كنا نقف أمام حجرة غسل الموتى في الجناح الإسلامي من مقبرة استوكهولم، منهكين مخذولين نرتجف من البرد، وقد طال انتظارنا ليخرجوا بجثمان صديقنا لدفنه فيرتاح ونرتاح لخلاصه من عذاباته الكثيرة ، ومعاناته الطويلة مع السرطان. حتى لقد خيل لي وأنا أعرف نزق صديقنا الميت أنه سيفر من بين أيديهم ويخرج علينا عارياً قائلاً :"هيا دعوني سأنزل إلى الحفرة دون كفنكم وكافوركم وأدعيتكم!" ربما كانت مصادفة طيبة أنهم سمحوا للشاب سويلم أن يكون بيننا، انهم يدعونه بالأبله المجنون بينما يتناقلون له كلمات وتعليقات تكاد تكون شرراً من العبقرية! لقد خفف عنا بتعليقاته السائبة المنفلتة وحشة المقبرة ، وبعض سأمنا وألمنا ، كانت تعليقاته تمر بهدوء حتى لدى بعض من أفراد عائلة الميت الواقفين جنبنا يتناوبون البكاء بصمت، قال :
ـ لا بد أن يطيلوا في تغسيله، بقدر ما له من ذنوب !
لكن رجلاً كان يقف معنا أخذ كلامه على محمل الجد، ويبدو إنه لا يعرفه فانبرى له قائلاً :
ـ من أين له ذنوب ؟ أنه مجرد فنان موسيقي شريد عاش في الغربة ربع قرن ومات شاباً معذباً ألا يكفي هذا لمحو ذنوبه إذا كانت له ذنوب؟
ابتعد سويلم عنا مولياً إذنه الكبيرة جهتنا كأنه ما يزال يصغي لكلام الرجل القادم من بلدة أخرى للتشيع ، راح يطوف حول مكان التغسيل ثم دخلها وجاء ليقول موجهاً كلامه للرجل :
- أنت محق سمعتهم يقولون أن الميت انزلق من أيدهم إلى الأرض رافضاً غسله، إنه محق، من يعش غريباً يموت دون ذنوب!
علق آخر:
- في المنفى نتلقى الجحيم مقدماً ، وفي الآخرة تكون لنا الجنة دون حساب !
لم نكن جمعاً كبيراً . تلك هي أحوال التشيع في الغربة ، كثيرون يتقاعسون أو لا يحبذون القدوم للمقابر وكثيرون مستعدون للقول:
ـ مات ؟ ومن قال لك أننا أحياء لنذهب ونشيع ميتاً ؟ نحن يا صديقي هنا منذ زمن بعيد، فقط نستهلك أيام ما قبل الدفن،&نعم يا صديقي في الداخل يقولون لمن يموت أنه ارتاح من تماثيل وبهلوانيات القائد ، ومن سيرك أمريكا المتجول، وفي الغربة يقولون إنه استراح من جرائد المعارضة ، ومما يسمونه فتات موائد الأجنبي ، لقد ظل صاحبنا يكدح في قطع الأشجار في الغابات حتى تفاقم مرضه! كنت منزعجاً لهذه الإطالة في اجراءات الغسل والتكفين متمنياً أن يستلقي صديقنا المسكين في قبره بعيداً عن منغصات راحته الأبدية، متوقفين عن ملاحقته حتى هذه اللحظة بروتيننا الدنيوي أو السماوي! والآن بعد كل هذا العناء بين الملاجئ وأبواب البلديات السويدية سيضع صديقنا الميت رأسه على حجر بارد أو خشبة تابوت مشقق يطوف به في بحار الراحة الأبدية. لقد أرادوا دفنه في العراق، ورغم إن التكاليف باهظة إلا أن أهله قرروا أن يستدينوا ويحققوا له حلمه في النوم في مقبرة عراقية معرضة لبلدوزرات السلطة أو للنبش من قبل اللصوص بحثاً عن الأسنان الذهبية، ووقد ووجدوا أن من حسن حظه أنه لم يكن يمتلك أسناناً ذهبية، بل أسناناً منخورة من كثرة التدخين، وقد اتصلوا بأخيه الوحيد المتبقي لكنه لم يجرؤا على السفر إلى الأردن لتسلم جثمانه، قال بعضهم إنه محق فهو ينبغي أن يبقى حياً عله يستطيع رعاية من تبقى من أولاد أخويه المقتولين في الحرب الأخيرة !.
خرجوا بجلبة يحملون الجنازة ، وأصوات بينهم تنادي :"الله أكبر "، "البقاء لله وحده" وضعوا الجنازة على الأرض ورفعوا الغطاء ونادوا "من يريد إلقاء النظرة الأخيرة على الفقيد ليسارع ويتقدم " لم أتحرك نحوه، أحسسته بعيداً عني كأنه ملقى على الضفة الأخرى من الحياة، ليس فقط لأني لا أريد مزاحمة عائلته الباكية على توديعه بل لأني آثرت أن أحتفظ بنظرتي له التي أخذتها عنه قبل نوبة مرضه الأخيرة، قالوا إنه مات من الغم ومن قطع الأشجار!.قال لي مرة ألا يكفي أنهم قطعوننا من أماكننا ثم جئنا هنا لنقطع الأشجار !لا أريد أن أرى وجهه متمرغاً بتراب الموت !كان يقود الجنازة رجل بعمامة بيضاء، بدين متلفع بمعطف سميك زاد من ضخامته، وينتفخ خداه بتورد طافح كأنه ساحر موهماً المشيعين أنه سيقوم بحركة ما تدفع التابوت من أحد أبواب السماء ليهبط في الفردوس!
كانوا يحملونه باتجاه الحفرة التي شقت جوانبها انتظام جرافة ما تزال ترفع فمها الحديدي الكبير فوقها، رغم أن قاعها كان موحلاً مغموراً بالماء الثلجية في هذا اليوم من شباط القارس، إلا إنه جعلني أنسى قاعها السحيق الآخر، وضعوا التابوت عند حافة شدق القبر وانتصب الشيخ وراءها حاجبا بجثمانه ثلاثة أو أربع من المشيعين خلفه واضعا يديه أمام وجهه كأنه يقرأ السماء كلها وقد تكثفت بين كفيه: اللهم هبه جسداً وقلباً غير جسده وقلبه، وأرضاً وموطناً غير أرضه وموطنه، وبيتاً غير بيته، وزوجة غير زوجه، وثوباً غير ثوبه، وطعاما وشراباً غير طعامه وشرابه، وأصدقاءً غير أصدقائه، عندما ابتهل الشيخ داعياً هبه زوجة غير زوجه و أصدقاءً غير أصدقائه ردد كثير من المشيعين بصوت أعلى "آمين " فكلنا والحق يقال بعد أن حصلنا على أرض وموطن غير أرضنا وموطننا، صرنا بحاجة لزوج غير زوجنا ولأصدقاء غير أصدقاءنا ولماذا لا نوهبهم إلا بعد الموت ؟، كادت الريح الهائجة تفل عمامة الشيخ وتطوح بها بعيداً لكنه ظل يشدها ويتلمظ وكأنه يشم رائحة أطعمة الجنان من الحفرة المفتوحة ويردد دعائه. دق الهاتف النقال في جيبه تركه يدق هنيهة حتى لقد وجدتني أكاد أسمعه يقول: اللهم هبه تلفوناً غير تلفونه" فقلت: "آمين"، وربما لم أكن وحدي من ردد "آمين" فكثيرون مثلي يريدون غير تلفوناتهم وفاكساتهم التي لا تأتيهم إلا بالأخبار السيئة والرسائل الحاقدة. قطع الشيخ دعائه، وأخرج تلفونه من جيب معطفه السميك وهمس بكلمات قليلة وأعاد التلفون إلى جيبه سمع معظمنا صوت سويلم المتهم بالبله والجنون يقول بلهجة العارف الواثق:
ـ إنهم من الآخرة يقولون له أسرع! ناولنا الميت!، خلصنا فنحن متلهفون!
تخيلت ما يدعى بمنكر ونكير وبقية طاقمه الحسابي كتماسيح جائعة تحت شاطئ القبر تنتظر سقوط الجثة لالتهامها، سمعت ضحكات عميقة وقصيرة، وكتم معظمنا أنفاسه!
راح الشيخ يكمل دعاءه :
اللهم هبه روحاً ونفساً غير روحه ونفسه، وملاكاً طاهراً يقوده ويقيه شر نفسه وأهوائه الدنيوية!
دق التلفون النقال مرة أخرى، قلت، لماذا لم يقفل الشيخ تلفونه حتى ينتهي من هذه المهمة العويصة؟ ولكني تذكرت قول أحدهم مرة وكنا نريد طلب الشيخ في وفاة مفاجئة سابقة "شيوخ غسل ودفن الموتى في الغربة لا يقفلون تلفونتهم فهم في كل لحظة معرضون لمن يطلبهم ويحتاج لخدماتهم الرهيبة "
راح الشيخ يهمس بكلمات متدفقة غير مسموعة لنا بين صفير الريح الباردة، بدا متحفزاً نهماً، وكأنه نسى الميت الذي أمامه والمتحدث هناك لا يريد أن ينهي مكالمته، قلت في نفسي من هذا الثقيل الظل الذي دق عليه في هذه اللحظة ؟، هل يحدث لنا أن نطلب شخصاً دون أن ندري مهما بلغ بنا الخيال أن من نطلبه يقف عند جنازة ويحف به مشيعون ؟ وإنه مشغول في إخراج ميت من هذه الدنيا عبر حفرته الأخيرة التي هي ثقب ضيق على أي حال؟ من هذا الطالب الثقيل؟ أهو دائن يريد من الشيخ أن يرجع له دينه ؟، ولكن المشتغلين بالدين كمهنة هم عادة أثرياء أو مكتفون مرفهون ولا يضطرون للاستدانة، أهي زوجته التي تصغره بحوالي عشرين عاماً وقد لج بها الشوق أو الشبق إليه في لحظ الموت هذه؟ أهو شخص لديه ميت أيضاً يريد منه غسله وتكفينه؟ لكن الشيخ يبدو متلهفاً شرهاً!هل المتحدث معه من مركز مؤسسته الكبيرة في لندن يناقشه حول طلبه حصة من غنائمهم؟ ولكن لماذا يطيل الشيخ الحديث وقد نسى الجثمان المسجى أمامه، ونظرات المشيعين المنكسة على الأرض في هذا العراء العاصف والريح الثلجية؟، تذكرت أن الشيخ لديه محل كبير للبقالة، يمكن أن نجد فيه الكثير من بضاعة السوق السوداء، فهو يقوم بكل تجارة تدر مالاً بدءاً من مواد التجميل والطبابة الشعبية للنساء وإيصال الدولارات إلى العراق لأهالي المنفيين حتى بيع صحون الفضائيات وشفراتها المزورة ، هو يمارس دفن الموتى كهواية أو لوجه الله كما يقول، سمعت رجلاً بجانبي يقول:
- ربما المكالمة من العراق، يصعب تحصيل الخط إلى هناك، ولابد أن هناك أمر مهم!
لكني فوجئت بالأبله المجنون يقول بلهجة أكثر وثوقاً:
ـ لا . ربما انهم في الآخرة ،توقفوا عن قبول الموتى العراقيين ، كما توقفوا هنا عن قبول اللاجئين! لقد ملأ العراقيون الآخرة ولم يعد هناك مكان شاغر !
ثم أضاف حسنا ليردوا له روحه ويبقوه معنا ، حرام لقد مات شاباً ولديه أطفال وزوجة شابة جميلة!
ثمة رجل نحيل الجسد سمعت أنه يعاني مرض الموت ويرى نفسه إنه بعد مدة قصيرة سيكون في نفس المكان أمام نفس الشيخ ونفس المشيعين يقول:
ـ ربما من يدري ؟
واصلت صمتي محدقاً بابني الذي لم يتجاوز السادسة وأصر على مرافقتي دون أن يدري بالضبط إلى أين أنا ذاهب فأتيت به رغم اعتراض أمه قائلاً في نفسي "لا بد أن ينضج على نار أحزاننا المتأججة دائماً على جليد الغربة "، سألني هل صحيح أنهم في الآخرة، لديهم تلفون نقال وانترنيت ويتحدثون مع بعضهم هنا كما نتحدث بين بلدان العالم ؟ ضغطت على يده هامساً سأحدثك فيما بعد !
أخذت قطرات المطر الثلجية تتساقط على وجوهنا وربما اغتنمها البعض منا لتبدوا دموعاً، حيث قليل منا هنا دُرت عيناه الجافتان منذ وقت طويل ، لكن المطر الذي أخذ يتهاطل أوقف موجة البكاء والنحيب المكتومة بين أفراد عائلة المتوفى . بدا لي أن الشيخ لم يقطع مكالمته ولكنها قد وصلت نهايتها .أعاد التلفون الصغير الأنيق إلى جيب معطفه الممتلئ، كان ذاهلاً وهو يطلب مشاركته في قراءة سورة الفاتحة، ولا أدري أهي من أجل الميت من أجل ما دار في مكالمته المجهولة ، لا أدري لماذا توقف بصري على أظافره المرفوعة أمام وجه، كانت طويلة وثمة سواد متجمع تحتها، رحت أفكر أهي من عمله في تنظيف الموتى من عمل آخر .
أنزلوا الميت في الحفرة، وانقض خطم الجرافة يهيل عليه التراب، شارك المشيعون في إلقاء حفنات رمزية على سبيل الثواب والرحمة المتعارف عليها لتحقيق الحكمة العظيمة التي تقول أن ابن آدم يظل شرها لا يشبع من متاع الدنيا، ولا تملأ عينيه غير حفنة من التراب، وكل واحد منا يريد أن يظهر أمام الله أو أمام نفسه والآخرين أنه هو الذي سيهبه حفنة التراب المقنعة! مازال القبر يريد المزيد من التراب ،دق التلفون النقال في جيب الشيخ فعاد صاحبنا الذي لا يفارقه المرح في أحلك الظروف والمتهم بالجنون ليقول:
ـ لابد أنهم هناك في الآخرة يعلمونه النتيجة إن كانوا قد وضعوه في الجنة أم في النار!
جاء أحدهم ودفع سويلم الأبله المجنون بعيداً عن المشيعين وسمعناه ينتهره ويأمره بالسكوت، بينما سمعت بعضهم يلوم رجلاً "لماذا سمحت له بالمجيء إلى المقبرة :ألا تعرف أنه مجنون ولسانه قبيح ؟"&
حين اقتربنا من ساحة وقوف السيارات عند باب المقبرة تسلل سويلم الأبله المجنون مهرولاً بجسده الضخم إلى الشيخ يسأله:
- قل لي يا شيخ ماذا قالوا لك في التلفون ؟ أين وضعوه في الجنة أم في النار؟
- نظر الشيخ إلى الشاب وقد قدر من نظراته الزائغة ووجهه السمين المترهل وثيابه المتهدلة أنه مختل العقل، فربت على كتف يهدئه وهو يخرج مفاتيح سيارته باليد الأخرى، ويطيل معه الكلام كأنه يتلو عليه دعاءً يشفيه:
-& إنه في الجنة بإذن الله يا ولدي، من يعاني الغربة له في الجنة قصر فيه حور عين وغلمان وأنهار من خمر وعسل!
- مال سويلم الذي بدا سعيداً ببلهه وجنونه وقد أخرج قلماً ودفتراً صغيراً وهو يقول:
-&رحم الله والديك يا شيخ ،لو أعطيتني رقم تلفونه الجديد فأنا أريد أن أطلب اللجوء هناك، أوراقي هنا متعطلة منذ سنوات!
- كان الشيخ قد أدار محرك سيارته الجديدة الفارهة فانطلق بها ملقياً نظرات شزرة على من تبقى من المشيعين الذين يأتون بمجانين ومخبولين يفسدون هيبة القبور !


&
ابراهيم أحمد
&