بالرغم من الانتصارالكبير الذي حققه الاسلاميون في الانتخابات التركية الاخيرة، الا ان من المستبعد تماما ان ينجحوا في تبني سياسات وافكار نجم الدين اربكان، او ان يحققوا ما "تأمله" منهم الحركات الاسلامية خارج تركيا.. وبخاصة في العالم العربي!
فالمشاعر الدولية باتت معادية جدا للأصولية الاسلامية، وسياسات الولايات المتحدة واوروبا لم تعد صديقة بعد زوال الخطر الشيوعي، للتيار الديني والاتجاه شرقا نحو اسيا والعالم الاسلامي لم يعد خيارا سهلا لتركيا، بسبب ارتباطاتها القوية مع حلف الناتو ورغبتها القوية في الانضمام الى اوروبا التي ستتم على الارجح في المرحلة القادمة.. بالاضافة الى مشاكل تركيا الاقتصادية والمالية!
ولعل كل هذه الحقائق كانت تضغط بشدة على اذهان الاسلاميين الاتراك، وعلى حزب العدالة والتنمية الذي لم يمانع في نفي الصفة الاصولية ومعاداة العلمانية عن نفسه، بل وفي نفي الصفة الاسلامية عن الحزب كذلك وقد صرح زعيم حزب العدالة والتنمية "رجب طيب اردوغان" في حوار مع صحيفة القبس الكويتية، 12/11/2002، قائلا: "نحن لسنا بحزب اسلامي ولا نستمد ايديولوجيتنا السياسية من الدين". واضاف انه "رغم جذورنا الممتدة الى حزبي "الرفاه" و"الفضيلة"، الا ان "العدالة والتنمية" ليس استمرارا لهذين الحزبين".
ومضى السيد اردوغان في المقابلة موضحا هوية حزبه فقال: "ان الاحزاب السياسية لا يمكن لها ان تكون اسلامية، لأن الاسلام دين مقدس بالنسبة للجميع، وهو بريء من كل الاخطاء. في حين اننا كأحزاب سياسية او قيادات سياسية قد نخطىء. لذلك كيف لنا ان نحمل الاسلام مثل هذه الاخطاء البشرية التي يرتكبها السياسيون؟ لا يمكن لنا ان نقبل بمثل هذه التسمية".
من هم اذن في هذا الحزب؟ وما هي هوية الحزب؟ يجيب اردوغان: ان العدالة والتنمية، "حزب ديموقراطي محافظ ولم نختر هذه التسمية والصفة بأنفسنا بل سألنا اكثر من 40 الفا من اتباعنا وأنصارنا وقلنا لهم ماذا يريدون؟ فقالوا انهم يريدون حزبا محافظا يولي القيم المعنوية والتاريخية والاجتماعية اهمية خاصة ولكن بعقلية ديموقراطية معاصرة. وقد صوت لنا الناخبون الذين كانوا يصوتون في الماضي لأحزاب اليمين واليسار والوسط، وهو ما جعل من (العدالة والتنمية) الحزب الوسط الوحيد".
الكثيرون في العالم العربي والاسلامي يتمنون التقدم والازدهار للشعب التركي الصديق، ويتمنون كذلك ان تكون تجربة "حزب العدالة والتنمية"، بداية لظهور "الأحزاب الاسلامية الديموقراطية"، او الاحزاب التي تدافع عن القيم الدينية دون ان تدير ظهرها لقيم العصر وحقوق الانسان والواقع الدولي. احزاب قادرة على فصل نفسها عن تراث الدولة الدينية التسلطية التي دفع آلاف الشباب في العالم الاسلامي حياتهم للامساك بسرابها.
ولكن هل ما يقوله السيد اردوغان هو رأي بقية الاسلاميين الاتراك؟ وهل البيئة التركية المعقدة المأزومة منذ سنوات طويلة قادرة على اجتراح هذه المعجزة؟ وهل سيتعايش الاسلاميون بمؤسساتهم الصحفية والمالية والسياسية والتعليمية والاقتصادية الضخمة في تركيا مع الدولة والجيش والعلمانية وتراث اتاتورك؟
في دراسته الشاملة للحركة الاسلامية في تركيا، يبين الباحث طارق عبد الجليل السيد من جامعة عين شمس بالقاهرة، ان تنامي الحركات الاسلامية في تركيا بدأ بعد انقلاب 1980، عندما شعرت بضرورة وضع استراتيجية متكاملة لاحداث تغيير واسع في المجالين السياسي والاجتماعي التركي، محاولة الاستفادة من المناخ الديموقراطي الذي تزايد بعد الانقلاب الاخير، فبرزت استراتيجيتان هما "الأسلمة من أسفل الى أعلى"، وبعكسها "الأسلمة من أعلى الى الأسفل".
وقد تبنى التوجه الاول معظم الاسلاميين الاتراك مثل حركة النور وحركة السليمانيين وبعض الطرق الصوفية، والجماعات التي تمثل فروعا للطريقة النقشبندية، والحركة الاربكانية -نسبة الى السياسي الاسلامي المعروف نجم الدين اربكان- متمثلة في حزب الرفاه ومؤسساتها الاخرى التابعة لتنظيم الفكر الوطني. ويجمع هؤلاء على ضرورة اتباع الوسائل المتدرجة البعيدة عن المناهج الثورية في تغيير المجتمع واسلمته.
والذين قبلوا هذا الاتجاه، يضيف الاستاذ عبد الجليل، لا يجعلون في اولوياتهم الاستيلاء على الحكم في فترة قصيرة، ويجعلون علاقاتهم السياسية في الدرجة الثانية، او لا تكون لهم علاقة بالسياسة اساسا. اما اهدافهم الاساسية، فتتركز في بناء نشاط جماعي، ويجعلون في اولويات عملهم، التخطيط لتكوين "وحدات بشرية" متدينة، وتحقيق انسلاخ الى حد ما لهذه الوحدات من المجتمع الحالي، الذي يعتبرونه بعيدا عن الاسلام. وهكذا تتكون جماعات من المؤمنين الحقيقيين تتبع اوامر الاسلام، ويصبح الهدف المرحلي هو العمل على زيادة، وانتشار هذه الوحدات في انحاء المجتمع بالتدريج. ويمكن ان يلحظ المتأمل، وجود مفهومين مختلفين في هذه الاستراتيجية داخل تركيا: احدهما، تطعيم النظام السياسي بفلسفة الاسلام السياسي، والاستيلاء على الحكم واسلمة الدولة والمجتمع في الاطار الذي يأذن به النظام. وهذا المفهوم تمثله حركة اربكان.
اما المفهوم الثاني، يقول الباحث، فترجيح التفاعل السياسي في اطار المصالح المتبادلة مع احزاب الكتلة اليمينية، وتشكيل وحدات متدينة لهم داخل تلك الاحزاب. ويرون انهم بذلك يمكنهم اسلمة ميكانيزم الحكم السياسي في النهاية، دونما طرح الاسلام كحزب سياسي قابل للنجاح او الفشل. ويمثل هذا المفهوم "حركة النور" وبعض الطرق الصوفية.
ويمكن القول، في رأي الاستاذ عبد الجليل السيد، ان اغلب المجموعات التي تتخذ لها مكانا داخل الحركة الاسلامية في تركيا، اصبحت تستهدف اسلمة المجتمع بهذه الوسيلة. والاهداف الكبيرة لديهم، تتمثل في اعادة القيم الاسلامية التقليدية للحياة الثقافية والاجتماعية، وبناء مجتمع مسلم يعتمد على الاخلاق. ويعتقدون انهم بعد وصولهم الى هدفهم الاول، سيكون من الممكن تأسيس نظام سياسي جديد، يدار بقوانين الشريعة الاسلامية.
اما استراتيجية "الاسلمة من أعلى الى أسفل"، يقول الباحث، فتبناها اقلية راديكالية صغيرة لا تتفق مع الاستراتيجية الاولى، وهي مجموعات راديكالية صغيرة متأثرة بالثورة الايرانية، تعتقد ان الاستراتيجية الاولى ستتعرض للاخفاق بسبب سياسة الاسلمة في نظام علماني. وينادون بتأسيس الدولة الاسلامية عن طريق تمرد الشعب، كما في الثورة الايرانية، والتعجل في استلام السلطة.
وتعتقد هذه المجموعات، بأنها لن تستطيع ان تؤسس الدولة الاسلامية دون الدخول في صراع واضح مع النظام. فهم يرون ان الدولة الاسلامية لن تؤسس الا بالاستشهاد. وترى هذه المجموعات العنف ضرورة. ويوضحون ان النظام العلماني لم يترك خيارا آخر سواه، وانه سيأتي يوم يكون فيه الصراع والصدام داخل الشعب. وسيصبح هذا الصراع بين مناضلي الجبهة الاسلامية مع مناضلي الجبهة العلمانية.
وتدعو المجموعات الاولى -اي الاسلمة من الاسفل الى الاعلى- الى اتباع سياسة اختراقات لكافة اجهزة الدولة، وخاصة ذات التأثير على صنع القرار. وتتم هذه الاختراقات عن طريق تكوين كوادر نشطة داخل المؤسسات المدنية والوزارات والمؤسسات العسكرية والشرطية. حيث تحمل سياسة تكوين الكوادر داخل المؤسسات القائمة صفة "فتح القلعة من الداخل". وقد اولى حزب السلامة منذ اول ائتلاف حكومي شارك فيه عام 1974 اهمية كبيرة لتوطين كوادره واتباعه داخل المؤسسات المدنية. وقد امتلأت في تلك الفترة مواقع كثيرة من مؤسسات الدولة بأنباء العائلات المتدينة التي تلقت تعليما جيدا. وقد اكتسبت عملية تكوين الكوادر هذه شكلا اكثر وضوحا، مع انفصال الايديولوجية الاسلامية عن اليمين الليبرالي. وكانت سياسة "التغلغل" هذه من بين اسباب انهاء ائتلاف حزب السلامة مع حزب الشعب الجمهوري. وقد نجح حزب السلامة في توطين انصاره بالادارات العامة المختلفة، والمؤسسات الاقتصادية الحكومية، والأوقاف والبنوك والمصانع ورئاسة الشؤون الدينية. وقد جعل حزب السلامة من المفتين ولاة على المدن، وطالب بأن يتم اختيار الممثلين الدبلوماسيين الذين سيعينون في الدول الاسلامية من المصلين والذين يعرفون لغتها، والسماح لخريجي الأئمة والخطباء بأن يصبحوا رجال شرطة والالتحاق بالقوات المسلحة، واوضح مجلس الادارة العام لحزب السلامة، انه سينسحب من الائتلاف في حالة عدم تنفيذ مطالبه. وسعى حزب السلامة في الفترة التي كان فيها ضمن الحكومة الائتلافية الى زيادة عدد مراكز تحفيظ القرآن، ومدارس الأئمة والخطباء تحت شعار "تحقيق النهضة المعنوية". وقد عبر احد الكتاب الاسلاميين عن حجم عملية توطين الكوادر الاسلامية داخل مؤسسات الدولة قائلا: "بدأ المسلمون الذين كانت ايديهم مكتوفة من قبل، يفتحونها نحو كل صوب، فامتدت اذرع الاسلاميين في ظل الحكومات الائتلافية الى حد لم يكن متوقعا".
ونجح الاسلاميون، يضيف الاستاذ طارق عبد الجليل السيد في كتابه "الحركات الاسلامية في تركيا المعاصرة"، في عملية التغلغل داخل الكادر الاداري للدولة. "واصبح النصيب الاكبر للاسلاميين من هذا النجاح لحزب السلامة الوطني من خلال الحكومات الائتلافية التي شارك فيها منذ 1974 وحتى 1978، حيث ملأ الوزارات والادارات التي كانت تحت ادارته بأعضاء حزبه والموالين له".
ولم تتأثر الكوادر الاسلامية داخل مؤسسات الدولة بانقلاب 12 سبتمبر 1980، اذ سرعان ما تجمعت العناصر الاسلامية ممن كانوا في حزب السلامة، حول "تورجت اوزال"، الذي كان من حزب السلامة سابقا، واسسوا معه "حزب الوطن الأم". واصبح وصول حزب الوطن الأم الى الحكم منفردا في الانتخابات عام 1983 نقطة تحول هامة بالنسبة للاسلاميين، حيث سيطروا على مواقع رئيسية، ووطنوا اعضاء من الطرق الصوفية داخل هيئات الدولة. وفيما عدا وزارة الخارجية، استطاع الاسلاميون التغلغل داخل كل الوزارات والهيئات.
وامتد نفوذ الاسلاميين بقوة الى مجال التعليم، وبينما كانت المساجد تفتتح بانتظام في مدارس الدولة، اصبح اكثر المدرسين الذين يحصلون على جوائز من مدرسي المواد الدينية، كما كان يتم تغيير محتوى المواد الدينية، ويستعين المعلمون بالكتب والمجلات الاسلامية التي توالى نشرها في تركيا، في حين امتلأت مكتبات المدارس بمنشورات رئاسة الشؤون الدينية والكتب التي تركز على شمولية النظام الاسلامي، والتي تطالب بتطبيق الشريعة وأسلمة المجتمع.