&
المشكلة أن ما يقوله جورج بوش عن ياسر عرفات صحيح بقدر صحة ما لا يجروء عرفات على قوله عن بوش. فلا الرئيس الاميركي يملك نيّات حسنة. ولا الرئيس الفلسطيني يخلو من نيّات سيئة.
فعلاً هذه هي المشكلة. فليست أصوات المقترعين اليهود في أميركا ما يجعل بوش سيئاً. ولا القضية المحقة التي يمثّلها عرفات كافية لتنزيهه عن السوء.
بمعنى آخر: نحن أمام أميركا يحكمها يمين شرس ومتخلف وكاره لمبدأ التحرر الوطني. كما أننا أمام تفسخ ما يُسمى حركات التحرر الوطني والكثير من التجارب التي نجمت عنها.
بوش وعرفات رمزان صافيان لهذين التيارين.
والصدام يتعدى الرجلين. بل يتعدى الشرق الأوسط: لننظر الى أفريقيا مثلاً: بوش, في مؤتمر الدول الثماني, حاضر عن المعونات وأعطى توجيهات. لكن جورج دبليو وقادة غربيين آخرين لا يرفعون الدعم لسلعهم الزراعية بما يسهّل استقبال أسواقهم للسلع الافريقية. وفي المقابل: الكثيرون من القادة الأفارقة بحاجة فعلاً الى محاضرات وتوجيهات. ضع الكرامات الوطنية جانباً.
واذا كان ثمة مجال للتفضيل, فضّل المرء أن تصدر المراجعة لحركات التحرر الوطني عن قوى أكثر استنارة وكونية في الولايات المتحدة. فالدفاع عن عرفات مستحيل استحالة الدفاع عن روبرت موغابي. حتى بلد لا يدخل في هذه الخانة كتركيا, يعطي أنصار (صراع الحضارات) مادة لمساجلتهم الرديئة: إذا رحل بولند أجاويد, المريض, قد يرتدّ هذا البلد إما الى الأصولية أو الى القومية الفاشية والمتزمتة. وتركيا, تذكيراً, الدولة المسلمة الوحيدة في الناتو والمَـدين الأكبر لصندوق النقد الدولي.
مع هذا فالصدام بـ(العالم الثالث) تقوده عقلية عالمثالثية خاضت في الأيام الأخيرة معركة لمنع قيام المحكمة الجنائية الدولية, وخسرتها. وهذا علماً أن واشنطن, التي لم تجد الا اسرائيل حليفاً, حصلت على تنازلات كأنْ لا تكون للجرائم التي تبتّ فيها المحكمة مفعول رجعي, وأن تقتصر صلاحياتها على محاكمة الأفراد دون الأمم والجيوش. ولا تزال واشنطن تضغط لعدم التجديد لقوة حفظ السلام في البوسنة ضد أعضاء مجلس الأمن الـ14.
بقياس هذه العقلية, بقياس هذه الهندسة للكون, لا يسقط الاستدعاء البلجيكي عن شارون فحسب, بل يبدو عرفات مرشحاً لاستدعاء ما.
وهذا الانكفاء عن سائر العالم ليس أفكاراً فحسب, ولا قرفاً من اخفاقات العالم الثالث, أو تصويباً تحكمه النيات الحسنة. انه أيضاً مصالح. فعلى عكس ما يُظن عربياً, يقود بوش رأسمالية أكثر قومية منها معولمة. مشروع الضرائب على الشركات غير الأميركية, والذي قد يؤدي الى تدفيعها 50 بليون دولار, آخر الأمثلة. كوارث (إنرون) و(ورلد كوم) قابلة للاستخدام في هذه الوجهة: قابلة لتقريب المسافة بين الميل الاصلاحي والميل الانعزالي. قابلة لتشديد اللحمة بين الرجعي والمضاد للعولمة.
بالعودة الى فلسطين - اسرائيل, يمكن لعرفات أن يختبيء وراء الانتخابات. وراء ارادة الشعب. وهذه عملة تُصرف في أوروبا لكنها لا تُصرف في أميركا بوش, حيث ينتقل النقاش من الأنظمة والسياسات الى الشعوب والثقافات نفسها. فكيف اذا أضفنا أن جورج دبليو يريد أصوات اليهود الأميركان في انتخابات منتصف الولاية, وتتحكّم به اعتبارات انتخابية يوالي شرحها المستشار كارل روف? وكيف اذا أضفنا أن أبو عمار هو أبو عمار. وحصان الديموقراطية مهما كان متيناً يصعب عليه حمل هذا الجسم, فيما بديله (ديموقراطياً!)... (حماس).
في ظل قائدين كهذين: واحد يمجّ العالم ويطرح أساسيات الشعوب والتحرر الوطني على المحك, وآخر يرى العالم قرية ويطرح أساسيات العقل على المحك..., بل في ظل وضعيتين كهاتين, لا يمكن الا توقّع الأسوأ. فلنتوقّع (الحياة اللندنية)