د. جواد بشارة : تناولت مؤخراً وسائل الإعلام الغربية برمتها خبر الصفقة التجارية& الهائلة التي وقعها العراق مع روسيا بقيمة 40 مليار دولار والتي أثارت حفيظة الولايات المتحدة الأمريكية واستياءها من موسكو . وتساءل المراقبون والمتابعون للشأن العراقي : من أين للعراق هذه الأموال الطائلة وهو يعيش تحت الحصار منذ أكثر من اثنتي عشر عاماً ويعاني شعبه من الجوع والمرض وسوء التغذية وشحة الأدوية أو فقدانها وتفكك نسيج المجتمع العراقي وسيادة قانون الغاب عليه، والحال إن نظام صدام حسين يعقد الاتفاقيات التجارية التي ليست في صالحه وعلى حساب مصالح& البلد، وذلك لكسب بعض المواقف السياسية إلى جانبه لفك طوق العزلة الدولية الذي فرضته عليه الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بعد حرب الخليج الثانية ؟ ويلاحظ المتتبعون لتطورات المسألة العراقية إن هناك بلدان عديدة تعيش على كرم النظام العراقي لتأمين ميزانياتها الوطنية وتوفير إحتياجات مواطنيها كالأردن وسورية وإلى حد ما لبنان ومصر وغيرها من الدول التي وقعت إتفاقيات التجارة الحرة مع النظام العراقي القائم ، فكيف& يمكن لهذا النظام الوفاء بالتزاماته الاقتصادية تجاه تلك الدول ومبيعاته للنفط خاضعة لمراقبة لجان المقاطعة الدولية ضمن إطار صيغة " النفط مقابل الغذاء " ؟ ...
في واقع الأمر لايمر يوم دون أن يعمل النظام العراقي، بشكل مباشر أو غير مباشر ، على حث وسائل الإعلام للحديث عنه ، سياسياً أو عسكرياً أو ديبلوماسياً أو إقتصادياً . وعلى الساحة النفطية هذه اليام بصفة خاصة . فصيغة الحساب والبيع والتسديد الجديدة التي فرضتها الأمم المتحدة مؤخراً لتخفيض نسبة فائض الضريبة من 15 إلى 45 سنت على برميل النفط المُصَدّر وهز الفائض الذي فرضته بغداد ليدخل مباشرة إلى خزينتها دون المرور بحسابات الأمم المتحدة الخاضعة للرقابة المشددة ، إن هذه الطريقة الحسابية الجديدة ليست فعالة وأثبتت محدوديتها في كبح هذا التدفق من الأموال إلى أيدي النظام العراقي مباشرة ليتصرف بها كما يشاء دون أية اعتبارات أخلاقية أو دولية أو إنسانية وهو يرى شعبه يعاني من شظف العيش وقساوة الحياة اليومية .بل ويثير ذلك ثلاث تبعات أو إنعكاسات تسير بإتجاه معاكس لما هو مطلوب أو مرجو من مثل هذه الحسابات& الجديدة . إلى درجة إن الدول الخمسة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة إنقسمت على نفسها بشأن هذا الموضوع وإن البعض منها ، وعلى رأسها روسيا ، قد طالبت قبل أيام بتغيير الطريقة الحسابية& المذكورة التي تطبقها الأمم المتحدة بخصوص& إدارة عائدات النفط العراقي.
وذلك لأن هذه الطريقة تدعم وتقوي المبيعات غير المشروعة& وغير القانونية& للذهب الأسود [ طبعاً من وجهة نظر المعترضين ] . و للتعبير عن إستياءهم وعدم موافقتهم للنظام الحسابي الجديد الذي تبنته الأمم المتحدة ، قرر الزعماء العراقيون تخفيض صادراتهم النفطية الرسمية المعلنة من النفط الخام بمقدار 700000 برميل يومياً أو حتى& المليون برميل يومياً " كما صرح بذلك روبرت مابرو ، رئيس الوكالة البريطانية المعروفة بإسم معهد أكسفورد لدراسات الطاقة.
من الناحية الرسمية تقدر عملية التخفيض للنفط العراقي المصدر الخاضع للرقابة الدولية& بمقدار الثلث ، ولكن في حقيقة الأمر& لم تنخفض صادرات النفط العراقي إلا بنسبة 10 %& وبذلك فإن المبيعات " الموازية ـ خارج الإطار المتفاوض عليه في نطاق صيغة& النفط مقابل الغذاء " قد إزدادت وبلغت معدل 370000 برميل في اليوم حسب الوكالة المتخصصة بإقتصاديات الشرق الأوسط Mes التي قدمت هذه الأرقام والتقديرات بينما قدرت الوكالة البريطانية ـ معهد أكسفورد برئاسة روبرت مابرو ، مبيعات النفط العراقي غير المشروعة بـ 150000 برميل في اليوم ومهما يكن الأمر فإن المجال واسع وشبكة التهريب من السعة بمكان يستحيل حصر مقدار المبيعات النفطية المهربة من خلالها. فمطاردات البحرية الأمريكية لناقلات النفط والبواخر والقوارب التي تقوم بتهريب النفط العراقي داخل مياه الخليج قد أوقفت وفتشت حتى تاريخ 11 آب / أغسطس 2002 حوالي 298 قارب أي ثلاث أضعاف ما اعترضته البحرية الأمريكية في العام الماضي .
ولكن هذا هو الجزء الظاهر فقط من جبل الثلج الخفي كما يقول المثل : فليس المعني من ذلك سوى 10 %& من قيمة المبيعات الشهرية من النفط الخام المُهَرّب من قبل السلطات العراقية أي ما قيمته& 280 مليون دولار شهرياً .وهذا يعني أن النظام العراقي نجح في وضع وتثبيت أركان نظام موازي لتجارته النفطية يدر عليه أضعاف ما كان يكسبه رسمياً قبل حرب الخليج الثانية عام 1990 . فالنفط الخام يسحب بطرق تكنولوجية مبتكرة من أنابيب النفط وينقل عن طريق الشاحنات التي تجتاز الحدود وبالأخص ياتجاه ميناء العقبة الأردني أو عن طريق الخليج العربي من خلال تحميلات صغيرة ومتوسط في قوارب وبواخر غير معروفة الهوية أو تحمل أعلاماً أجنبية وكذلك عن طريق سوريا& وتركيا وإيران . فسوريا تتلقى الحصة الأكبر من النفط العراقي المُهَرّب& بمعدل 180000 برميل يومياً ، هذا عدا النفط الذي تشتريه رسمياً من العراق& بأسعار منخفضة وتعيد بيعه في السوق الدولية الحرة وتربح فرق التسعيرة . والأردن المستثنى من قيود الأمم المتحدة فيما يتعلق بمشترياته من النفط العراقي ، يبتلع بدوره 110000 برميل يومياً . وتركيا& تمتص 50000 برميل يومياً أما الكمية التي يتم تهريبها عبر الأراضي الإيرانية بالتواطؤ مع شبكة من المسؤولين وحراس الثورة الإيرانيين فلم تعرف بعد قيمتها .
النتيجة الثانية المنعكسة عن الإتفاق الذي أبرمته الأمم المتحدة هو إثارته إستياء أصحاب مصافي النفط الأمريكيين الذين شيدوا مصانعهم ومصافيهم ومنشآتهم وفق مقاييس وكميات ومعدلات النفط العراقي الخام الذي يصل إليهم حيث تتربع الولايات المتحدة الأمريكية على قمة المستهلكين لهذا النفط . ولذلك كتب بيل غريهاي& وهو صاحب مصفى نفطي مستقل [ أي غير خاضع للكارتل الاحتكاري في هذا المجال ] ، وهو أيضاً مسؤول مجموعة فاليرو ، في الأسبوع الماضي رسالة إلى وزير& الطاقة الأمريكي سبنسر أبراهام يطالبه فيها بتغيير طريق الحساب& الدولية التي تتبعها الأمم المتحدة وكان رد الحكومة الأمريكية فوري وقاطع مفاده : " إن هذا الفائض الضريبي& الذي تفرضه الحكومة العراقي ينتهك قرارات مجلس الأمن والاتفاقيات الدولية بهذا الشأن "& والحال إن الاتفاق الحالي يناسب الأسواق النفطية " لأنه لاتوجد كميات كافية من النفط الخام في هذه الأسواق ولذلك فإن الأسعار ماتزال مرتفعة " على حد تعبير روبرت مابرو. فنفط لندن ظل ثابتاً على سعر 27 دولار للبرميل مقابل 29.33 دولار في نيويورك ميركانتل إكسشينج New York Mercantile Exchange .
ومما لاشك فيه إن الجميع& يعلمون بهذه التفاصيل& للكنهم لايحركون ساكناً حفاظاً على مصالحهم وامتيازاتهم التي تدر عليهم ملايين الدولارات على حساب هذا الشعب& الذي تحول إلى أفقر الشعوب على الكوكب لايتجاوز في قدرته الشرائية سكان بنغلاديش أو شعوب أفريقيا الجائعة .