن يمنع الخطر عنه حتى لو كان ضمن خطة محكمة لتسميم عرفات، كما تعتقد أوساط واسعة من الرأي العام العربي.