جهاد عبد الله
&
تناقلت وكالات الأنباء يوم الأربعاء الماضي (26 تشرين ثاني نوفمبر) تصريحات للطبيب الايطالي سيفيرينو انتينوري مفادها أن أول جنين بشري مستنسخ سيولد في الأسبوع الأول من العام الجديد. وبهذا يعود إلى الأضواء جدل جديد قديم لم يتوقف منذ استنساخ النعجة دولي حول مفهوم الاستنساخ، وهل نقبل أم نرفض تطبيقه على البشر. والطبيب انتينوري خبير في الصحة الإنجابية ومن رواد الباحثين في استخدام الاستنساخ لأغراض إنجابية.
الحقيقة أن كثيرا من النقاش الذي يجري حول الاستنساخ، وخاصة تلك الآراء التي رفضت الفكرة، إنما كانت دائما تتناول الموضوع من زاوية أخلاقية، أكثر منها علمية أو طبية أو حتى عملية. ووقع كثيرون في فخ التغطية الإعلامية اللحظية، باعتبار أن غالبية الأخبار التي نشرت حول استنساخ البشر كان مصدرها الشركات العاملة في مجال التكنولوجيا الحيوية، مثل شركة أدفانسد سل تكنولوجي الأمريكية، وليس الجامعات والمعاهد الطبية. وزاد الطين بلة تلك الصور التي دأبت كثير من وسائل الإعلام على نشرها ممثلة صورة مكررة لطفل، في تصوير غير دقيق لمفهوم الاستنساخ، حتى أن البعض اعتقد أننا نتحدث عن ماكنة نسخ بشرية وليس حلا طبيا.
وفي بداية النقاش لا بد من تصويب مسألة مهمة، فترجمة كلمة cloning إلى استنساخ، لم تكن أبدا دقيقة علميا، وقد رفضها اتحاد الأطباء العرب واختار بدلا منها كلمة استنسال (من استنسل يستنسل) وهي التي اعتمدت في المعجم الطبي العربي الموحد. وسنعتمدها في هذه المقالة، داعين أيضا إلى الأخذ بها إعلاميا، ليكون المعنى أدق وأسلم
&
ماذا يجري
&
الاستنسال هو باختصار تناسل لاجنسي للكائنات الثديية التي تتناسل عادة جنسيا. وتقوم الفكرة على نقل نواة خلية غير تكاثرية (مثل خلايا الضرع أو الجلد، وربما تكون من الأنثى نفسها) وزرعها في نواة بييضة الأنثى، ثم تعريض البييضة لمجال مغناطيسي معين يتيح بدء الانشطار الخلوي (التكاثر) ومن ثم النمو... حيث يتم بعد ذلك زرع المضغة الناتجة في رحم الأنثى ومتابعة النمو حتى الولادة المفترضة.
هذا ما يفعله الأساتذة الجامعيون والأطباء، لأن ما في ذهنهم هو جعل الاستنسال البشري حلا لفاقدي الأمل من الأزواج المصابين بعقم دائم يمنعهم من الإنجاب العادي.
أما ما تفعله الشركات، فيختلف. إذ بدلا من إعادة زراعة المضغة الجاهزة للنمو في رحم الأنثى، تريد الشركات استغلالها تجاريا، بإكثارها في بيئة معملية تماثل الرحم، وصولا إلى مرحلة تكون الخلايا الأولية (وهي خلايا جسم الإنسان في بدايات النمو التي تكون غير متخصصة، فلا يعرف منها خلايا الكبد، ولا الفخذ ولا العظام، ثم تنمو بعد ذلك لتصبح متخصصة).
وما تريده الشركات في واقع الأمر، هو استخدام هذه الخلايا في ما يعرف بالعلاج التجديدي للأعضاء، بحيث يتم استخدامها في تطبيقات استشفائية مختلفة مثل حقنها في عضلات القلب المريضة لتكوّن أنسجة سليمة تحل محل الأنسجة المريضة. وبالطبع فعندما يكون هنالك وجود للشركات في موضوع مثل هذا، فإن وراء الأكمة من الأرباح ما وراءها.
&
أين المشكلة؟
&
المشكلة كما أسلفنا أخلاقية وليست علمية. فابتداء، يتساءل الكثيرون حول فكرة أن تحمل الأنثى بهذه الطريقة من نفسها.. وهو أمر ينافي الإرادة الإلهية التي خلقت البشر أزواجا. وهنالك أيضا احتمال أوسع وأسهل للحمل خارج الزواج، ما يعيد تأجيج النقاش الدائم حول الأمر، خاصة إذا زاد عدد الراغبات بالحمل بأسلوب مادونا.
ولكن هذه الأمور تبقى أمورا يمكن تنظيمها قانونيا.. من مثل تحريم إجراء تناسل لأنثى من خلايا جسمها، أو جسم رجل غير زوجها، على نحو يشبه الضوابط التي وضعتها دول كثيرة للمواضيع الخاصة بالتلقيح الصناعي أو ما يسمى بأطفال الأنابيب، وهذه الضوابط تمثل مرجعية أخلاقية جيدة في نقاشنا لأخلاقيات الاستنسال.
لكن البعد الأكثر تأجيجا للجدل، هو في الطريقة التي تريد الشركات أن تتصرف على أساسها، أي تحويل (الأجنة) المفترضة إلى خلايا أولية (أو جذعية)، فالكثيرون بمن فيهم الرئيس جورج دبليو بوش(!!) يعتبرون هذا الأمر قتلا للروح البشرية، وبالتالي غير أخلاقي. أما العلماء فيضيفون بعدا آخر، هو أن العملية غير ضرورية أصلا، لأن الخلايا الجذعية هذه تتوفر في جسم الإنسان وبصورة أكثر ملاءمة للأغراض الطبية، حيث توجد هذه الخلايا في المادة النخاعية الداخلية في عظم الإنسان. وفعلا، هنالك دراسات في الطب التجديدي قطعت أشواطا بعيدة في استخدام هذه الفئة من الخلايا الجذعية لتخليق أنسجة سليمة تحل محل أنسجة مريضة. والنتائج المنشورة أفضل كثيرا من النتائج المتوقعة من الاستنسال القاتل.
وبالطبع فحجة الشركات القائمة تتمثل في الكلفة المتوقعة، والتوفر وما إلى ذلك، إضافة إلى ميزان العرض والطلب، بالمفهوم التجاري، لا الطبي. وهنالك من يجادل بأن هذه العملية أكثر أخلاقية من الإجهاض الاختياري في الأسابيع الأولى من الحمل لاسباب غير صحية، أو التخلص من الأجنة الزائدة في حالات أطفال الأنابيب، مع فارق أن الهدف هنا سيكون أكثر نبلا!!!
بقي شأن أخلاقي مهم، لكنه يظل مستقبليا.. هو الدمج بين الاستنسال وهندسة المورثات (الجينات). تذكروا أن النعجة الشهيرة دوللي كانت جزءا من مشروع لإعادة هندسة حليب الأغنام ليحتوي انزيما بشريا يساعد على تخثر الدم، فيوفر دواء رخيصا لمرضى سيلان الدم. لم ينجح الأمر مع دوللي، لكنه نجح مع شقيقتها الأقل شهرة، بوللي، التي ولدت بعدها بعام، ولكن بحليب يستخدم علاجا لمرضى سيلان الدم. ترى ماذا عن البشر المستنسلين؟
حتى الآن، قلة هم من أعلنوا عن مشاريع لهندسة المورثات البشرية، ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار التاريخ الطويل من ممارسات الانتقاء العنصري التي شهدها عالمنا المعاصر، فلن نستغرب ظهور مثل هذه الدراسات بمجرد تقديم استنسال البشر كأمر واقع.
&
ما هي الضوابط إذن؟
&
إنها نفس الضوابط التي تمنع الطبيب من إجهاض امرأة حامل في حالة ما... وتجبره في حالة ثانية على إجهاض امرأة أخرى إنقاذا لحياتها! والمعيار في ذلك الدساتير الطبية متكاملة مع القانون. وفي الوقت الذي نعتبر فيه الاستنسال لأغراض إنجابية أمرا مشروعا باعتبار أن لا أحد يملك حق منع زوجين من الإنجاب إذا أتيح ذلك لهما، فإن بقية الممارسات سيكون تنظيمها قانونيا في مجتمعاتنا ميسورا، بغض النظر عن الطريقة التي سـتأخذ بها المجتمعات الغربية.
أما الموضوع الثاني، وهو البعد العلاجي فهو بحاجة فعلية إلى اتضاح الرؤية الطبية حول سلامة استخدام الخلايا الجذعية من نخاع العظم، وعندها فلتكن المهنية الطبية إضافة إلى النقاش المجتمعي والقانوني الواعي هي الحكم بحيث لا تكون المعايير الاقتصادية وحدها هي المعيار (على اعتبار ما تعد به الشركات من أن الخلايا الجذعية المستنسلة ستكون أقل كلفة).
ولكن هل نحن جاهزون عربيا؟ لتوضيح الصورة، نذكر أن الاستنسال تطوير منهجي في تقنيات التلقيح الصناعي (أطفال الأنابيب). وبالتالي فإن النجاحات المسجلة عربيا في مخابر أطفال الأنابيب في كل من مصر والإمارات والأردن ولبنان وتونس تقدم دلالة على استعداد عربي من ناحية تقنية ومنهجية للتعامل مع حالات استنسال للأغراض الإنجابية على الأقل. لكن ما يقلق هو أن هذا الاستعداد مقصور في أغلب الأحيان على المستشفيات الخاصة، لا الحكومية... وأنتم تعرفون فارق الأسعار.
&
&