د. وائل مرزا*
&
حدّثني أحد الأصدقاء في الآونة الأخيرة، بالأصالة عن نفسه، وبالنيابة عن آخرين كما فهمتُ من الحديث، مُشفقاً، ومحذّراً بأن الحديث عن افتقار كثيرٍ من الإسلاميين للفكر السياسي المنهجي، يمكن أن يعني وُلوجاً في ساحة المحظورات السائدة في بعض أوساط مجتمعاتنا العربية.. خاصةً، كما قال الصديق: "وأنك تشمل أحياناً العلماء ورجال الدين في إطار الإسلاميين الذين تتحدث عنهم بشكل عام ". وتابع الصديق بأن هذا يمكن أن يُفهم لدى البعض بأنه مطالبةٌ بحظر تدخّل العلماء ورجال الدين في السياسة، بل إن البعض الآخر يمكن أن يُفسّره، ودائماً حسب نقل الصديق، على أنه دعوةٌ إلى فصل الدين عن السياسة!
ورغم تفهمّي لمشاعر الصديق وشكري لاهتمامه، غير أنني سارعتُ إلى التأكيد له بأن هناك طريقةً في فهم الدين يجب حتماً أن تُفصل عن السياسة.. وبأن هناك أفراداً في المجتمع ربما يحملون بعض الشهادات الشرعية، وربما ينطلقون في طروحاتهم وحركتهم من منطلق إخلاصٍ ينسجم مع حدود فهمهم، ولكن من الواجب قطعاً أن يتمّ رفض مشاركتهم في صناعة القرار السياسي بأي شكلٍ من الأشكال.. على الأقل في رأيي الذي لا أستطيع إصدار قرارات عملية من خلاله وإنما يبقى مجرد رأي..
لقد ذكرتُ سابقاً أن هناك فرقاً دقيقاً وحاسماً آن الأوان لإدراكه فيما يختص بعلاقة الإسلاميين، ومنهم العلماء ورجال الدين، بالفكر السياسي وبصناعة السياسة. ولقد كان المقصود من العرض السابق للموضوع ومن هذا العرض الإشارة إلى أننا بحاجة إلى السياسي الذي يحمل همّ وطنه وأمته والبشرية جمعاء من منطلقات حضارية إسلامية، ويفهم هذا العالم بتوازن وواقعية، ويمارس السياسة تنظيراً أو تطبيقاً من خلال تلك المنطلقات.. وإلى أننا لسنا في حاجة إلى رجل الدين الذي يحاول أن يتعامل مع السياسة بناءً فقط على مبلغ علمه من الرصيد الشرعي (النقلي البحت في أغلب الحالات) وعلى مبلغ علمه عن الدنيا الذي يتأتى من مقتطفاتٍ من الأخبار والنقولات والقراءات..
وحتى نضرب مثلاً نأمل أن يكون مُعبّراً، فإننا نؤكد أننا لا نقف ضد أن يعمل رجل الدين في السياسة كمبدأ، ولكن على أن يكون علَماً على سبيل المثال مثل الرئيس الإيراني، العالم والمجتهد ورجل الدين، محمد خاتمي.. من هنا، قلت للصديق: هاتوا لنا رجل دين قرأ الفكر العالمي وتَمرّسَ بالفلسفة العالمية وعلّم ذلك في الجامعات.. هاتوا لنا رجلاً كان مركزاً من مراكز العلم والثقافة والفكر بكل ألوانه من واقع عمله مديراً للمكتبة العامة في عاصمة بلاده.. هاتوا لنا رجلاً عايش الغرب وخَبِرَ واقعه وأدرك إيجابياته وكمونه وعرف سلبياته ونواقصه بتوازن ودقة.. هاتوا لنا رجلاً عايش الوجود الإسلامي في بيئةٍ غير بيئته المحلية.. ورأى بعين اليقين تلك الحيوية الكامنة في تعاليم الإسلام للتعامل مع واقعٍ مختلف ومع أولويات مغايرة.. وأبصر قدرته على استيعاب ذلك الواقع وتلك المتغيرات.. كل هذا من واقع عمله مديراً لمركز إسلامي في الغرب لمدة سنوات كما كان خاتمي..
والأهم من ذلك، قلت للصديق، هاتوا لنا رجلاً يدافع عن الحريات ويثق بقوة الإسلام الكامنة، ولا يخاف عليه بكل جلاله وعظمته من مقالٍ كُتب هنا أو كتابٍ صدر هناك أو قصيدةٍ أُلقيت هنالك.. هاتوا لنا رجلاً يصفه، على الصعيد الفكري، الدكتور محمد سعيد العوا في تقديمه لكتاب خاتمي (الإسلام والعالم) بأنه (يمثل الفكر الوسطي المنفتح الذي يرى التعاليم الإسلامية في صورتها الحقيقية: رحمةً ونعمةً ورفقاً بالناس، وتحريراً لهم من القيود، وإطلاقاً لطاقاتهم نحو الابتكار والإبداع، حتى في المجالات التي يرى آخرون أنها قد انتهى فيها الكلام إلى قولٍ فصلٍ لارادّ له ولا مُعقّب عليه).. ويصفه، على الصعيد الشخصي، الصحفي جورج ناصيف! قائلاً بأنه لايعرف (من يعلوهُ عذوبةً وطفوليةً وخفراً) وبأنه (لايُشبه جنسه، ولا يُشبه مقامهُ، ولا يُشبهُ موقعهُ).. وناقلاً عن زوجته قولها بأنه (كان يساعدها في شؤون المنزل كثيراً يوم كان وزيراً ثم اضطر اليوم إلى الإقلال، لكنه لا يُحجم.. وبأنه محاورٌ دائمٌ لابنتيه الطالبتين ).. ثم شارحاً كيف أن (محمد خاتمي، الرجل العذب، بكى.. بكل عنفوان، بكل كبر، بكل نبل.. لأنه حنثَ بوعد أو التقى طفلاً بائساً)! وذاكراً الانطباع الذي يتركه الرجل في عيون من يلاقونه (متحفظاً من كل ثقل، طليقاً إلا من طراوته، حراً إلا من قلبه.. متجاوزاً العمارات الفلسفية والفقهية.. وديعاً لا تأخذه عزّة ولا تفتنه غواية سلطة أو مال)& واضعاً كل هذا في مقابل كثيرٍ من السادة (الناطقين باسم الله كثيراً، الصارخين باسم الله كثيراً، والعابسين باسم الله كثيراً)!..
وفي الختام قلت للصديق، هاتوا لنا رجلاً يتحدث عن ملابسات تنوع التركيبة السكانية للبلاد، وعن قضايا الثقافة والتعليم والأمية والفن والأدب، وعن مصادر ووسائل تحريك عجلة الاقتصاد الداخلية والخارجية، وعن مسألة اسمها التضخم وأخرى اسمها البطالة، وعن النظام الضريبي، ونظام الضمان الاجتماعي، وعن توازنات وطبيعة العلاقات الخارجية والقواعد الناظمة لها.. ويتحدث عن ضرورة توجيه الجهود والطاقات للتعامل مع هذه القضايا، بالتعاون بين قطاعات الشعب والحكومة، بشعور كاملٍ بالمسؤولية تجاه حاضر ومستقبل البلاد والعباد، ودون همزٍ، ولا لمزٍ، و لا شتيمةٍ، و لا تكفير، ودون إلقاءٍ لكامل التبعة على النظام السياسي، ودون اتهامات بالخروج عن الملة والخيانة، ودون تحريكٍ خاطىء لغرائز الشباب وحماسهم وتوجيهه في الاتجاه الخاطىء..
وباختصار، هاتوا لنا رجلاً مثل خاتمي فَعَلَ ويفعلُ كل هذا بعد أن وصل رصيده من العلم الشرعي مداهُ، وبلغ غايتهُ، على مدى عقودٍ من الدراسة الشرعية الدينية المتعمّقة.. هاتوا لنا مثل هذا الرجل، ونحن لا نقول أنه سيكون ملاكاً لا يُخطىء، أو معجزةً وكأنها هبةٌ من السماء لا تحتاج لمزيد.. وإنما فقط، ابحثوا عنه، واعملوا على إيجاده، ثم قدّموه في الصفوف، وانظروا ساعتها إذا كان أحدٌ سيمنعهُ، أو سيستطيع أن يمنعه من التفكير بالسياسة أو العمل بها بأي طريقٍ من الطرق وبأي أسلوبٍ من الأساليب.. وليكن هذا الرجل عالماً ورجل دين، أو ليكن حركياً، أو ليكن مثقفاً، أو ليكن من يكون..
قلت هذا للصديق وانتهى الحديث عند هذه النقطة، لكنني شعرتُ أن الصديق أدرك ما أرمي إليه بدقّة، وعرفتُ أن المثال العملي الذي عرضتهُ عليه كان، بكل إشاراته ودلالاته ومعانيه، مُغنياً عن كثيرٍ من التحليل المجرّد الذي كنت في البداية أهمُّ بعرضه عليه.. شعرتُ بهذا وعرفته من خلال لحظاتِ صمتٍ عميقٍ غَرِقَ الرجل فيه، كانت مفرداتهُ أَبلغَ من كل كلامٍ يمكن أن يقوله.. لكنني لم أملك إلا أن أرى حزناً عميقاً ترتسم ملامحه على وجهه، وكأني بعقله يجوبُ ويجولُ في صفوف تلك الشرائح والطوائف التي يعرف أهلها.. باحثاً عن بصيص أمل.. ليعود وجهه إلى الابتسام فجأةً بعض لحظات، وقد لمعت عيناه، وكأنه تذكّر شيئاً في غاية الأهمية، وإذا به فعلاً يسألني: (تقول لي طوال الوقت، هاتوا لنا رجلاً، هاتوا لنا رجلاً.. فماذا عن المرأة؟ وكأنه لاوجود لها في كل هذا العالم الذي نتحدث عنه؟) عندها، جاء دوري في الابتسام ولم يكن مني إلا أنني قلت للصديق (أنت تعلم يا صاحبي أن هذا حديثٌ يطول)!..
&
*باحثٌ في السياسة والإعلام