مصطفى أحمد نعمان
&
&
&
بَشِعٌ أَنْ يُصْبِحَ الحَلُّ رَصَاصَا&& وَحِوارُ النَّاسِ غَدْرًا وَاقْتِنَاصَـا
كُلُّ ذِي عَقْلٍ غَدَا فِي كُلِّ ذِي&&& جَنَّةٍ عَارًا يَرَى مِنْهُ الخَلاصَـا
&
&
لم يعد مهمًّا البحث في تفاصيل اغتيال جار الله عمر صباح السبت 28/12/2002م في قاعة مؤتمر حزبي بعد أن أنهى كلمته التي ناشد فيها المجتمع اليمني التخلِّي عن ثقافة العنف والدعوة إلى الحوار. لم يعد مهمًّا البحث في دوافعه الآن، ولا معرفة الجهة التي تقف وراءه، ولا الاقتصاص من القاتل. ذلك كلُّه لن يعيد ميتًا ولن يعزِّز العدالة، ولن يوقف نهر الدماء التي روَّت أرض اليمن شمالاً وجنوبًا وشرقًا وغربًا. عاشت اليمن بشطريها قبل الوحدة في ظلِّ احتراب داخليٍّ دفع الشعب ثمنه دمًا.
في 22 مايو 1990، عادت البسمة إلى شفاه الملايين من أبناء الشعب اليمني الذين تعلَّقت آمالهم بهذا الحدث، ورأوا فيه بداية الخلاص من آثار الدمار الذي حاق بأرضهم، ووقف النزيف الذي حوَّل مزارعهم مقابر لقوافل القتلى الذين ذهبوا ضحايا لصراع السلطة.
مرَّت أيَّام قليلة، وبدأ الصراع على السلطة يعود إلى الطفو على الساحة اليمنيَّة، فتنادى العقلاء لتدارك الموقف، والعودة إلى خطاب سياسي يستبعد العنف منطقًا، ويطالب بالحوار نهجًا، والتمسُّك بالديموقراطيَّة نظامًا.
لكن العقليَّة السائدة المتسلِّطة التي هي نتاج المجتمعات المتخلِّفة التي لا تحمل إرثًا سياسيًّا منظَّمًا، ولا تمتلك تراكمًا معرفيَّا، لا تعترف بالآخر ولا تريد منحه الحقَّ في المشاركة. أضف إلى هذا كلِّه الصراعَ التاريخي الكامن في النفوس، وما لحق بالمواطن المُستضعف من ظلم أخيه القوي المتجبِّر على مدى سنوات طويلة في قرون سحيقة، وما مارسه الحكَّام تحت دعوى الحقِّ الإلهي.
في ظلِّ تصاعد الخلاف، وعودة شبح العنف إلى الساحة اليمنيَّة، عادت دورة جديدة من الرعب والقلق لتخيِّم على اليمانيِّين وليدفع ثمنها خيرة شبابهم. وتفاقمت الأزمة حتَّى وصلت إلى حرب صيف 94 التي دمَّرت ما تبقَّى لدى المواطن من أمل في حياة هادئة مستقرِّة، بعدما تساقطت القذائف فوق مدنهم، فأقضَّت مضاجعهم وحطَّمت أحلامهم وأدخلتهم في هوَّة سحيقة لا يعلم منتهاها إلاَّ الله والراسخون في العلم.
في 28 يونيو 1974، اغتيل محمَّد أحمد النعمان في بيروت على أيدي مرتزقة. كان ذلك بعد شهرين من إلقائه محاضرة في نادي الضباط في صنعاء دعا فيها إلى استعمال الكلمات بدلاً من الرصاص، ليأتي الردًّ عليه سريعًا وحاسمًا في شوارع بيروت.
إنَّ لغة الاغتيال السياسي وثقافة العنف ونفي الآخر ونهج التكفير والتعبئة المدمِّرة، وسيادة قيم القمع، كلُّها قواسم مشتركة يلتفُّ حولهَّا كلُّ من يريد تمرير قضاياه وسحق مخالفيه.
معظم مجتمعاتنا العربيَّة على اختلافها، تعيش في ظلِّ سياسة نمطيَّة تعتمد على الفكر الواحد الذي لا يتيح للفكر المضاد أن ينمو ويستمر إلا بما ينسجم وحاجة الحاكم وحزبه. الشواهد على ذلك واضحة في أكثر من بلد عربي انتُهِجت فيه الديموقراطيَّة شعارًا يحقِّق للنظام الاعتراف الغربي به والرضا عنه. ليس في معظم العالم العربي نظام& يستطيع الدِّعاءَ بأن الديموقراطيَّة فيه هي نتاج قناعة ذاتيَّة وضرورة سياسيَّة ومجتمعيَّة.
أفنى جار الله زهرة شبابه مدافعًا عن أبناء وطنه متجاهلاً كلَّ الروابط المناطقية والأسريَّة والمذهبيَّة التي حاول الكثيرون استغلالها لدفعه بعيدًا عن مبادئه الإنسانيَّة السامية التي لا تعترف إلاَّ بالقيمة المجرَّدة للإنسان دون النظر إلى مكان ميلاده أو مذهبه.
عرفت جار الله عمر عن قرب في أحلك الظروف التي مرَّ بها على الصعيدين السياسي والشخصي بعد حرب صيف 94م، وتحاورت معه لساعات وأيام طويلة، وما وجدت فيه إلا حبَّه لوطنه وقناعته الراسخة& بأنَّ مستقبل اليمن مرهون بالديموقراطيَّة والعدالة والمساواة. وما لم يتحقق ذلك، فدوَّامة العنف المضاد لابد من أن تتكرَّر وتعاود صنع نفسها. لم تغيِّر مفاهيمه ولا مبادئه نوائب الدهر، ولا زحزحته عن موقعه في الدفاع عن الذين خالفوه في الرأي قبل المتَّفقين معه.
مخٍز أن يدَّعي القاتل أنَّه قام بفعلته الشنعاء للتخلُّص من جار الله عمر لأنَّه "علماني"، وليضمن لنفسه مكانًا في الجنَّة. الذين يحيلون الأرض جهنَّمًا على ساكنيها، لن يكون مثواهم سوى جهنَّم وبئس المصير.&
أليس ذلك هو النتاج الحتمي لسنوات طويلة من ترك الحبل على الغارب للذين عاثوا في جماجم الشباب، وأترعوها حقدًا على الآخرين، وحرَّفوا الكلم عن مواضعه وفسَّروه على غير حقيقته، مبتعدين عن روح الدين ونصوص القرآن الكريم، واتَّخذوا لأنفسهم تفاسير وحججًا لا علاقة لها بصحيح الدين ولا بنصِّه المنزل من عند الله!
&
دبلوماسي عربي