&

بعيداً عن صخب الحرب علي الارهاب ، الدائرة رحاها الآن في افغانستان، يأتي هذا الكتاب ليذكرنا بأن المسألة الافغانية هي في المقام الأول، وفي عهد طالبان حصراً، مسألة ثقافية.
وهذا بشرط ان نأخذ الثقافة بالمعني الواسع للكلمة باعتبارها نمط حياة ونمط تفكير ورؤية ناظمة للكون والوجود معاً.
ومن هذا المنظور فإن هذا الكتاب الجماعي، الذي شـــارك في تحريره اثنا عشر باحثاً دولياً في شــــتي قطاعات الثقافة، يمثل صرخة احتجاج علي الجـــريمة ضد الثقافة التي ما فتئ يجسدها المشــــروع الطالبـــاني منذ استيلاء الحركة علي كابول في ايلول (سبتمبر) 1996.
فالمشروع الطالباني هو في جوهره مشروع لـ ثقافة مضادة للثقافة ، مشروع لاستئصال الثقافة، ولتدمير أدواتها ورموزها، ولاجتثاثها من الجذور وللرجوع بها الي نقطة الصفر المطلقة.
فالمشروع الطالباني لا يقر بأي مشروعية للفن والرسم والموسيقي وللشعر وللتراث ولذاكرة الأجيال، وهو نموذج مكتمل ومتطرف للنزعة الي تحطيم الصور التي طالما كانت مميزة لحركات التعصب الديني في العصر البيزنطي والقروسطي، والتي بلغت أوجها في افغانستان الطالبانية ابتداء بحرق الأفلام وأشرطة الفيديو في الساحات العامة وحظر البث التلفزيوني، ومروراً بمحو صور الاشخاص وحرق المخطوطات المصورة في متحف كابول، وانتهاء بتدمير تماثيل بوذا العملاقة في جبال باميان.
والواقع ان المبادرة الي إصدار هذا الكتاب الجماعي انما جاءت من المنظمة المكلفة الدفاع عن شؤون الثقافة والتراث الانساني المشترك في العالم: اليونسكو.
فأولي مقالات الكتاب تحمل توقيع كويشيرو ماتسورا، المدير العام لليونسكو، الذي افتتحها بالقول: ان جريمة ضد الثقافة قد اقترفت. فـ طالبان ، بتدميرهم تماثيل بوذا العملاقة التي ما فتئت ساهرة منذ ألف وخمسمئة عام علي وادي باميان، قد اقترفوا الجرم الذي لا يغتفر ولا يعوض. فقد اغتالوا جزءاً من الذاكرة الافغانية، وأبادوا شهادة ثمينة وخارقة للمألوف علي التواصل ما بين الحضارات، وهدموا تراثاً ينتمي الي البشرية قاطبة .
أوليفييه ويبر، المكلف من قبل اليونسكو تنظيم ندوة الدفاع عن تراثات افغانستان وآسيا الوسطي ، اعتبر المشروع السياسي والثقافي الطالباني مشروعاً ظلامياً غير مسبوق في التاريخ.
فـ طالبان هم دعاة للعزلة الثقافية التامة وطلاب لطهارة عدمية مطلقة وأعداء ألداء للمرأة بما هــــي كذلك، وبالـــتالي لما تمثله من قيم جمالية، وأنصار لأســــوأ أشــــكال الاستبداد: الديكتاتورية علي العقول وعلي النفوس، وجنود/ رهبان بالمعني القروسطي للكلمة، أو هولاكيون جدد يحرقون الأخضر واليابس ليقيموا حكم الملات Mollarchie، وليمارسوا الشكل الأكثر تطرفاً من حرق الصور، بما في ذلك حرق الصورة الحضارية للاسلام نفسه.
الجامعي الافغاني المنفي لطيف بدرام يلجأ هو الآخر الي الرمز الهولاكي ليقول: انه كما ان المغولي هولاكو خان دمر مكتبة قلعة ألموت الاســــماعلية الكبري وسوّد مياه دجلة بما أحرقه فيـــها من الكـتب، كذلك فإن زعيم طالبان ، الملا عمر، أمر بإضرام النار في الخمسة والخمسين ألف من مجلدات ومخطوطات مكتبة الحكيم ناصر خسرو في بول الخمري.
أما كريستيان فهارت، الاختصاصي بشؤون آسيا في قسم التراث الثقافي باليونسكو، فيقدم أوفي عرض واكثر تفصيلاً للجريمة ضد الثقافة التي اقترفها طالبان بتدميرهم تماثيل باميان. وهو يبدأ عرضه بإيراد النص الحرفي للمرسوم الذي أصدرته حكومة طالبان في مدينة قندهار في 26 شباط (فبراير) 2001 بصدد تدمير جميع التماثيل الموجودة في افغانستان، أياً تكن قيمتها الفنية والتاريخية، بهدف إلغاء عبادة الأوثان .
وقد جاء في النص: علي أساس مشورات الرؤساء الدينيين لإمارة أفغانستان الاسلامية، وعلي أساس فتاوي العلماء وقواعد المحكمة العليا لإمارة افغانستان الاسلامية، يتعين تدمير جميع التماثيل والأضرحة غير الاسلامية الموجودة في مختلف مناطق إمارة أفغانستان الاسلامية. فهذه التماثيل كانت ولا تزال أماكن حج للكفار الذين لا يفتأون يوقرون ويبجلون أماكن العبادة هذه. فلا إله إلا الله العلي القدير. أما سائر الآلهة فليس لها من مصير إلا الإبادة.
ولهذا فإن الرئيس الأعلي لإمارة أفغانستان الاسلامية قد أصدر أوامره الي جميع المسؤولين في وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكذلك في وزارة الاعلام والثقافة، بهدم التماثيل كافة.
وكما رسمت المحكمة العليا لإمارة افغانســـتان الاسلامية وهيئة العلماء، فإن التماثيل كافة ينبغي ان تدمر، كيلا يبقي في متاح أحد بعد اليوم ان يعبدها ويبجلها .
وعلي أثر صدور هذا المرسوم وجهت منظمة اليونسكو نداء أول الي قادة طالبان تسألهم فيه الحفاظ علي التراث الثقافي الأفغاني. ونشر هذا النداء علي سعة في الصحافة الباكستانية، كما في الصحافة الدولية. وفي 28 شباط أوصل المدير العام لليونســــكو رسالة شخصية الي زعيم طالبان ، الملا عمر، عن طريق سفير طالبان في اسلام اباد، يناشده فيها التدخل لوقف عملية التدمير.
وبعد إصدار ثلاثة بيانات صحافية اضافية في الأسابيع التالية نظم مدير اليونسكو سلسلة من المباحثات مع سفراء مختلف الدول الاسلامية، لا سيما تلك التي تعترف بنظام طالبان . وفي غضون شهر آذار (مارس) قام بيار لافرانس، الممثل الخاص للمدير العام لليونسكو، بسلسلة من الزيارات لإسلام آباد وقندهار وكابول حيث التقي وزير الخارجية ووزير الثقافة في حكومة طالبان، ثم توجه الي الامارات العربية المتحدة وقطر والمملكة العربية السعودية ليناشد حكومات هذه البلدان تصعيد ضغطها علي نظام طالبان .
وبناء علي طلب اليونسكو أصدر عدد من علماء الاسلام في مصر والعراق وباكستان فتاوي ضد مرسوم طالبان بالهدم. وبناء ايضاً علي تدخل المــــدير العام للــــيونسكو لدي مــنظمة المؤتمر الاسلامي توجه وفد من رؤساء احدي عشرة دولة مسلمة الي قندهار بهدف اقناع الملا عمر بعدم اتخاذ القرآن والدين الاسلامي حجة لتدمير تلك التماثيل. لكن جميع هذه التدخلات السياسية والدينية لم تجد فتيلاً. وبقيت زعامة طالبان مصرة علي التمسك بمرسومها التدميري، علي رغم المعارضة التي أبداها العديد من المثقفين الافغانيين المنفيين أو اللائذين بالمناطق غير الواقعة تحت حكم طالبان . ويشير كريستيان فهارت الي واقعة لها دلالتها. فقوات طالبان الموجودة في وادي باميان امتنعت لنحو اسبوعين عن تنفيذ أمر الملا عمر، مما استوجب مجيء وزير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شخصياً الي باميان في 8 آذار ليتولي مع رجاله نسف التماثيل بالديناميت والمدفعية في اليوم التالي.
يبقي ان نقول ان تماثيل باميان هي الأكبر من نوعها في العالم. فهي مقدودة في الصخر علي ارتفاع 55 متراً لاكبرها، و38 متراً لأصغرها. وهي رمز للقاء الشرق والغرب ولحوار الحضارات. فنحتها يعود الي القرن السادس أو السابع للميلاد، وقد نفذه رهبان بوذيون كانوا استقروا في مغر جبال باميان علي ارتفاع 2700 متر، وكان فنهم مزيجاً من الثقافتين اليونانية والبوذية اللتين عرفتا طوراً مديداً من التفاعل علي اثر فتوحات الاسكندر المقدوني التي أوصلته الي قلب آسيا الوسطي، وتحديداً الي مملكة بكتريان (بلخ حالياً) في شمال أفغانستان. وقد عكس فن أولئك الرهبان البوذيين تأثراً واضحاً بفن مدرسة الاسكندرية الهلنستية التي كان فنانوها أول من نحت تماثيل لبوذا مع اعطائه ملامح أبولونية.(الحياة اللندنية)