نتائج الإنتخابات التشريعية الفرنسية
بين تمزق اليسار وحيوية اليمين

قصي صالح الدرويش من باريس: لم يكن غريبًا أن ينتصر حزب اليمين الرئاسي في الانتخابات التشريعية الفرنسية، خاصة بعد الفوز الكبير الذي حققه نيكولا ساركوزي وصولاً إلى قصر الإيليزيه، إذ جرت العادة أن تنسجم هذه النتائج مع نتيجة انتخابات رئيس الجمهورية الجديد، لكن الغرابة تمثلت في درجة الهزيمة المدمرة التي أصابت اليسار ومنذ الدورة الأولى للإنتخابات، بحيث قد لا يتجاوز مجموع المقاعد التي ستحصل عليها أحزاب اليسار مجتمعة نسبة 20% من إجمالي مقاعد البرلمان البالغة 577 مقعدًا.

صحيح أن ديناميكية الانتصار الساركوزي عززت تطلعاته إلى إجراء تغييرات كبيرة في الاقتصاد وفي السياسة الخارجية، لكن هذا الفوز الساحق بما يترتب عليه من هيمنة، سيمكن الحكم الجديد من الخروج عن مقاييس التوازنات التي حكمت السياسة الفرنسية في السنوات الأخيرة والتي كان وجود معارضة حقيقة وذات وزن أحد أهم سماتها. هيمنة ساهم في صنعها انصراف الكثير من المواطنين عن المشاركة في الانتخابات على أساس أن الميزان قد حسم سلفًا، وأن من الأجدى التمتع بالطقس الصيفي الجميل عوضًا عن التوجه إلى صناديق الإقتراع، بحيث وصلت نسبة الامتناع عن التصويت إلى 39.1% وهي الأسوأ في تاريخ الانتخابات الفرنسية منذ بدء الجمهورية الخامسة عام 1958.

لكن حيوية اليمين لا تكفي وحدها لتفسير درجة الهزيمة اليسارية، فهناك الانشقاقات الداخلية التي عصفت بالحزب الاشتراكي الممزق بين عدد من قادة الملل المتنازعة على رئاسة الحزب، بحيث اهتز موقع الأمين العام للحزب فرنسوا هولاند الذي فشل على الرغم من محاولاته الحثيثة في جمع المتنازعين حول حد أدنى من التوافق. هذا العجز عنالقيام بدور الزعيم المؤثر في الحزب ترافق مع خلافات هولاند المتلاحقة مع شريكته وأم أطفاله سيجولين رويال، التي قبل مرغمًا بترشيحها للإنتخابات الرئاسية. خلاف داخل الحزب وخلاف داخل العائلة، إذ لم يعد خفيًا على أحد في فرنسا بأن علاقة الثنائي هولاند ـ رويال تعاني أزمة وصلت إلى حد تهديد رويال بمنع هولاند من رؤية أطفاله.

كذلك لعبت غواية استقطاب ناخبي تيار الوسط من أنصار فرنسوا بايرو في فقدان نسبة من ناخبي اليسار الاشتراكيين، فعوضًا عن تقديم برنامج انتخابي مدروس ومتكامل، سعت سيجولين رويال إلى صيغة سحرية تجمع بين اليسار المبعثر والوسط المحتمل، في وقت شكك الكثير من ناخبي اليسار نفسه والوسط بقدرتها على الإمساك بزمام الرئاسة. فيما بدا ساركوزي حيويًا قادرًا على إنهاء حقبة جاك شيراك واستقطاب قسم كبير من ناخبي اليمين المتطرف ثم استقطاب حزب الوسط الذي أصبح بعد الانتخابات الرئاسية تابعًا له، مما اضطر بايرو إلى تشكيل حزب جديد قد يحصل على ثلاثة مقاعد في أحسن الحالات. بل إن ساركوزي عمل على استقطاب عدد من شخصيات اليسار وحتى من الحزب الاشتراكي، من أبرزهم برنار كوشنير الذي اختاره وزيرًا للخارجية، شخصيات قد لا تكون مهمة من حيث وزنها الفعلي إلا أن وجودها في طاقمه الحاكم سمح للرئيس ساركوزي أن يبدو وكأنه الجامع الموحد بين هذه الفئات المتباينة.

قد يسعى قادة الحزب الاشتراكي إلى الحد من قسوة الهزيمة عبر حث المتغيبين عن التصويت على الاقتراع في الدورة الثانية أملاً في إعادة شيء من التوازن يحول الهزيمة الساحقة إلى هزيمة عادية. أيًا كان الأمر فإن الحزب الاشتراكي سيواجه مرحلة صراعات داخلية عاصفة بعد انتهاء الدور الانتخابي الثاني، صراع من غير المؤكد أن ينجح فرانسوا هولاند المتأرجح في موقعه أصلاً في حمل أطرافه على صيغة توافق بالحد الأدنى.

أقصى اليسار وأقصى اليمين كانا الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات. الحزب الشيوعي لم يمت فعلاً، لكنه مع نسبة 4.5% لم يعد قادرًا على أي تأثير فاعل كما كان الحال في السبعينات والثمانينات عندما كان يحصل على نسبة تصويت مشرفة تتجاوز 15% وحتى في التسعينات. بغض النظر عن المتغيرات الدولية التي قامت بدورها في ضعف الحزب الشيوعي، هناك أيضًا المتغيرات الداخلية فعوضًا عن حزب واحد في السابق يوجد الآن أربعة أحزاب شيوعية.

وقد تكون الهزيمة الموازية للشيوعية هي تلك التي مني بها حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف. هنا أيضًا لعب عنصر التشتت دوره، إذ نجح ساركوزي عبر خطاب يداعب ناخبي هذا التيار في جذب قسم كبير منهم، لتتراجع شعبية الحزب الانتخابية إلى قرابة 5% فقط، بعد أن شهد مرحلة ازدهار في الثمانيات والتسعينات وبداية القرن الحالي بحيث وصل رئيسه جان ماري لوبن إلى الدور الثاني في انتخابات الرئاسة قبل خمس سنوات.