&
ليس من شك في أن من ينظر الى الواقع العربي الراهن نظرة سكونية يخرج بانطباعات سلبية للغاية. إذ يبدو العرب في مرحلة من الانحدار المريع، والتفكك، والأزمات الحادة المتلاحقة على جميع الصعد العسكرية، الاقتصادية، والسياسية، والثقافية وغيرها. ويرى بعض الباحثين العرب ان الواقع العربي يدعو الى التشاؤم، وأن تحالف بوش شارون قادر على إملاء شروط قاسية ضد العرب أبرزها ضرب الانتفاضة الفلسطينية.
لكن رؤية دينامية لحركية التاريخ العربي في مرحلته الراهن تؤكد خطأ تلك المقولات. فبرغم همجية شارون وشروطه المستحيلة للتفاوض مع العرب فإن مسار الهيمنة الاسرائيلية في المشرق العربي هو مسار انحداري واضح. فهي الآن أقل نفوذاً عما كانت عليه عام 1967 حين أنزلت هزيمة قاسية بالجيوش العربية مجتمعة واحتلت مساحات كبيرة من بعض الدول العربية. إلا أنها تعرّضت لنصف هزيمة في حرب عام 1973 على يد الجيوش العربية النظامية التي دخلت غالبيتها مرحلة الترهل التام منذ ذلك الحين ولم تشارك في الصراع العربي الاسرائيلي الذي تحوّل الى كفاح مسلح تخوضه الشعوب العربية في فلسطين وجوارها ضد الاحتلال الصهيوني.
فالقوة العسكرية وحدها لم تكن ولن تكون قادرة على فرض استسلام شامل ودائم على جميع العرب. أما الاتفاقيات المحدودة التي وقعت بين بعض الدول العربية واسرائيل فكانت لأهداف مرحلية واضحة. فقد استعادت مصر شبه جزيرة سيناء بموجب اتفاقيات كامب دافيد، واضطرت اسرائيل بموجب اتفاق اوسلو الى الاعتراف بالسلطة الفلسطينية كشريك مباشر في ادارة جزء من الاراضي التي كانت تحتلها سابقا بعدما اجبرت منظمة التحرير الفلسطينية على الخروج من لبنان وإبعاد قسم كبير من قيادتها وكادراتها العكسرية عن اراضيه عام 1982. ولم تنجح في تصفية المقاومة الوطنية اللبنانية التي تزايدت حدتها بعد احتلال اسرائيل للعاصمة بيروت وأجزاء واسعة من جبل لبنان، وجنوبه وبقاعه الغربي وارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982.
يضاف الى ذلك ان صورة اسرائيل شارون التي ارتكبت مجزرة جنين في آذار 2002، وحاصرت المدن والقرى الفلسطينية، واستخدمت كل اشكال العنف العنصري ضد العرب، وحاصرت مقر الرئيس الفسطيني ياسر عرفات، قد تغيرت بشكل واضح في كثير من الدول التي كانت تتعاطف معها سابقاً.
فقد طالبت بعض القوى الاوروبية بقطع العلاقات مع اسرائيل، وبوقف الشراكة الاقتصادية معها. فردّت حكومة شارون بأن اتهمت دولة عريقة بالديموقراطية كفرنسا باللاسامية والعداء لليهود، مما استدعى رداً عنيفاً ضده من جانب الرئيس الفرنسي جاك شيراك.
نخلص الى القول انه برغم المظاهر الخادعة حول قوة اسرائيل العسكرية وجبروت جيشها، فهي اليوم في وضع المأزوم عسكريا لأنها تحاول ايجاد مخرج لأزمتها السياسية من طريق اعتماد العنف الدموي ضد الشعب الفلسطيني، والتهديد بتحويله الى صراع شامل مع الأنظمة والشعوب العربية. ولعل أبرز الأسباب التي اوصلتها الى هذا المأزق السياسي تكمن في هزيمتها العسكرية في جنوب لبنان، وعجزها عن تصفية المقاومة الوطنية اللبنانية بقيادة حزب الله، وعجزها عن تصفية المنظمات الفلسطينية المسلحة.
فشارون السياسي يفتقر تماما الى اي تصور مقبول لحل صراع عربي صهيوني ما زال مستمرا لأكثر من مائة عام. علما أن الافكار التي يعتبرها مقبولة من جانبه للحوار السياسي مع العرب هي اشبه ما تكون بهلوسات لا عقلانية مصدرها جنون العظمة والتفوق العسكري الوحيد الجانب. فهو يعتقد ان بإمكانه تشكيل سلطة فلسطينية تكون وظيفتها الأساسية ضرب الانتفاضة الفلسطينية وحماية أمن اسرائيل. ويعتقد ايضا ان النظام الإقليمي العربي، بكامل دوله وعبر جامعة الدول العربية، سيتهافت لحوار معه ينهي المأزق الاسرائيلي لمصلحة اسرائيل، وعلى حساب العرب اجمعين. وعلى قاعدة <<خدعوها بقولهم حسناء>>، فإن الرئيس بوش قد خدع صديقه العزيز ارييل شارون حين قال عنه انه <<رجل السلام في الشرق الأوسط>>، لكنه نسي ان يخبره ان وظيفته الأساسية هي حماية المصالح الأميركية في هذه المنطقة الاستراتيجية والبالغة الأهمية في الاقتصاد العالمي. وبالتالي، فإن مصير هذه المنطقة لن يبقى طويلا أسير مشروع انتحاري اميركي ينفذه شارون لمصلحة اسرائيل لكنه يؤثر سلبا على مستقبل شعوب المنطقة بكاملها من عرب، وإيرانيين، وأتراك، ويقود الى خلل حاد في اقتصاد عدد كبير من دول الاتحاد الاوروبي، وروسيا، والصين، واليابان والهند وغيرها.
نعيد التذكير هنا بأن الضعف العربي المستمر هو نتاج التداعيات السلبية لهزيمة 1967 والأحداث المصيرية التي رافقتها خصوصا بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر عام 1970. وبعد أن رفع النظام الاقليمي العربي مستوى ادائه الى نوع من التعاون الاستراتيجي المحدود بين بعض دوله، تحولت النكسة الى نصف هزيمة لاسرائيل على يد الجيوش العربية في حرب 1973.
لكن الرئيس السادات سارع الى تبني شعارات مناقضة تماما للشعارات التي اطلقها الرئيس عبد الناصر والتف حولها قادة العرب في الخرطوم وهي <<لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض>>. فاتجه النظام الاقليمي العربي الى التصالح التدريجي مع اسرائيل. فتوجهت غالبية الدول العربية الى التصالح الفوري مع اسرائيل، وإقامة علاقات دبلوماسية معها، والمطالبة بالعودة الى حدود الرابع من حزيران 1967، وإقامة سلام شامل مقابل الانسحاب الاسرائيلي الشامل على قاعدة مبادرة الأمير عبد الله آل سعود.
على الجانب الآخر، بعدما حقق الجيش الاسرائيلي نصرا كبيرا على الجيوش العربية في حزيران 1967، اصيب بهزيمة نسبية في حرب اوكتوبر 1973، مما اضطر الولايات المتحدة الاميركية الى اقامة جسر جوي عسكري وتزويد اسرائيل بأحدث الأسلحة لإنقاذها من الهزيمة التامة. ثم أمنت التغطية لمسار سياسي من المفاوضات غير المتكافئة بين مصر واسرائيل في كامب دافيد انتهت بهزيمة سياسية شبه تامة للعرب. فقد أُعيدت سيناء الى مصر منزوعة السلاح، لقاء خروج مصر نهائيا من الصراع العربي الصهيوني. وعلى قاعدة <<لا حرب بدون مصر ولا سلام بدون سوريا>>، ترهلت الجيوش العربية. فانتقل مركز الثقل في القتال ضد اسرائيل الى المقاومة الوطنية اللبنانية والانتفاضة المستمرة في فلسطين المحتلة. وأصيبت اسرائيل بهزيمة عسكرية قاسية في جنوب لبنان في ايار من عام 2000، وباتت تخشى من هزيمة ثانية على ارض فلسطين بعد أن انتقلت الانتفاضة الفلسطينية للعمل داخل فلسطين.
لذا لجأت حكومة شارون الى رفع شعارات كبيرة لتغطية العجز عن تحقيق انتصار نهائي على الانتفاضة الفلسطينية. ويكفي التذكير بأن شارون طالب بمائة يوم لتصفية الانتفاضة، فأعطي كل الدعم الداخلي والأميركي لتنفيذ ما وعد به خلال عام ونصف العام. إلا أن النتيجة جاءت مخيّبة للآمال. فقد اصيب الاقتصاد الاسرائيلي بأزمات حادة، وانخفضت نسبة المهاجرين اليهود الى اسرائيل حتى الحدود الدنيا مقابل هجرة مضادة منها، وتقلصت السياحة بشكل كبير، وزادت الأزمات الاجتماعية حدة في مختلف المجالات. لكن الأهم من كل ذلك أن الانتفاضة الفلسطينية لم تنته برغم المجازر الهمجية التي ارتكبت في جنين وغيرها من المدن والقرى الفلسطينية، فهي ما زالت تضرب في عمق اسرائيل، وقد حوّلت عملية <<السور الواقي>> الى اسم بدون مسمّى. وتجدر الاشارة هنا الى ان غالبية المحللين، السياسيون منهم والعسكريون، داخل اسرائيل وخارجها، يستبعدون الآن إمكان وقف العمليات الفدائية. والخيار الأخير لاسرائيل في مواجهة العمليات الفدائية سيكون بنشر آلاف الحراس المسلحين في كل مكان. وتحاول بعض التقارير العسكرية خداع الرأي العام الاسرائيلي بأن إحباط <<نسبة كبيرة>> من العمليات الفدائية يعتبر <<نجاحا كبيرا>> لاسرائيل. لكن تلك التقارير لا تنفي امكان تجدد تلك العمليات بوتيرة أعلى في اية لحظة لأن الدولة الصهيونية عاجزة عن وقفها لأنها غير قادرة على معرفة من سيقوم بها. فالدوافع لتلك العمليات موجودة على ارض الواقع. وأن استمرارها يعود الى عاملين اساسيين هما: سياسة التدمير اليومي التي تعتمدها اسرائيل من جهة، وقدرة بعض الأفراد على التخطيط وتنفيذ بعض العمليات بسبب انتشار الجيش الاسرائيلي والمستوطنات بين قوى فلسطينية مسلحة ومعادية لاسرائيل من جهة اخرى. وقد أشاد عدد محدود فقط من التقارير العسكرية باقتحام الجيش الاسرائيلي لأراضي الضفة الغربية في ما يُسمى عملية <<السور الواقي>>، والمستمرة منذ 29 آذار 2002 لأنها أدت الى تدمير المرافق الحيوية للشعب الفلسطيني. ورأى كتّابها ان تلك العملية مكنت اسرائيل من اعتقال كثير من المقاومين في الضفة الغربية و<<تدمير أماكن صنع المتفجرات>> و<<اكتشاف السلاح المخبأ>>، اضافة الى تقليل العمليات الفدائية التي كانت قد اصبحت شبه يومية قبل البدء بعملية <<السور الواقي>>. وذكرت تقارير المخابرات الاسرائيلية ان جمع المعلومات من داخل الاراضي الفلسطينية يعد امرا بالغ الأهمية من اجل مواجهة العمليات الفدائية التي كان يتم التخطيط لها. بالمقابل، أكدت تقارير اخرى على أن القوى التي تقوم بعمليات فدائية داخل اسرائيل ما زالت قادرة على اختراق الخطوط الأمنية بعد اعتماد شكل من اشكال التمويه وارتداء ملابس عسكرية اسرائيلية لتنفيذ بعض العمليات. وتؤكد غالبية التقارير العسكرية، من داخل اسرائيل وخارجها، على استحالة وقف كل العمليات ومنع وصول الفدائيين الى اهدافهم. ومن نافل القول إن الغالبية الساحقة من التقارير العسكرية الاسرائيلية لا تقيم وزناً للحل السياسي المستبعد نهائيا للصراع العربي الاسرائيلي. وهي ترى ان الحل الأفضل يكمن في ما يسمى <<يقظة رجال الشرطة والجنود>>، وأن الحل النهائي يتطلب توزيع آلاف الحرس المسلحين على المباني العامة والمخازن ودور السينما والمطاعم، والمؤسسات الرسمية والخاصة.
ختاما، إن الحل العسكري هو سراب كامل. فقد أكدت تجارب الشعوب الحية ان الشعب المقاوم لا يمكن ان يُهزم. وهذا ما اشار اليه المفكر الشهيد مهدي عامل بقوله: <<لست مهزوماً ما دمت تقاوم>>. فالشعب الفلسطيني ما زال يقاوم وسينتصر.
كاتب ومؤرخ لبناني(السفير اللبنانية)
لكن رؤية دينامية لحركية التاريخ العربي في مرحلته الراهن تؤكد خطأ تلك المقولات. فبرغم همجية شارون وشروطه المستحيلة للتفاوض مع العرب فإن مسار الهيمنة الاسرائيلية في المشرق العربي هو مسار انحداري واضح. فهي الآن أقل نفوذاً عما كانت عليه عام 1967 حين أنزلت هزيمة قاسية بالجيوش العربية مجتمعة واحتلت مساحات كبيرة من بعض الدول العربية. إلا أنها تعرّضت لنصف هزيمة في حرب عام 1973 على يد الجيوش العربية النظامية التي دخلت غالبيتها مرحلة الترهل التام منذ ذلك الحين ولم تشارك في الصراع العربي الاسرائيلي الذي تحوّل الى كفاح مسلح تخوضه الشعوب العربية في فلسطين وجوارها ضد الاحتلال الصهيوني.
فالقوة العسكرية وحدها لم تكن ولن تكون قادرة على فرض استسلام شامل ودائم على جميع العرب. أما الاتفاقيات المحدودة التي وقعت بين بعض الدول العربية واسرائيل فكانت لأهداف مرحلية واضحة. فقد استعادت مصر شبه جزيرة سيناء بموجب اتفاقيات كامب دافيد، واضطرت اسرائيل بموجب اتفاق اوسلو الى الاعتراف بالسلطة الفلسطينية كشريك مباشر في ادارة جزء من الاراضي التي كانت تحتلها سابقا بعدما اجبرت منظمة التحرير الفلسطينية على الخروج من لبنان وإبعاد قسم كبير من قيادتها وكادراتها العكسرية عن اراضيه عام 1982. ولم تنجح في تصفية المقاومة الوطنية اللبنانية التي تزايدت حدتها بعد احتلال اسرائيل للعاصمة بيروت وأجزاء واسعة من جبل لبنان، وجنوبه وبقاعه الغربي وارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982.
يضاف الى ذلك ان صورة اسرائيل شارون التي ارتكبت مجزرة جنين في آذار 2002، وحاصرت المدن والقرى الفلسطينية، واستخدمت كل اشكال العنف العنصري ضد العرب، وحاصرت مقر الرئيس الفسطيني ياسر عرفات، قد تغيرت بشكل واضح في كثير من الدول التي كانت تتعاطف معها سابقاً.
فقد طالبت بعض القوى الاوروبية بقطع العلاقات مع اسرائيل، وبوقف الشراكة الاقتصادية معها. فردّت حكومة شارون بأن اتهمت دولة عريقة بالديموقراطية كفرنسا باللاسامية والعداء لليهود، مما استدعى رداً عنيفاً ضده من جانب الرئيس الفرنسي جاك شيراك.
نخلص الى القول انه برغم المظاهر الخادعة حول قوة اسرائيل العسكرية وجبروت جيشها، فهي اليوم في وضع المأزوم عسكريا لأنها تحاول ايجاد مخرج لأزمتها السياسية من طريق اعتماد العنف الدموي ضد الشعب الفلسطيني، والتهديد بتحويله الى صراع شامل مع الأنظمة والشعوب العربية. ولعل أبرز الأسباب التي اوصلتها الى هذا المأزق السياسي تكمن في هزيمتها العسكرية في جنوب لبنان، وعجزها عن تصفية المقاومة الوطنية اللبنانية بقيادة حزب الله، وعجزها عن تصفية المنظمات الفلسطينية المسلحة.
فشارون السياسي يفتقر تماما الى اي تصور مقبول لحل صراع عربي صهيوني ما زال مستمرا لأكثر من مائة عام. علما أن الافكار التي يعتبرها مقبولة من جانبه للحوار السياسي مع العرب هي اشبه ما تكون بهلوسات لا عقلانية مصدرها جنون العظمة والتفوق العسكري الوحيد الجانب. فهو يعتقد ان بإمكانه تشكيل سلطة فلسطينية تكون وظيفتها الأساسية ضرب الانتفاضة الفلسطينية وحماية أمن اسرائيل. ويعتقد ايضا ان النظام الإقليمي العربي، بكامل دوله وعبر جامعة الدول العربية، سيتهافت لحوار معه ينهي المأزق الاسرائيلي لمصلحة اسرائيل، وعلى حساب العرب اجمعين. وعلى قاعدة <<خدعوها بقولهم حسناء>>، فإن الرئيس بوش قد خدع صديقه العزيز ارييل شارون حين قال عنه انه <<رجل السلام في الشرق الأوسط>>، لكنه نسي ان يخبره ان وظيفته الأساسية هي حماية المصالح الأميركية في هذه المنطقة الاستراتيجية والبالغة الأهمية في الاقتصاد العالمي. وبالتالي، فإن مصير هذه المنطقة لن يبقى طويلا أسير مشروع انتحاري اميركي ينفذه شارون لمصلحة اسرائيل لكنه يؤثر سلبا على مستقبل شعوب المنطقة بكاملها من عرب، وإيرانيين، وأتراك، ويقود الى خلل حاد في اقتصاد عدد كبير من دول الاتحاد الاوروبي، وروسيا، والصين، واليابان والهند وغيرها.
نعيد التذكير هنا بأن الضعف العربي المستمر هو نتاج التداعيات السلبية لهزيمة 1967 والأحداث المصيرية التي رافقتها خصوصا بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر عام 1970. وبعد أن رفع النظام الاقليمي العربي مستوى ادائه الى نوع من التعاون الاستراتيجي المحدود بين بعض دوله، تحولت النكسة الى نصف هزيمة لاسرائيل على يد الجيوش العربية في حرب 1973.
لكن الرئيس السادات سارع الى تبني شعارات مناقضة تماما للشعارات التي اطلقها الرئيس عبد الناصر والتف حولها قادة العرب في الخرطوم وهي <<لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض>>. فاتجه النظام الاقليمي العربي الى التصالح التدريجي مع اسرائيل. فتوجهت غالبية الدول العربية الى التصالح الفوري مع اسرائيل، وإقامة علاقات دبلوماسية معها، والمطالبة بالعودة الى حدود الرابع من حزيران 1967، وإقامة سلام شامل مقابل الانسحاب الاسرائيلي الشامل على قاعدة مبادرة الأمير عبد الله آل سعود.
على الجانب الآخر، بعدما حقق الجيش الاسرائيلي نصرا كبيرا على الجيوش العربية في حزيران 1967، اصيب بهزيمة نسبية في حرب اوكتوبر 1973، مما اضطر الولايات المتحدة الاميركية الى اقامة جسر جوي عسكري وتزويد اسرائيل بأحدث الأسلحة لإنقاذها من الهزيمة التامة. ثم أمنت التغطية لمسار سياسي من المفاوضات غير المتكافئة بين مصر واسرائيل في كامب دافيد انتهت بهزيمة سياسية شبه تامة للعرب. فقد أُعيدت سيناء الى مصر منزوعة السلاح، لقاء خروج مصر نهائيا من الصراع العربي الصهيوني. وعلى قاعدة <<لا حرب بدون مصر ولا سلام بدون سوريا>>، ترهلت الجيوش العربية. فانتقل مركز الثقل في القتال ضد اسرائيل الى المقاومة الوطنية اللبنانية والانتفاضة المستمرة في فلسطين المحتلة. وأصيبت اسرائيل بهزيمة عسكرية قاسية في جنوب لبنان في ايار من عام 2000، وباتت تخشى من هزيمة ثانية على ارض فلسطين بعد أن انتقلت الانتفاضة الفلسطينية للعمل داخل فلسطين.
لذا لجأت حكومة شارون الى رفع شعارات كبيرة لتغطية العجز عن تحقيق انتصار نهائي على الانتفاضة الفلسطينية. ويكفي التذكير بأن شارون طالب بمائة يوم لتصفية الانتفاضة، فأعطي كل الدعم الداخلي والأميركي لتنفيذ ما وعد به خلال عام ونصف العام. إلا أن النتيجة جاءت مخيّبة للآمال. فقد اصيب الاقتصاد الاسرائيلي بأزمات حادة، وانخفضت نسبة المهاجرين اليهود الى اسرائيل حتى الحدود الدنيا مقابل هجرة مضادة منها، وتقلصت السياحة بشكل كبير، وزادت الأزمات الاجتماعية حدة في مختلف المجالات. لكن الأهم من كل ذلك أن الانتفاضة الفلسطينية لم تنته برغم المجازر الهمجية التي ارتكبت في جنين وغيرها من المدن والقرى الفلسطينية، فهي ما زالت تضرب في عمق اسرائيل، وقد حوّلت عملية <<السور الواقي>> الى اسم بدون مسمّى. وتجدر الاشارة هنا الى ان غالبية المحللين، السياسيون منهم والعسكريون، داخل اسرائيل وخارجها، يستبعدون الآن إمكان وقف العمليات الفدائية. والخيار الأخير لاسرائيل في مواجهة العمليات الفدائية سيكون بنشر آلاف الحراس المسلحين في كل مكان. وتحاول بعض التقارير العسكرية خداع الرأي العام الاسرائيلي بأن إحباط <<نسبة كبيرة>> من العمليات الفدائية يعتبر <<نجاحا كبيرا>> لاسرائيل. لكن تلك التقارير لا تنفي امكان تجدد تلك العمليات بوتيرة أعلى في اية لحظة لأن الدولة الصهيونية عاجزة عن وقفها لأنها غير قادرة على معرفة من سيقوم بها. فالدوافع لتلك العمليات موجودة على ارض الواقع. وأن استمرارها يعود الى عاملين اساسيين هما: سياسة التدمير اليومي التي تعتمدها اسرائيل من جهة، وقدرة بعض الأفراد على التخطيط وتنفيذ بعض العمليات بسبب انتشار الجيش الاسرائيلي والمستوطنات بين قوى فلسطينية مسلحة ومعادية لاسرائيل من جهة اخرى. وقد أشاد عدد محدود فقط من التقارير العسكرية باقتحام الجيش الاسرائيلي لأراضي الضفة الغربية في ما يُسمى عملية <<السور الواقي>>، والمستمرة منذ 29 آذار 2002 لأنها أدت الى تدمير المرافق الحيوية للشعب الفلسطيني. ورأى كتّابها ان تلك العملية مكنت اسرائيل من اعتقال كثير من المقاومين في الضفة الغربية و<<تدمير أماكن صنع المتفجرات>> و<<اكتشاف السلاح المخبأ>>، اضافة الى تقليل العمليات الفدائية التي كانت قد اصبحت شبه يومية قبل البدء بعملية <<السور الواقي>>. وذكرت تقارير المخابرات الاسرائيلية ان جمع المعلومات من داخل الاراضي الفلسطينية يعد امرا بالغ الأهمية من اجل مواجهة العمليات الفدائية التي كان يتم التخطيط لها. بالمقابل، أكدت تقارير اخرى على أن القوى التي تقوم بعمليات فدائية داخل اسرائيل ما زالت قادرة على اختراق الخطوط الأمنية بعد اعتماد شكل من اشكال التمويه وارتداء ملابس عسكرية اسرائيلية لتنفيذ بعض العمليات. وتؤكد غالبية التقارير العسكرية، من داخل اسرائيل وخارجها، على استحالة وقف كل العمليات ومنع وصول الفدائيين الى اهدافهم. ومن نافل القول إن الغالبية الساحقة من التقارير العسكرية الاسرائيلية لا تقيم وزناً للحل السياسي المستبعد نهائيا للصراع العربي الاسرائيلي. وهي ترى ان الحل الأفضل يكمن في ما يسمى <<يقظة رجال الشرطة والجنود>>، وأن الحل النهائي يتطلب توزيع آلاف الحرس المسلحين على المباني العامة والمخازن ودور السينما والمطاعم، والمؤسسات الرسمية والخاصة.
ختاما، إن الحل العسكري هو سراب كامل. فقد أكدت تجارب الشعوب الحية ان الشعب المقاوم لا يمكن ان يُهزم. وهذا ما اشار اليه المفكر الشهيد مهدي عامل بقوله: <<لست مهزوماً ما دمت تقاوم>>. فالشعب الفلسطيني ما زال يقاوم وسينتصر.
كاتب ومؤرخ لبناني(السفير اللبنانية)
التعليقات