القاهرة- ايلاف: تشهد المنطقة خلال هذا الأسبوع سلسلة من عمليات العنف والتفجيرات المنسوبة لحركيين أصوليين أو متعاطفين مع شبكة "القاعدة" في الكويت والمملكة العربية السعودية ثم لبنان والأردن، وقبل كل هذا حوادث مماثلة في الكويت وأخرى مفتوحة في اليمن فضلاً عن حوادث جربا في تونس وبالي في أندونيسيا، ومجرد وضع كل هذه الحوادث في سياق الحدث الدولي المتمثل بالمواجهة المفتوحة مع الحركات الأصولية يمكن ببساطة استنتاج إن ما كان يخشى منه قد وقع بالفعل، وهو استيقاظ الخلايا النائمة هنا وهناك، وبداية حرب استنزاف تستهدف المصالح الأميركية من جهة، والنظام الرسمي العربي من جهة أخرى، غير أنه ينبغي أن نتوقف أمام عدة ملاحظات أولية في البداية:
* ان هذه الحوادث وقعت في بلاد لم تكن تشهد مثل هذا النوع من العمليات من قبل، مثل دول الخليج العربي والمملكة العربية السعودية، فيما تراجعت أو بتعبير أدق توقفت تماماً في بلاد شهدت معظمها مواجهات دامية مع الحركات الأصولية لسنوات طويلة مثل مصر وليبيا وسوريا مثلاً.
&
* ان هذه العمليات وضعت الغرب بقيادة الولايات المتحدة في نفس السلة مع الأنظمة الرسمية العربية والإسلامية، ولم تعد معنية بالتمييز بين عمل يستهدف الغرب والولايات المتحدة وحدها، وآخر يطال الأنظمة الحاكمة وهو أمر بديهي يمكن تفسيره من خلال أدبيات هذه الحركات الأصولية الراديكالية.
&
* ان شبكة "القاعدة" بحكم تركيبتها المرنة وغير المركزية، وأسلوب عملها كمظلة أيديولوجية لعشرات المنظمات والحركات الأصولية الراديكالية تختلف كثيراً عن تلك المنظمات الإرهابية الأخرى، التي تتسم عادة بالمركزية الشديدة، والهرمية الصارمة، والتراتبية في التفكير والتنفيذ، وبالتالي فإن مخاطرها ممتدة ومفتوحة، وملاحقة عناصرها مسألة معقدة وبالغة الصعوبة.
&
* ان هذه العمليات مرتبطة بدرجة أو أخرى بحالة الاحتقان الشعبية التي تسهم عدة عوامل في تغذيتها، منها القضية الفلسطينية، والمسألة العراقية، والأخطر من هذه وتلك الضخ الدعائي للخطاب الراديكالي والتحريضي على مدار الساعة، وشيوع "ثقافة الكراهية" التي تسهم في الترويج لها الحكومات من خلال الإلحاح على تسويق خطاب دعائي دوغمائئ، في الوقت الذي لا تتردد أي من هذه الأنظمة لحظة في خلع كل ملابسها في غرفة النوم مع الفتى الأميركي.
&
وقت الاختيار
الآن .. جاء وقت الاختيار، ولم يعد هناك متسع من الوقت، ولا مزيد من مسوغات المناورة، ففي ظل مناخ يتعاقب فيه على أدمغة الناس وحواسهم مشايخ من كل لون وصنف، حتى صار هؤلاء هم نجوم المرحلة، ويتبادل معهم الدور بقايا الفاشيين من أبناء التجارب القومية الفاشلة التي رسخت للدكتاتورية في المنطقة، وتمكنت من "مأسسة الفساد والطغيان والاستبداد"، لابد أن تكون النتيجة هكذا، شباب مغيبون بفعل السحر الديني، والتحريض العاطفي الذي تتسم به الدوغماتيقية الفاشية، ومن بين هذا الخراب تظهر حركات انتهازية مثل جماعة الإخوان المسلمين، تسعى للقفز على دماء هؤلاء المغرر بهم من الشباب الانتحاري، وابتزاز الأنظمة العربية الآيلة للسقوط، وغزل الأميركان وتسويق أنفسهم باعتبارهم البديل المقبول شعبياً لهذه الأنظمة المنهارة أو المرشحة للانهيار، كما يسعون لتقديم أنفسهم من خلال اتصالات مع الأميركيين كبديل قادر على احتواء الحركات الأصولية الجهادية، وسحب البساط من تحت أقدامهم شعبياً، بطرح شعارات الاعتدال والمصلحة المرسلة في إشارة للبراغماتية التي حكمت دائماً سلوك حركة الإخوان المسلمين، سواء في تعاطيها مع السلطات المحلية أو مع القوى الدولية، وقصة اتصالات الإخوان بالأميركيين، سواء إخوان الأردن أو مصر أو التنظيم العالمي للإخوان تستحق أن نفرد لها مقالاً خاصاً يتضمن تفصيلات بالغة الأهمية.
&
الحصاد المر
نبقى الآن مع سلسلة عمليات العنف التي تناثرت على خارطة المنطقة، ويبرز هنا سؤال عن سر تراجعها إلى حد التوقف التام في بلد مثل مصر، في الوقت الذي تبرز فيه بشدة في بلد لم يشهد مثل هذه الحوادث مثل الكويت، والحاصل إن مصر تحصد نتيجة جديتها (نسبياً) في مواجهة هذه الحركات، فيما تحصد الكويت نتيجة تراخيها واسترخائها مع هذا التيار، فمنذ حادث (الجلد الصحراوي) قبل نحو خمس سنوات حتى حوادث استهداف الأميركيين، ظلت السلطات الكويتية تتعامل مع الأمر بطريقة التبرير واعتبار الأمر مجرد "حادث فردي" فكان جلد بعض المهووسين دينياً لرجل بنغالي وصديقته مجرد حادث فردي، وكان حادث "فتاة الجاخور" التي اعتدى عليها من منحوا أنفسهم حق ممارسة "الأمر والنهي"، افتئاتاً على سلطة الدولة، وأمن المجتمع، وصولاً إلى عدة حوادث عنف متفرقة ضد الأميركيين في الكويت التي كان آخر ما يتوقعه الأميركيون أن يخرج منها هؤلاء الذين يحملون السلاح ضد قواتهم.
وما حدث ان التهاون مع أجراس الخطر هذه، ومنح الانتهازيين من الإخوان فرصة تبرير القتل والفوضى والعنف، واختطاف القضية برمتها أفرز هذه النماذج من (بو غيث) إلى الكندري والهاجري ومازال في الجعبة الكثير على ما يبدو، وما يحدث فيالكويت هو نموذج قابل للتكرار والاستنساخ في المملكة العربية، مع وضع أكثر تعقيداً، ومخاطر أكبر، ذلك لأن الفرق بين بلد صغير مثل الكويت، وامبراطورية مترامية الأطراق مثل السعودية، يفسر حجم المخاطر المحتملة، وينذر بأن الأمر لم يعد يجدي معه أسلوب التكتم والتهوين ومحاولة إرضاء كل الأطراف، واللعب على كل الأحبال، فقد حانت "لحظة وجودية" وفيها ينبغي على المرء أن يختار بين الاتجاه شرقاً أو غرباً، أن يفاضل بين نموذج سيئة الذكر طالبان، ونموذج الدولة العصرية.
&
الجهاد والتوبة
أما في اليمن فلعل حديث السيد رئيس الجمهورية يوم أمس 20 من تشرين الثاني (نوفمبر) ما يضع اليد على الجرح مباشرة من دون أي عناء، ليرى حجم التناقضات بين دعوة فخامته لـ "الجهاد" و"فتح الحدود" ، ودعوة فخامته لـ "التوبة" والالتزام بالقانون، فالفريق علي صالح يتحدث عن الهدف وعكسه في آن واحد، متصوراً انه بوسعه أن يزايد على المتعصبين والإرهابيين بخطاب الجهاد و"فتح الحدود"، وهو أمر يوقع المواطن البسيط في حيرة من أمره، خاصة لو تابع مثلاً ما نقلته اليوم الخميس أسبوعية (26 سبتمبر) اليمنية عن مصدر بوزارة الداخلية اليمنية من قوله إن أجهزة الأمن ألقت القبض مؤخرا على ثلاثة أشخاص يشتبه بانتمائهم لتنظيم القاعدة، من بينهم شخص يدعى قاسم الريمي التعزي، والذي كان قد تم القبض عليه في دولة عربية والتى بدورها سلمته لليمن لكنه تمكن من الهرب أثناء نقلة لإحدى المحافظات اليمنية وظل فارا حتى أمكن القبض عليه مؤخرا مع رفيقيه.
وأضاف ان قاسم التعزي يرتبط بصلة وثيقة مع قائد سنيان الحارثي (أبو علي) الذي لقي مصرعه في مأرب يوم 3 تشرين الثاني (نوفمبر)، ومحمد حمدي الاهدل (أبو عاصم) الذي تبحث عنه أجهزة الامن. وانه كان ضمن مجموعة من العناصر التي كانت تخطط لعملية تخريب في مدينة تعز عندما انفجرت العبوة الناسفة التي كانوا يعدونها للعملية باحدهم وادت الى وفاته.
وأفادت المعلومات بأن الأهدل (أبوعاصم)، كان قد تلقى مبالغ مالية وصلت الى نصف مليون دولار حولت اليه من جهات خارجية عن طريق بعض الاشخاص من الكويت ودولة اخرى لغرض استخدامها في تمويل انشطة ارهابية وانه قد اخذ ينفق هذه الاموال لشراء اسلحة ومتفجرات للقيام باعمال تخريبية وارهابية داخل اليمن منها الاعتداء على بعض المصالح الأجنبية والمنشآت الحيوية.
وهنا نعود لنفس السؤال عن مفارقات فخامة الرئيس، وأي من دعوتيه نصدق بالضبط، دعوته للجهاد و"فتح الحدود" أم جدية أجهزته في ملاحقة الإرهابيين وتعاونها مع السلطات الأميركية في مطاردة هذه العناصر ؟
&
مجلس إدارة الإرهاب
ومن معالجة الأنظمة العربية المتناقضة والمترهلة للظاهرة الأصولية الدموية إلى طبيعة الخطر الذي اتخذ من مظلة "القاعدة" رمزاً وأسلوب أداء غير مسبوق، وهنا يرى خبراء الأمن انه لكي نفهم ماذا يفعل أسامة بن لادن ومنظمة "القاعدة" فإن من المهم النظر اليه كمدير تنفيذي والى "القاعدة" كمؤسسة دولية أو شركة عابرة للحدود. حيث يتصرف ابن لادن كرئيس لمجلس الادارة، وهو ما أفاد به مساعده السوداني جمال الفضل في شهادة ادلى في أثناء محاكمته بالولايات المتحدة. وبهذه الصفة يراقب بن لادن مجلس ادارة سياسيا مؤلفا من 30 عضوا هو "مجلس الشورى". وتتبع المجلس لجان متخصصة في الاعمال والشؤون العسكرية والتدريب والتنفيذ. وخلال محاكمات المتهمين بنسف السفارتين الاميركيتين في شرق افريقيا عام 1998، اكد عدد من المساعدين السابقين في شهادتهم ان اسلوب بن لادن الاداري يعتمد على الاجماع. وهو رئيس يؤمن بالعمل الجماعي ويستشير كبار مساعديه مثل ايمن الظواهري، الذي ضم جماعة الجهاد المصرية الى "القاعدة".
والآن لم يعد ابن لادن بحاجة لإصدار أمر هنا أو هناك، بل يكفي أن يسرب بياناً أو تسجيلاً صوتياً أو متلفزاً، لتكون هذه إشارة كافية لشن حرب أو تنفيذ عملية، وهي مسائل تدخل تحت بند التفاصيل، حيث القواعد العامة وأهداف "شركة القاعدة" معروفة للخواص والعوام، وما يصب في سبيل تحقيقها أمر متروك لتقديرات وظروف الخلايا "التي كانت نائمة"، وفق ظروفها وقدراتها ومدى استعداد عناصرها، وبالتالي فإن القضاء على هذه الظاهرة "البنلادنية" ربما استغرق سنوات طويلة، من المؤكد أن تشهد أنهاراً من الدماء ولن تتحقق أي نتيجة ما لم تحسم الانظمة العربية خياراتها، وتحسم معها الولايات المتحدة حساباتها، وقبل أن يحدث ذلك فلنتوقع حوادث يومية هنا وهناك، مع سيول من التبريرات والحكم والمواعظ يتقيؤ بها الإخوان في وجوه الجميع، في أثناء قيامهم بدور الثعلب حين يعظ.