&
يتأكد، يوماً بعد يوم، أن أحداث 11 أيلول لم تفعل سوى "تثقيل" الاتجاهات العميقة في السياسة الخارجية الأميركية. المثالان الأخيران عن ذلك هما الاتفاق مع موسكو على خفض الترسانة النووية، وإنشاء مجلس الأطلسي روسيا.
لقد "أنهيت"الحرب الباردة غير مرة في العقد والنصف الأخير. لذا لم يتشجع أحد على القول إنها انتهت من جديد. فما يحصل هو إهالة تراب على جثمانها لا بل تدشين المرحلة المسماة بمرحلة <<ما بعد انتهاء الحرب الباردة>>. والعلامة البارزة للعصر الجديد هي نشوء تقارب بين قوى دولية نافذة جداً على قاعدة إعادة تعريف العدو المشترك بصفته: الإرهاب، والدول المارقة، وأسلحة الدمار الشامل، واحتمال التزاوج بين هذه العناصر بحيث تزود دول إرهابيين بأسلحة غير تقليدية.
سمح جورج بوش لفلاديمير بوتين بإنقاذ الشكليات. فهو كان يريد توافقاً معه على خفض الأسلحة وذلك منذ أن اجتمع إليه في مزرعته في تكساس وحدّق ملياً في عمق عينيه فاكتشف أنه أمام صديق. غير أن الرئيس الروسي طالب باتفاق مكتوب يوحي، ولو لمرة أخيرة، بأن القوة العظمى الوحيدة توافق على أن <<ترحم عزيز قوم ذلّ>>. ولذا فإن الاتجاه هو إلى توقيع رسمي في 24 الشهر الجاري. إلا أن إنقاذ الشكليات لا يخدع أحداً. فمعظم من يتطرق إلى التطورين الأخيرين يؤكد أنهما يترجمان الخلل المتنامي في موازين القوى ولو أنهما يغطيان على ذلك بالتشديد على أهمية الانتقال من وضعية الخصومة إلى وضعية المشاركة.
خفض الترسانة النووية لكل بلد، بنسبة الثلثين، لا يعني الأمر نفسه منظوراً إليه من واشنطن أو من موسكو. فالميزانية العسكرية الأميركية ارتفعت الى حوالى 400 مليار دولار. أما الميزانية الروسية فتراوح عند 5 مليارات دولار فقط. أي إننا أمام نسبة ثمانين إلى واحد! وتستطيع واشنطن، والحالة هذه، أن تستغني عن بعض مخزونها لأنها ماضية في تطوير أسلحة الموجة الثالثة وما بعدها. أما موسكو فهي مضطرة الى الاستغناء عن هذا المخزون لأنها، ببساطة، لم تعد تتمكن من تأمين الصيانة اللازمة له. إن شبح تشيرنوبيل يلوح في الأفق.
ثم إن بوش انتزع من بوتين إقراراً بحق الولايات المتحدة في أن تدفن رؤوساً نووية أو تبعدها عن منصات الإطلاق أو تحتفظ بها لاستخامها كقطع غيار. ويعني ذلك عملياً أن روسيا وافقت على انتهاء <<التعادلية>> التي كانت العنوان الوحيد المتبقي لها من أجل ادعاء موقع مميز في العالم وسياساته.
يجب أن يضاف إلى ما تقدم أن بوش ماضٍ في انسحابه من معاهدة 72، وبالتالي في بناء الدرع الصاروخية التي تحمي، أساساً، الأرض الوطنية. ومعنى ذلك، في ضوء الخفض الكبير لعدد الرؤوس النووية، أن فاعلية الدرع حيال روسيا ازدادت الى حد كبير ما دامت حجة واشنطن في سجالها السابق مع موسكو ان العدد الذي تملكه من صواريخ بالستية لا تنفع معه درع دفاعية.
يبدو أن بوتين حصل على مكافأة من بوش هي إنشاء <<مجلس الأطلسي روسيا>>. ليست الهيئة الجديدة جديدة تماماً. فثمة مجلس يضم دول الحلف وروسيا. ولكن، مع ذلك، ثمة ما هو جديد فيه. فبعد أن كان أقرب الى صيغة 19 زائد واحد أصبح نوعاً من 20 ناقص واحد.
يعيش حلف شمال الأطلسي أزمة هوية. ولقد جرى التعبير عنها في حربي كوسوفو وأفغانستان. والواضح انه متجه أكثر فأكثر ليتعاطى مع حالات هي كناية عن استباق الأزمات أو معالجتها. والأوضح انه شهد تغييرات عقيدية ألغت تماماً فكرة <<المسرح الأوروبي>> كأرض مواجهة محتملة بين <<الغرب>> و<<الشرق>>. إن الطابع السياسي للحلف يغلب، أكثر فأكثر، على طابعه العسكري. ولا شك بأن صيغة لتوثيق الصلة بروسيا تعزز هذا الاتجاه.
غير أن التدقيق في هذه المكافأة يؤكد أنها غير ثمينة. ف<<الناتو>> سيبقى موجوداً في هيكلية خاصة. وإذا كانت موسكو ستكون صاحبة كلمة في الهيئة الجديدة فذلك لا يلغي احتمال أن تجتمع الدول الأصلية وتتخذ القرارات التي تريد. وبهذا المعنى لا تعود لكلمة روسيا قيمة لأن المواضيع الخلافية لن تكون حاضرة، أصلاً، على جدول الأعمال.
بمعنى آخر لن يستطيع بوتين ممارسة حق النقض على قرار من الأطلسي بشن حرب مثلاً. كما أنه لن يستفيد من وجوده في المجلس لكي يعترض على توسيع الحلف نحو تسع دول جديدة مرشحة قد تكون دول البلطيق بينها. وليس غريباً، والحالة هذه، توقع أن <<يتعب>> بوتين مع مؤسسته العسكرية لتمرير هذا التوجه الجديد. ومع ذلك فإنه يملك مدخلاً وحيداً للإقناع: يجب القفز عن التفاصيل لرؤية اللوحة الكاملة وهي أن بلاده مضطرة الى دفع ثمن من أجل الشراكة مع الغرب عموماً ومع الولايات المتحدة بشكل خاص، ومن حق موسكو أن تطمح الى علاقة مميزة مع واشنطن في زمن التوافقات العالمية وإلا فإن أوروبا ستفوز بالسباق أو الهند أو الصين.
لا يخفي المسؤلون الأميركيون والروس ان <<الأعداء الجدد>> هم في خلفية هذه التطورات الاستراتيجية المهمة في علاقات البلدين وفي العلاقة مع <<الأطلسي>>.
... ان مرحلة <<ما بعد انتهاء الحرب الباردة>> هي تدشين عملي لمرحلة حرب باردة من نوع جديد تحتل منطقتنا العربية فيها موقعاً حساساً.(السفير اللبنانية)
لقد "أنهيت"الحرب الباردة غير مرة في العقد والنصف الأخير. لذا لم يتشجع أحد على القول إنها انتهت من جديد. فما يحصل هو إهالة تراب على جثمانها لا بل تدشين المرحلة المسماة بمرحلة <<ما بعد انتهاء الحرب الباردة>>. والعلامة البارزة للعصر الجديد هي نشوء تقارب بين قوى دولية نافذة جداً على قاعدة إعادة تعريف العدو المشترك بصفته: الإرهاب، والدول المارقة، وأسلحة الدمار الشامل، واحتمال التزاوج بين هذه العناصر بحيث تزود دول إرهابيين بأسلحة غير تقليدية.
سمح جورج بوش لفلاديمير بوتين بإنقاذ الشكليات. فهو كان يريد توافقاً معه على خفض الأسلحة وذلك منذ أن اجتمع إليه في مزرعته في تكساس وحدّق ملياً في عمق عينيه فاكتشف أنه أمام صديق. غير أن الرئيس الروسي طالب باتفاق مكتوب يوحي، ولو لمرة أخيرة، بأن القوة العظمى الوحيدة توافق على أن <<ترحم عزيز قوم ذلّ>>. ولذا فإن الاتجاه هو إلى توقيع رسمي في 24 الشهر الجاري. إلا أن إنقاذ الشكليات لا يخدع أحداً. فمعظم من يتطرق إلى التطورين الأخيرين يؤكد أنهما يترجمان الخلل المتنامي في موازين القوى ولو أنهما يغطيان على ذلك بالتشديد على أهمية الانتقال من وضعية الخصومة إلى وضعية المشاركة.
خفض الترسانة النووية لكل بلد، بنسبة الثلثين، لا يعني الأمر نفسه منظوراً إليه من واشنطن أو من موسكو. فالميزانية العسكرية الأميركية ارتفعت الى حوالى 400 مليار دولار. أما الميزانية الروسية فتراوح عند 5 مليارات دولار فقط. أي إننا أمام نسبة ثمانين إلى واحد! وتستطيع واشنطن، والحالة هذه، أن تستغني عن بعض مخزونها لأنها ماضية في تطوير أسلحة الموجة الثالثة وما بعدها. أما موسكو فهي مضطرة الى الاستغناء عن هذا المخزون لأنها، ببساطة، لم تعد تتمكن من تأمين الصيانة اللازمة له. إن شبح تشيرنوبيل يلوح في الأفق.
ثم إن بوش انتزع من بوتين إقراراً بحق الولايات المتحدة في أن تدفن رؤوساً نووية أو تبعدها عن منصات الإطلاق أو تحتفظ بها لاستخامها كقطع غيار. ويعني ذلك عملياً أن روسيا وافقت على انتهاء <<التعادلية>> التي كانت العنوان الوحيد المتبقي لها من أجل ادعاء موقع مميز في العالم وسياساته.
يجب أن يضاف إلى ما تقدم أن بوش ماضٍ في انسحابه من معاهدة 72، وبالتالي في بناء الدرع الصاروخية التي تحمي، أساساً، الأرض الوطنية. ومعنى ذلك، في ضوء الخفض الكبير لعدد الرؤوس النووية، أن فاعلية الدرع حيال روسيا ازدادت الى حد كبير ما دامت حجة واشنطن في سجالها السابق مع موسكو ان العدد الذي تملكه من صواريخ بالستية لا تنفع معه درع دفاعية.
يبدو أن بوتين حصل على مكافأة من بوش هي إنشاء <<مجلس الأطلسي روسيا>>. ليست الهيئة الجديدة جديدة تماماً. فثمة مجلس يضم دول الحلف وروسيا. ولكن، مع ذلك، ثمة ما هو جديد فيه. فبعد أن كان أقرب الى صيغة 19 زائد واحد أصبح نوعاً من 20 ناقص واحد.
يعيش حلف شمال الأطلسي أزمة هوية. ولقد جرى التعبير عنها في حربي كوسوفو وأفغانستان. والواضح انه متجه أكثر فأكثر ليتعاطى مع حالات هي كناية عن استباق الأزمات أو معالجتها. والأوضح انه شهد تغييرات عقيدية ألغت تماماً فكرة <<المسرح الأوروبي>> كأرض مواجهة محتملة بين <<الغرب>> و<<الشرق>>. إن الطابع السياسي للحلف يغلب، أكثر فأكثر، على طابعه العسكري. ولا شك بأن صيغة لتوثيق الصلة بروسيا تعزز هذا الاتجاه.
غير أن التدقيق في هذه المكافأة يؤكد أنها غير ثمينة. ف<<الناتو>> سيبقى موجوداً في هيكلية خاصة. وإذا كانت موسكو ستكون صاحبة كلمة في الهيئة الجديدة فذلك لا يلغي احتمال أن تجتمع الدول الأصلية وتتخذ القرارات التي تريد. وبهذا المعنى لا تعود لكلمة روسيا قيمة لأن المواضيع الخلافية لن تكون حاضرة، أصلاً، على جدول الأعمال.
بمعنى آخر لن يستطيع بوتين ممارسة حق النقض على قرار من الأطلسي بشن حرب مثلاً. كما أنه لن يستفيد من وجوده في المجلس لكي يعترض على توسيع الحلف نحو تسع دول جديدة مرشحة قد تكون دول البلطيق بينها. وليس غريباً، والحالة هذه، توقع أن <<يتعب>> بوتين مع مؤسسته العسكرية لتمرير هذا التوجه الجديد. ومع ذلك فإنه يملك مدخلاً وحيداً للإقناع: يجب القفز عن التفاصيل لرؤية اللوحة الكاملة وهي أن بلاده مضطرة الى دفع ثمن من أجل الشراكة مع الغرب عموماً ومع الولايات المتحدة بشكل خاص، ومن حق موسكو أن تطمح الى علاقة مميزة مع واشنطن في زمن التوافقات العالمية وإلا فإن أوروبا ستفوز بالسباق أو الهند أو الصين.
لا يخفي المسؤلون الأميركيون والروس ان <<الأعداء الجدد>> هم في خلفية هذه التطورات الاستراتيجية المهمة في علاقات البلدين وفي العلاقة مع <<الأطلسي>>.
... ان مرحلة <<ما بعد انتهاء الحرب الباردة>> هي تدشين عملي لمرحلة حرب باردة من نوع جديد تحتل منطقتنا العربية فيها موقعاً حساساً.(السفير اللبنانية)
التعليقات