&
من أجمل قصائد أحمد شوقي التي حفظتها في مرحلة الصبا قصيدته التي يفتتح بها باب النسيب في الجزء الثاني من ديوانه, وهي القصيدة التي تمضي على النحو الآتي:
خَدَعَوها بقولهم حَسْنَاءُ
والغواني يَغُرّهُنَّ الثناءُ
أتُراها تناست اسْمِي لمَّا
كثُرتْ في غرامِها الأسماءُ؟
إن رأتني تميل عني, كأنْ لم
تكُ بيني وبينها أشْياءُ
ولا أذكر الآن السبب الذي جعلني أضع هذه القصيدة بين أجمل قصائد أحمد شوقي مع أنها ليست كذلك في نظري بعد أن فارقت مرحلة الصبا, وعرفت الشعر وعرفني, وتمرست بدرسه ونقده ودرست تياراته ومذاهبه وأجياله. ولكن الذي أذكره على وجه اليقين هو إعجابي بنبرة السخرية في الأبيات, والعلاقة المتوترة التي ربطت الشاعر الذي يتحدث بالمحبوبة التي يتحدث عنها, المحبوبة التي أقبل عليها الشاعر الواله فاستجابت له في ظاهر الأمر على الأقل, لكنها سرعان ما انصرفت عنه بعد أن تكاثر عليها المعجبون, وانهمرت على أذنها الرقيقة كلمات الغزل والثناء على جمالها, فدارت رأسها من كثرة المعجبين, وتناست ذلك المسكين الذي استهل قافلة المعجبين, ملقية به في زوايا النسيان أو الإهمال. ومن يدري؟! لعلها انصرفت عنه في كبرياء جرحه, وأبدت له من الاستعلاء ما أثار حنقه, فانقلب غاضباً عليها, وتحوّل إعجابه بها إلى سخرية منها. وهذا هو السر في البداية الساخرة للقصيدة (خدعوها بقولهم: حسناء). وهي بداية تنفي صفة الحسن عن الحبيبة التي لم تعد حسناء في عينيّ المحب بعد أن انصرفت عنه بسبب كثرة المعجبين الذين أداروا رأسها. وكعادة أحمد شوقي يؤكد الخاص بالعام, فيصل السخرية الفردية بالحكمة العامة عن النساء اللائي يغريهن الثناء, ويدير رؤوسهن كؤوس المديح, فيصدّقن كل قول وقائل.
ولا يغفل شوقي سبب السخرية, خصوصاً عندما يؤكد في البيت الثاني بصيغة السؤال أن الحبيبة تناست اسمه لما كثرت في غرامها الأسماء, وتزايد عدد المعجبين بها أو المحبين لها, فأصبحت تميل بنظرها عن المعجب الأول كأن لم تكن بينها وبينه أشياء, وتولي بصرها صوب العشاق الجدد الذين قد يكونون أعلى مرتبة وأكثر غنى. ولكن يبدو أن حب هذه الغادرة لا يفارق العاشق الثائر الذي يبدأ بالسخرية التي تنكر الحسن, ويقرنه بخداع المخادعين لهذه المرأة تعبيراً عن سخطه وغضبه, فإذا به بعد أن ثار عليها تعاوده الذكريات الجميلة, فيستغرق فيها بما ينسيه نكران الحاضر, ويفتح أبواب الماضي عن لقطات الحب ومشاهده. وأول هذه المشاهد:
يَوم كُنَّا - ولا تَسلْ : كيـف كُنَّا؟ -
نتهادَى من الهَوَى ما نشاءُ
وعلينا من العفافِ رقـيبٌ
تَعبَتْ في مِراسـه الأهواءُ
جاذبتني ثوبي العصِي وقالتْ :
أنتمُ الناسُ أيُّها الشعراءُ
فاتقوا الله في قلوب العذارى
فالعذارى قلوبُهُنَ هواءُ
والمشهد يتركب من أكثر من لقطة في واقع الأمر. وبدايته اليوم الذي يذكر افراده تعبيراً عن جمعه, فهو يوم من الحب يدل على أيام وأيام مثله, ويجمع بينه وبين غيره تبادل الهوى في رغبة مشتركة لا تعرف التعالي من طرف إزاء قرينه, ولا تحتمل البخل من نظير على نظيره, فهي أيام من أحداث المحبة المتبادلة التي سعت جاهدة إلى الحفاظ على نواهي الرقيب الداخلي الذي يفرض العفاف على من يقاومه. ولكن هذه المقاومة لم تمنع المحبوبة من مجاذبة ثوب الممانعة, معترفة بقدرة الشعراء على الغواية, فهم أقدر الناس على الكلام الذي يهبط على الآذان كالسحر, فيغري ويغوي ويوقع في شباكه كل جميلة. ولذلك يبدو معنى فعل الأمر الذي يختتم به البيت الأخير (اتقوا الله في قلوب العذارى) لأن العذارى قلوبهن ضعيفة, سريعة الاستجابة إلى القول الجميل والوقوع في شراك ألفاظ الحب العذبة. والبيت يحمل إشارة مضمرة إلى الحديث النبوي: (يا أنجشة رفقاً بالقوارير). وسبب صدور هذا الحديث يرجع إلى براعة أنجشة الذي كان يحدو الإبل بصوته الجميل, وبما يتغنى به من أشعار في حدائه, فكان يهيج مشاعر النساء في هوادجهن, لأن مشاعر النساء مرهفة, سريعة الكسر كأنها القوارير, ولذلك خاطبه النبي (صلعم) بما أصبح حديثاً معروفاً ومثلاً سائراً, رفقاً بالقوارير, كناية عن القلوب الرقيقة للنساء.
والطريف في أبيات شوقي ان آخرها يردّ على أولها, فختام الأبيات: (فالعذارى قلوبهن هواء) تعبير مصاغ في قالب الحكمة الذي يستجيب إلى قالب الحكمة الذي ينتهي به البيت الأول: والغواني يغرهن الثناء. ولا فارق بين القالبين جذرياً من حيث المعنى. فالجميلات كالنساء جميعاً رقيقات القلوب, يستجبن إلى القول الجميل, ويندفعن مع تدافعه إلى ما يصل بهن إلى مرتبة الغرور الذي هي أقرب المراتب لمن كانت قلوبهن هواء. ولا يخرج هذا المعنى عن الميراث السائد عن المرأة من حيث هي مخلوق ضعيف, رقيق, مرهف المشاعر, لا ينبغي أن تلقى عليها المسؤوليات الجسام أو غير الجسام. فالمرأة متقلبة, سريعة الانفعال, لا تثبت على حال, ربما لأنها كالهواء لا يسكن وإنما يتدافع متحركاً في كل اتجاه, فلا يعرف إلا البحث عما يهيجه. وما يهيج النساء هو الشعر الذي يستغل ضعف عقولهن فيغويهن أو يغريهن أو يدفعهن إلى الاغترار بالجمال والاستنامة إلى سلطانه.
ترى مَنْ مِن النساء تقبل بمثل هذا الكلام اليوم؟! ومَنْ تلك التي ترضى بوصف النساء بأنهن (غوان يغرهن الثناء) أو أن (قلوبهن هواء)؟! أغلب الظن أن المدافعات عن حقوق المرأة في هذا الزمان سيرفضن نظرة شوقي إلى المرأة, ويقلن هذا كلام شاعر عاش في عصر (الحرملك) و(السلاملك) وعرف الجواري قبل أن يصدر قرار الخديوي اسماعيل بإلغاء الرّق, خصوصاً بعد أن أجمع العالم المتقدم في ذلك الوقت على إلغائه بعد نجاح حركات تحرير العبيد في العالم الجديد. صحيح أن أحمد شوقي كتب قصيدته بعد رحيل الخديوي إسماعيل, ولكن النظرة إلى المرأة بصفتها حبيسة الحريم ظلت كما هي, وبقيت مسيطرة قاهرة إلى أن جاءت ثورة 1919, فتحررت المرأة المصرية من سجن الحريم, وخلعت النقاب, وبدت سافرة, قادرة على المشاركة في الحياة العامة, ابتداء من تظاهرات ثورة 1919 وانتهاء بالعمل الذي اقتحمت مجالاته في تفاؤل وأمل ورغبة في الإسهام في كل أمور المجتمع. ولعل البعض من المدافعات عن المرأة سيتهم أحمد شوقي بأن نظرته إلى المرأة كانت استمراراً للنظرة التركية القديمة, خصوصاً هذه النظرة التي كانت سائدة في مصر عندما كتب شوقي قصيدته التي هي من قصائده الباكرة, والتي زعم أنه كان مجدداً فيها, بل لعل هذا البعض يضيف ان هذه النظرة متسقة تماماً مع مواقف شوقي المحافظة في ما يتصل بالمرأة.
ولكن الحق أن أحمد شوقي لم يكن محافظاً في نظرته إلى المرأة بالمعنى الذي ينغلق به تماماً, أو يوقعه موقع العداء من حركة تحرير المرأة في مصر بصفتها الرائدة في هذا المجال بين الأقطار العربية. ولكن من الحق كذلك أن نظرته إلى المرأة تغيرت مع تعاقب العقود التي عاشها, ومع تتابع المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي فرضت نفسها, فكان من نتيجة ذلك تخليه عن النظرة التقليدية المحافظة التي ورثها في بداياته الشعرية عن الشعراء القدامى الذين تأثّر بهم, وبدأت تدخل شعره صور جديدة للمرأة الجديدة التي لم يتقبلها من دون ممانعة. وكانت بداية التحول قصيدته الرمزية (بين الحجاب والسفور) التي مطلعها:
صدَّاحُ , يا ملكَ الكنار
ويا أميرَ البلبل
وهي القصيدة التي يكنِّي فيها بالطائر الحبيس عن المرأة, ويعلن تعاطفه معها, لكنه ينصحها بالتعقل في دعاواها ومطالبها التحررية, ساعياً إلى التوسط في الأمور, ومن ثم عدم المجاهرة الكاملة بتأييد السفور.
غير أن هذا الموقف المراوغ سرعان ما تحول مع نتائج ثورة 1919, فظهر التأييد الواضح لأفكار قاسم أمين الذي كان أحمد شوقي اختلف معه في أفكاره, واختفى أسلوب الرمز والكناية, ليحل محله أسلوب التصريح الذي لا يتردد في إعلان تأييد رائدات العمل النسائي في مصر, خصوصاً السيدة هدى شعراوي التي بفضلها تأسس أول اتحاد نسائي في العالم العربي كله, وانضم هذا الاتحاد إلى الاتحاد النسائي العالمي. وكان ذلك في المؤتمر الذي عقده الاتحاد النسائي العالمي في روما سنة 1923, وحضرته هدى شعراوي ومعها نبوية موسى وسيزا نبراوي, حيث ارتفع العلم المصري في قاعة المؤتمر في روما, دالاً على عهد جديد من تحرير المرأة.
ومنذ ذلك الوقت, ظلت علاقة أحمد شوقي الشاعر بهدى شعراوي وحركة تحرير المرأة العربية علاقة إعجاب وتعاطف من جانبه واحترام وتقدير من جانب النساء. ودليل ذلك القصيدة التي نظمها بمناسبة حفلة نسائية عظيمة عُقدت في دار التمثيل العربي برئاسة السيدة هدى شعراوي. وهي القصيدة التي يبدأها شوقي الشاعر بإدانة الرجال الذين حبسوا النساء, وإشارته إلى المرأة بصفتها الطائر الذي أوهى جناحيه الحديد وحزت ساقيه القيود حتى لو كانت من حرير. وتمضي القصيدة على النحو الآتي:
قل للرِّجَال: طغى الأسيره
طيرُ الحجالِ متى يطيرْ؟
أوهى جَنَاحَيْهِ الحديدُ,
وحَزَّ ساقيه الحرير
ذهب الحِجابُ بصبره
وأطال حَيْرَته السُّفور
هل هُيِّئَتْ دَرَجُ السماء له,
وهل نُصَّ الأثير؟
وسما لمنزلةٍ من الدنيا,
ومنزلُه خطيرُ
ومتى تُساسُ به الرياضُ
كما تساسُ به الوكور؟
أو كُلُّ ما عند الرجال
له الخواطِبُ المهور؟
والسجنُ في الأكواخ,
أو سجنٌ يقال له القصور؟!
والقصيدة طويلة. ولا تخلو من إشارة الإجلال إلى الإمام محمد عبده وقاسم أمين, وأجمل ما في هذه الإشارة الوفاء لذكرى قاسم أمين والاعتذار له عن الاختلاف القديم معه في الرأي, والتراجع عن هذا الاختلاف, خصوصاً بعد أن وصلت المرأة المصرية إلى ما وصلت إليه بعد ثوررة 1919. وأتصور أن أحمد شوقي ما كان يمكن أن يكتب ما كتب عن النساء اللائي (قلوبهن هواء) واللائي (يغرهن الثناء) وهو يشاهد سيدات من طراز هدى شعراوي وسيزا نبراوي ونبوية موسى وغيرهن, فقد تغيرت الدنيا التي كان يتحدث عنها في نهاية القرن التاسع عشر, وتساقطت الجدران الفاصلة بين (الحرملك) و(السلاملك), ولم تعد المرأة سجينة الحريم, وإنما أصبحت تتطلع إلى التحرر الكامل, وأجبرت أحمد شوقي على أن يسأل الرجال مستنكراً: متى تتحررون من تصور أن المرأة مجرد زوجة تغلي لها المهور, أو سجينة تحبس في الأكواخ أو القصور؟ وأتصور - كذلك - أن أمثال هدى شعراوي قد سعدن بقصيدة شوقي التي ألقاها لتحيتهن, وتناسين قصيدته القديمة وما فيها, إعجاباً بقصيدته الجديدة التي تقربت من المرأة الجديدة, وسعت إلى الثناء عليها, مؤمنة بحق المرأة في الثناء بفضل جهدها التحرري. ولم يكن ذلك من منطق: والغواني يغرهن الثناء, وإنما من منطق أن الثناء على النساء الطامحات خير من الثناء على الغواني اللائي قلوبهن هواء. لكن ربما وجد شوقي من نساء هذا الزمان من يعترضن على تشبيه المرأة بالطير الضعيف الرقيق, ويرين في ذلك بقايا نظرة قديمة, حتى لو قيل لهن إن مقصد شوقي في ذلك الوقت كان الثناء على النساء العاملات من أجل المستقبل.(الحياة اللندنية)