كانت الثورتان الجزائرية والفيتنامية من النبل، بحيث حصرتا المقاومة في دائرة الصراع الضيقة، في دائرة الوطن المحترق، وكسبتا تعاطف الرأي العام العالمي والاميركي في عدم نقل الصراع الدموي الى خارج الحدود.
وقد تطلب هذا الاباء شجاعة متناهية وضبطا متساميا للنفس وتحملا مذهلا لألم الجرح دون اية محاولة لجرح العالم وايذائه. ومن حسن الحظ ان الاصولية الجهادية الفلسطينية تلتزم، الى الآن، بهذا النبل الاخلاقي والانساني الذي انتهكته يوما المنظمات الفلسطينية القومية واليسارية.
ومن سوء الحظ ان الدول الكبرى التي تدير الازمات العالمية والتدخل فيها، مُلهبة او مُصالحة، ما زالت مصرة على تجريد العرب من حق الدفاع عن النفس والارض.
وأيا كان الجدل حول اخلاقية التعرض للمدنيين، فلا يمكن للعرب المجروحين في كبريائهم إلا اعتبار الحركات الفلسطينية الجهادية آخر دفقة روح ومقاومة في امة ضُربت مقاومتها الوطنية من الداخل بالقمع والعنف، ومن الخارج بقوة التدخل المسلح.
لكن الجهادية الفلسطينية تعاني من قصور وضعف كبيرين في تحديد وتخطيط الهدف الاستراتيجي وفي اسلوب الاداء السياسي. والغموض في الاستراتيجية وفي تغييب العمل السياسي مفيد في بث الشك والبلبلة في معسكر العدو، لكن العمل المسلح ليس نهاية او مهنة كما حسبت الجهاديات "الافغانية"، انما هو اداة لتحقيق استراتيجية معلنة بكل تفاصيلها، ولتنفيذ سياسة ذكية وخادمة للعمل المسلح وللاستراتيجية.
منذ عام 1988، اعادت المرجعية الوطنية الفلسطينية رسم هدفها الاستراتيجي، فاعترفت باسرائيل في حدود فلسطين 1948، وقبلت باقامة الدولة الفلسطينية في فلسطين 1967، أي في الضفة وغزة واختارت السياسة والديبلوماسية كبديل للكفاح المسلح، ولقي هذا التحول الاستراتيجي بشكل وآخر قبولا لدى الانظمة العربية والرأي العام العربي.
لكن مع صعود المد الاصولي في المنطقة، ووصوله الى الحكم في ايران والسودان وافغانستان، ونجاح الجهادية الافغانية في طرد السوفييت واقامة دولة "دينية" هناك، ومع نجاح الجهادية الايرانية ـ اللبنانية في طرد اسرائيل من جنوب لبنان... ونتيجة لكل هذه النجاحات، فقد رفضت الجهادية الفلسطينية الاستراتيجية الجديدة للقيادة التاريخية الفلسطينية، وطرحت استراتيجية نقيضة لها، وهي اعتماد "تحرير فلسطين" بالجهاد المسلح.
غير ان هذه الاستراتيجية الجهادية انطوت على تناقضات كبيرة في المضمون وفي الممارسة السياسية، الامر الذي اضفى غموضا وابهاما على المشروع الاصولي الفلسطيني، وتسبب في حيرة وبلبلة في الشارعين الفلسطيني والعربي، وسوء فهم كبير له في العالم.
فقد انطوى شعار "تحرير فلسطين" على معنى عام وعريض دون تحديد اية فلسطين؟ فلسطين 48؟ فلسطين 67؟ فلسطين القرار 242؟!...
والاجوبة متناقضة ومتباينة عند "حماس"، فالتحرير عند الرنتيسي يبدأ من النهر وصولا الى البحر، أي يلغي اسرائيل، وبالتالي يسقط المفاوضة والاعتراف والصلح والسلام معها، لان فلسطين "وقف اسلامي"، اي هبة من الله للمسلمين لا يجوز لهم التنازل عنها، ويجب عليهم الجهاد لاستعادتها.
لكن التحرير عند الشيخ احمد ياسين مؤسس "حماس" وعند موسى ابو مرزوق الرئيس السابق لمكتبها السياسي، لا يستبعد ان يكون هناك "حل سلمي" على شكل "معاهدة سلام او هدنة، شرط ان تفكك الدولة العبرية كل المستعمرات في الاراضي المحتلة، وتنسحب كلية من الضفة وغزة والقدس الشرقية" و"الهدنة لا تعني الاعتراف بل تأجيل الصراع".
ويذهب الشيخ ياسين الى تحديد مدة الهدنة بعشر سنوات، ويخول الحاكم اعلانها "اذا رأى في العدو قوة وفي المسلمين ضعفا". وهذا يعني ضمنا التخلي عن فلسطين 48 مرحليا او مؤقتا ووقف الكفاح المسلح.
ويمكن عزو هذا التناقض الى الانقسام داخل "حماس" بين الجهاديين والسياسيين. والدليل على وجوده هجمة الشيخ ابراهيم غوشة الناطق بلسان الجهاديين على الشيخ ياسين ووصفه له بأنه مجرد "مرحلة روحية وتاريخية" واصراره على ان مؤسسات حماس هي التي تحدد موقفها ورأيها، ملمحاً الى ان العمر والأسر ربما اثرا على معنويات الشيخ المؤسس.
التناقض يبدو اكثر وضوحاً عند الشهيد فتحي الشقاقي مؤسس "الجهاد" فهو يرى في "حماس" ترددا في اعتماد الكفاح المسلح. وهو يرجع ذلك الى انها ولدت من رحم الاخوان المسلمين الذين "يؤجلون الكفاح الى ما بعد اسلمة المجتمع".
ولعل الشيخ غوشة يتفق مع الشقاقي في هذا التفسير، من خلال توبيخه للاخوان الاردنيين الذين قطعوا الصلة التنظيمية مع "حماس" مسايرة للنظام الاردني، ولابدائهم فتوراً في الدفاع عنه وعن زملائه في المكتب السياسي الذين طردوا من عمان.
لقد سار المثقف الشقاقي مسافة طويلة من التزامه القومي الناصري الى اعتناق الخمينية الرافضة للتسوية السياسية وللحل السلمي. ولعل حنينه الناصري هو وراء الحاحه على موقف متقدم على اخوانية "حماس" بالدعوة الى "تحالف القوى العلمانية والاسلامية" في الكفاح المسلح. وقد تسبب موقفه هذا في انقسام حاد داخل "الجهاد" وصل الى حد الاقتتال في مخيمات لبنان الفلسطينية، قبل ان تغتاله اسرائيل في عام 1995.
الغموض والابهام يتجليان ايضا في التزام منظمة "الجهاد" المطلق بالجهاد المسلح، فيما تنهج حاضنتها ايران سياسة مزدوجة. فالموقف الرسمي الايراني المعلن يقول انه ليس ضد التسوية السياسية، ويترك للعرب وللفلسطينيين تقرير ما يرونه مناسبا، لكن ايران تقيم مع جهاديات الكفاح المسلح علاقة سياسية وعسكرية ومالية، وتعلن في بياناتها المشتركة معها عن رفضها لأية تسوية.
لضيق المجال، أمضي في عرض سريع للتناقضات. فقد اكتفت الجهاديات الفلسطينية بالحجر في الانتفاضة الاولى 87 ـ 1993 لأن اللجوء الى السلاح، في رؤية حماس آنذاك "يعطي الفرصة للعدو لسحقها وايقاع خسائر هائلة في ارواح ابناء شعبنا". لكن الموقف الجهادي تحول لاسباب غير مفهومة من الحجر الى السلاح في الانتفاضة الراهنة! على الرغم من ان خسائر الفلسطينيين في الارواح اقتربت في عام واحد الى الف شهيد.
اما الدولة الفلسطينية فهناك اصرار لدى الجهاديات على ان تكون دولة دينية، دون اي ايضاح لعلاقتها مع العروبة ومع الديمقراطية ومبدأ تداول السلطة، ووضع الاقليات فيها ومصير يهود اسرائيل: هل هم مقبولون فيها بعد التحرير، ام تجب اعادتهم من حيث اتوا؟
التناقض والارتباك ينسحبان على الممارسة السياسية، فحماس تعتبر العمل السياسي "رديفا" للعمل الجهادي. لكن السياسة لم تشكل قط عصب العمل لتحقيق الهدف الاستراتيجي. وأدى تجاهل ألوان الطيف الحزبي والسياسي الاسرائيلي الى تصعيد العمل الانتحاري خلال المواسم الانتخابية الاسرائيلية، الامر الذي اوصل اليمين الاسرائيلي الى الحكم والرافض بدوره التسوية والحل السياسي.
لكن العمليات الانتحارية الواسعة النطاق التي رافقت وصول الجنرال الاميركي زيني، قلبت الحسابات بكاملها. فواضح ان الجهاديات الاصولية العربية باتت تعتبر نفسها في خندق واحد في المواجهة مع اميركا، ابتداء من افغانستان الى الجزائر مرورا بفلسطين، وترى بعد التصفية الجسدية للجهادية الطالبانية بأنها مستهدفة ايضا.
من هنا، فهذه الجهاديات تدخل معركة "كسر عظم" مع اميركا في المنطقة، وتجد في احباط المبادرة الاميركية الجديدة في فلسطين حربا من اجل البقاء السياسي والجسدي لزعماء واطر الحركات الجهادية كلها، وليس فقط من اجل تحرير الارض.
توسيع مفهوم الصراع المسلح مع اسرائيل، ليشمل الصراع المسلح مع اميركا في المنطقة، يمكن ادراجه في دائرة الخطأ في الممارسة السياسية، فالجهاديات الفلسطينية في تحديها المباشر لاميركا ولمبادرتها السلمية تدفع بنفسها الى دائرة حرب اوسع، هي تلك الدائرة ضد عنف وارهاب الجهاديات الافغانية، فيما كانت الديبلوماسية العربية تسعى لاقناع اميركا بأن "المقاومة الجهادية" للاحتلال الاسرائيلي ليست ارهابا.
لا شك في ان تكثيف العمل الانتحاري سيدعم شارون وسيضعف الموقف الرسمي العربي والفلسطيني، وسينعكس سلبا على امن المدنيين الفلسطينيين وعلى قيادة عرفات في الضفة وغزة. وسيؤدي الى ضغط متزايد على الانظمة العربية التي تريد اعطاء فرصة للمبادرة الاميركية الجديدة لكي تحقق بالافعال وليس بالاقوال اقامة الدولة الفلسطينية، وانهاء الاحتلال الاسرائيلي، ووقف الاستيطان، حسبما ورد في كلام بوشباول وكل ذلك يوحي بالتشاؤم ليس بالنسبة للقضية الفلسطينية فحسب، وانما بالنسبة لتطورات الاحداث في المنطقة. (الشرق الأوسط اللندنية)
&