&
*د. ابراهيم بن عبد العزيز المهنا: تمر السوق النفطية الدولية حاليا بمرحلة صعبة، وبالذات خلال العام المقبل، ولن ينقذ السوق من هذا الوضع المتردي إلا تعاون كافة المنتجين من داخل منظمة (الدول المصدرة للنفط) ألـ"أوبك" وخارجها.
وتعود الصعوبة التي تواجهها السوق حاليا والمحتملة العام المقبل إلى عاملين أساسيين، الأول تردي الاقتصاد العالمي مما أدى إلى انخفاض نمو الطلب على البترول، والعامل الثاني زيادة الإنتاج من خارج ألـ"أوبك" بعد ارتفاع الأسعار خلال الأشهر الثمانية والعشرين الماضية.
فمن المعروف ان الاقتصاد العالمي، وبالذات الاقتصاد الأميركي، الذي يعتبر الأكبر والأكثر تأثيرا، كان يمر بمرحلة تباطؤ في نموه، منذ أواخر العام الماضي واوائل العام الحالي. وكان الاعتقاد ان ما كان يجري هو تباطؤ في النمو وليس حالة كساد اقتصادي، وبالإمكان تحفيز النمو الاقتصادي من خلال بعض السياسات المالية مثل تخفيض أسعار الفائدة، وتخفيض الضرائب، وزيادة الإنفاق. ومن هنا ساد الاعتقاد بأن الاقتصاد العالمي سيعود إلى وضع النمو الجيد خلال الربع الرابع من هذا العام. وبعد ذلك ينمو حسب معدلاته السابقة.
وبالنسبة للبترول فقد كانت التوقعات تشير إلى ان الانخفاض في الطلب على البترول مؤقت وخلال الأشهر التسعة الأولى من هذا العام على الأكثر، وبعد ذلك يعود الطلب إلى الارتفاع مع زيادة معدل نمو الاقتصاد العالمي، ولهذا السبب قررت دول ألـ"أوبك" تخفيض إنتاجها منفردة وبحوالي 3.5 مليون برميل يوميا، اعتقادا منها انه سيتم رفع الإنتاج في وقت لاحق في أواخر العام 2001، أو في أوائل العام 2002، أي ان يتم التخفيض ثم الزيادة حسبما حصل في عامي 1999و 2000، وذلك حسب ظروف العرض والطلب ومن اجل المحافظة على استقرار السوق والمستوى المناسب من الأسعار.
أي ان "أوبك" كانت بمفردها ومن دون مساندة المنتجين الآخرين تقوم بدور المنتج المرجح، والذي يعني زيادة الإنتاج أو خفضه حسب ظروف العرض والطلب ومن اجل استقرار الأسعار.
إلا ان أحداث 11 أيلول (سبتمبر) والتطورات التي تلتها، أثرت بشكل كبير ليس فقط على الاقتصاد العالمي ونموه، بل على الطلب على البترول بشكل خاص، فالاقتصاد الأميركي تحول من مرحلة الركود الاقتصادي إلى مرحلة الكساد، كما ان اقتصاديات كثيرة وهامة تحولت إلى حالة من الكساد مثل اليابان، وتايوان، وسنغافورة، واستراليا، وألمانيا، وإيطاليا، وإسبانيا. ويبدو ان الصين والهند فقط، هما الدولتان اللتان قد تشهدان نموا اقتصاديا واضحا خلال هذا العام والعام القادم. وقد تشهد بعض الدول الأخرى بعض النمو ولكنها ذات اقتصاديات صغيرة نسبيا أو ان اقتصادياتها مرتبطة بالبترول مثل بعض دول ألـ"أوبك" وروسيا وغيرها.
لا شك ان النمو الاقتصادي السلبي يؤثر في الطلب على البترول. فالطاقة بشكل عام والبترول بشكل خاص يرتبط استهلاكه بالوضع الاقتصادي لأي بلد، ومن هنا فإن نمو الطلب على البترول مرتبط بنمو الاقتصاد في هذه البلاد أو تلك.
وقد أثرت أحداث 11 أيلول (سبتمبر) بشكل خاص على استخدام البترول ولسبب آخر. فقد أدى استخدام الطائرات المدنية لتدمير مبنيي مركز التجارة العالمي ومبنى البنتاجون، إلى عزوف كبير عن استخدام الطائرات كوسيلة للسفر. ومن المعروف ان الطائرات تعتبر من أهم وسائل السفر العالمي حاليا، كما أنها من أهم مستخدمي المنتجات البترولية. وتشير التوقعات الأولية انه نتيجة لاحداث 11 أيلول (سبتمبر) وما تبعها من أحداث أخرى في الطيران العالمي، فإن استخدام وقود الطائرات سينخفض خلال الربع الرابع من هذا العام بما بين 400 إلى 500 ألف برميل يوميا، وهي كمية ليست بسيطة، بل إنها تعادل او تفوق إنتاج او تصدير العديد من الدول المعتمدة على البترول كمصدر أساسي للدخل مثل سوريا، واليمن، والجابون، والإكوادور، وصادرات إندونيسيا وغيرها.
إضافة إلى ذلك، فإن أحداث 11 أيلول (سبتمبر) أثرت على السياحة العالمية بشكل كبير، ويقدر حاليا الانخفاض في قطاع السياحة بحوالي 70% في دول مثل الشرق الأوسط ومنطقة الكاريبي و30% في أوروبا وأمريكا.
ولا شك ان قطاع السياحة يعتبر من أهم القطاعات الاقتصادية وذي كثافة عالية في استخدام الطاقة بشكل عام والبترول بشكل خاص. ومن المهم الإشارة هنا وعلى سبيل المثال، ان قطاع السياحة يعتبر المورد الثاني للدول العربية بعد البترول، إذ يحقق دخلا يصل إلى حوالي 60 مليار دولار سنويا، ويعمل فيه اكثر من خمسة ملايين فرد، فإذا أضيف إلى ذلك من يعيلونهم فإن عدد الأفراد العرب المعتمدين على قطاع السياحة يصل إلى ما لا يقل عن 20 مليون نسمة.
ومما سبق يتضح ان وضع الطلب على البترول كان صعبا منذ بداية هذا العام، وازداد الأمر صعوبة بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر).
وفي وضع حرج مثل هذا، لا تستطيع دول "أوبك"، والتي لا يتعدى نصيبها 40% من الإنتاج العالمي موازنة العرض والطلب، واستقرار الأسعار. إضافة إلى ذلك فإن لدى المنظمة تجربتين باهظتا الثمن، الأولى عندما سعت المنظمة إلى المحافظة على السعر عن طريق التخفيض المستمر في الإنتاج، خلال النصف الأول من الثمانينات، وكانت نتيجة هذا انخفاض إنتاج المنظمة من حوالي 31 مليون برميل يوميا في عام 1979 إلى 15 مليون برميل يوميا بعد ذلك بستة أعوام، ثم أعقب ذلك انهيار الأسعار إلى اقل من عشرة دولارات بعد ان كانت خمسة وثلاثين دولارا أو اكثر، أي ان المنظمة فقدت حصتها في السوق وفقدت دخلها، وقد حدث هذا نتيجة لعدة عوامل لعل من أهمها زيادة الإنتاج من خارج "أوبك"، في وقت كانت المنظمة تركز على السعر ولا تعير أهمية تذكر لما يفعله الآخرون من زيادة في الإنتاج، وما يعنيه من فقدان للحصة في السوق.
أما التجربة الصعبة الثانية فقد حدثت في العام 1998، وكانت نتيجة لزيادة الإنتاج من قبل بعض الدول من خارج "أوبك" وداخلها، مما أدى في النهاية إلى ارتفاع المخزون التجاري من البترول، ثم انهيار الأسعار بعد حدوث الأزمة الاقتصادية الآسيوية مباشرة.
وبالرغم من ان منظمة "أوبك" وبمساندة من بعض الدول من خارج المنظمة مثل المكسيك، وعمان، والنرويج، قامت بإجراء عدة تخفيضات وصلت كمياتها إلى اكثر من أربعة ملايين برميل يوميا، إلا ان الأسعار لم تسترد عافيتها إلا في النصف الثاني من العام 1999، ويعود التباطؤ في تحسن الأسعار، بالرغم من الكميات الكبيرة التي تم سحبها من السوق، وفي وقت يرتفع فيه الطلب العالمي، إلى ارتفاع المخزون التجاري من البترول إلى مستويات كبيرة، تحتاج إلى مجهود كبير ووقت طويل لسحبه.

ومن خلال التجارب السابقة فإن هدف "أوبك" حاليا هو استباق الأحداث والعمل بقدر الإمكان على تجنب انهيارات بترولية وأزمة جديدة في الأسعار، وذلك من خلال تعاون كافة الدول المنتجة، والتضحية ولو بشكل بسيط ومؤقت من الإنتاج أو التصدير، وعلى أمل تطور الأوضاع إيجابيا في المستقبل، واستعادة ما تمت التضحية به.
فلا شك ان الدول المنتجة من خارج "أوبك" قد استفادت من تحسن أسعار البترول خلال العامين الماضيين، وبدون أية تضحيات تذكر. ومن هنا فقد زاد إنتاج هذه الدول بحوالي مليوني برميل يوميا بين العام 1999، والعام الحالي، ونصف هذه الزيادة تقريبا، أي حوالي مليون برميل جاءت من روسيا لوحدها. وفي نفس الوقت انخفض معدل إنتاج دول "أوبك" خلال هذه الفترة بحوالي مليون برميل يوميا. أي ان الانخفاض في إنتاج ألـ"أوبك" يعادل تقريبا الزيادة في إنتاج روسيا.
وبالنظر إلى العام المقبل، من السهل ملاحظة ان الوضع سيكون اكثر صعوبة، فالطلب العالمي لن يرتفع إلا بشكل بسيط وفي حدود 500 ـ 700 ألف برميل يوميا، حسب اغلب التوقعات الحالية.. وفي نفس الوقت فإن إنتاج الدول من خارج "أوبك" من المتوقع ان يرتفع بما بين 800 إلى مليون برميل يوميا، ونصف هذه الزيادة من روسيا، ويحدث هذا في وقت يعتبر المخزون التجاري مرتفعا نسبيا، ومن المتوقع ان يرتفع كذلك خلال الأشهر المقبلة وربما في فصل الشتاء الذي عادة ما ينخفض فيه المخزون نتيجة لزيادة الاستهلاك.
وفي وضع مثل هذا، يتميز بوجود أزمة اقتصادية عالمية وبانخفاض نمو الطلب على البترول، وزيادة الإنتاج وبالذات من قبل الدول من خارج ألـ"أوبك"، وارتفاع المخزون نسبيا، فلا بد من تضافر الجهود وتعاون كافة الدول المنتجة الرئيسية للبترول، وبالذات الدول التي يعتمد أو يتأثر اقتصادها بأسعار البترول.
فخلال الاجتماع الوزاري لمنظمة ألـ"أوبك" في 26 أيلول (سبتمبر) الماضي، أدركت المنظمة، ان دولها لا تستطيع لوحدها حماية الأسعار من الانخفاض، فلا بد من مشاركة الدول المنتجة الأخرى. ولهذا السبب صرف النظر عن التخفيض المباشر للإنتاج عند انخفاض الأسعار إلى اقل من 22 دولارا للبرميل من سلة خامات "أوبك"، وفي نفس الوقت بدأت الاتصالات وبشكل مباشر مع الدول الرئيسية المنتجة للبترول من خارج المنظمة. وقد أبدت كل من عمان، والمكسيك، استعدادهما للمشاركة في أي تخفيض جديد للإنتاج وبنفس نسبة التخفيض التي تتخذها ألـ"أوبك"، كما أوضحت انغولا ان إنتاجها، إذا لم ينخفض، فإنه لن يرتفع خلال العام المقبل. أما النرويج فقد أبدت استعدادها لاتخاذ ما هو مناسب لاعادة الاستقرار للسوق والأسعار، بما في ذلك التخفيض بما بين 100 إلى 200 ألف برميل يوميا.
وكان من المتوقع ان تتعاون روسيا بشكل تام وتلقائي، وبالذات لأنها ثاني اكبر دولة منتجة وثاني اكبر دولة مصدرة للبترول، ويرتبط اقتصادها ووضعها المالي بأسعار البترول. وبالطبع فإن درجة تعاون دولة مثل روسيا من المفروض ان يعكس وضعها النسبي في السوق البترولية الدولية، أي ان نسبة تخفيضها يجب ان تتماشى نسبيا مع إنتاجها، وتخفيض الآخرين من داخل "أوبك" وخارجها. إلا ان قرار روسيا الأخير بتخفيض الإنتاج والصادرات بمقدار 50 ألف برميل يوميا أصاب السوق بنوع من الإحباط، فهذه الكمية، وبالرغم من أنها افضل من كمية التخفيض المقترحة سابقا (30 ألف برميل) الا أنها تعتبر ضئيلة بكل المقاييس، كما انه من المتوقع حسب رأي المراقبين ان تنخفض الصادرات الروسية خلال فصل الشتاء في جميع الأحوال، الا انه من الملاحظ ان الحكومة الروسية تركت الباب مفتوحا للتعاون وذلك بقرارها مراجعة موضوع التخفيضات مرة أخرى مع بداية الشهر المقبل (كانون الأول/ديسمبر).
&فإذا رفضت روسيا مبدأ التعاون مع منظمة "أوبك" والدول المنتجة الأخرى والمشاركة المتكافئة في التخفيض، فقد تنخفض الأسعار وبشكل يصعب التكهن عن مداه. أما في حالة تعاون روسيا وتخفيضها لانتاجها وصادراتها، فمن المتوقع ان ترتفع الأسعار، وان يستقر سعر سلة ألـ"أوبك" بما بين 22 و25 دولارا خلال النصف الأول من العام المقبل على الأقل. فلا بد من الملاحظة هنا، ان قرار التخفيض وبهذه الكمية الكبيرة (مليونا برميل يوميا) يبدأ مع بداية شهر كانون الثاني (يناير)، أي ان تأثيره سيكون محدودا بأواخر الربع الأول والربع الثاني من العام المقبل. وهذا يعني ان الهدف هو استقرار وتوازن السوق وليس إحداث قفزة في الأسعار.
وبالنسبة لروسيا، فإنه من الملاحظ حاليا وجود نقاش مستفيض داخل الحكومة وداخل الصناعة البترولية الروسية. وهذا وضع صحي سليم يبعث على التفاؤل، فبحسب التقارير الصحافية الواردة من موسكو، فإن هناك اختلافا في وجهات النظر ليس فقط بين المسؤولين الحكوميين، بل كذلك داخل الصناعة البترولية نفسها، بين مؤيد للتعاون والتخفيض المناسب في الإنتاج والتصدير، والمعارض لكل هذا.
ومن المؤسف ان هناك تشويشا خارجيا لهذا النقاش، واعطاء صورة مخالفة للواقع أو صورة سلبية. فعلى سبيل المثال هناك من يحاول الزج اعتباطا بالعامل السياسي في هذا. فقد أشار البعض إلى ان روسيا لا يمكن ان تتعاون مع ألـ"أوبك" في وقت يزور فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتن الولايات المتحدة، كما انهم أضافوا ان روسيا تسعى حاليا إلى بناء تعاون في كافة المجالات مع أوروبا الغربية والولايات المتحدة. من هنا فإنها قد لا تسعى إلى التعاون مع منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك"، وخفض الإنتاج الذي يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وبالذات في وقت يمر فيه الاقتصاد العالمي بمرحلة تباطؤ في نموه.
الا انه من الملاحظ ان الولايات المتحدة الأميركية وكافة الدول الصناعية المستهلكة للنفط يهمها استقرار السوق البترولية الدولية هي الأخرى، وتدرك ان الضرر الناتج عن انهيار الأسعار، يساوي، بل ربما يزيد من الضرر الحادث عن الارتفاع الكبير في أسعار البترول.
وإلى ذلك فإن بعض الدول الغربية، مثل الولايات المتحدة، وكندا، وبريطانيا، تعتبر دولا رئيسية منتجة للنفط، حيث تتأثر صناعتها البترولية سلبا بانهيار أسعار البترول، كما يرتفع اعتماد بعضها على البترول المستورد نتيجة لذلك وهو ما تحاول تجنبه. ويساوي هذا في الأهمية انه من غير المتوقع ان تغامر دولة مثل روسيا بمصالح اقتصادية واضحة من اجل أهداف سياسية متوقعة.
وهناك من يحاول تفسير الموضوع من منطلق وجود حرب أسعار بين ألـ"أوبك" وروسيا، أو حرب على الحصة الأكبر من السوق. وهناك من يذهب ابعد من ذلك بالقول بوجود صراع مواقف، بحيث يتراجع أحد الطرفين عن موقعه لصالح الآخر Who blinks First، وقد وصلت درجة عدم الإدراك والسلبية إلى ان إحدى النشرات البترولية سمت ما يحصل بين ألـ"أوبك" والمنتجين الآخرين من ناحية وروسيا من ناحية أخرى بالابتزاز Blackmail.
فحقيقة الأمر ان منظمة "أوبك" تتجنب حربا للأسعار أو صراعا على الحصص، ولو أرادت ذلك لاستخدمت طاقتها الإنتاجية المجمدة والتي تصل إلى حوالي خمسة ملايين برميل يوميا، ان هدف الـ"أوبك" هو استقرار الأسعار في ظروف اقتصادية عالمية صعبة ومشاركة جميع المنتجين كل حسب طاقته في تحمل المسؤولية. وبدون هذا التعاون، الذي هو أمر طبيعي ومتوقع وفي صناعة حساسة وهامة مثل البترول، فإن القضية لن تكون، من سيغض الطرف أولا، بل قد تكون اصعب من ذلك، ولن يخرج أحد منها رابحا، وسيضطر الجميع إلى التعاون لاحقا، ولكن بعد لعق الجراح.
&
&
* مستشار وزير النفط السعودي
نقلا عن صحيفة "الشرق الأوسط"