سليمان يوسف يوسف&
&

"رب ضارة نافعة"
&
منذ أن بدأت الحملة الأمريكية على المنطقة في أعقاب الغزو العراقي للكويت في آب 1990 أنقسم العرب والمسلمين، حكاماً وشعوباً على بعضهم بين مؤيد ومعارض ومتحفظ. هذه الحملة فرزت أو أنتجت ما يعرف ب(الأزمة العراقية) التي تصاعدت بتفاعلاتها وتداعياتها الإقليمية والدولية، وباتت أكثر قضايا المنطقة مثاراً للجدل والنقاش والخلاف، وهي تتصدر العناوين الرئيسية في مختلف وسائل الإعلام العربية والعالمية، و يثار حولها الكثير من السجال، وبدأ يتردد كثيراً في الإعلام العربي والإسلامي وعلى لسان مسئولين وكتاب ومحللين سياسيين، عن أضطرابات وردود أفعال كبيرة وخطيرة في الشارع العربي والإسلامي قد تحدث من غضب الشعوب العربية والإسلامية وهي تدعوا وتتحرك لنصرة العراق في حال شنت عليه أمريكا حملة عسكرية جديدة.أرى أن هذه القراءات مبالغ فيها ولا تعكس حقيقة الشارع العربي والإسلامي، فلا أظن أن يحدث أكثر من مظاهرة مقموعة هنا و صرخة احتجاج واستنكار خجولة هناك. وأستند في توقعاتي هذه إلى بعض الأحداث السياسية والوقائع الحية في المنطقة، منها ما يجري للشعب الفلسطيني، ومنذ سنوات، من قتل وطرد وتهديم المنازل على ساكنيها، على أيدي جيش الاحتلال الإسرائيلي من غير أن يتحرك الشارع العربي أو الإسلامي ولا أظن أن بغداد والعراق هما أهم وأكثر مكانة وقدسية لدى العرب والمسلمين من القدس وفلسطين . ومن هذه الأحداث أيضاً الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 حيث كنت حينها من ضمن القوات السورية العاملة في لبنان عندما احتل الجيش الإسرائيلي قرابة نصف الأراضي اللبنانية وتمركزت القوات الإسرائيلية على مداخل بيروت وحاصرتها لشهور عديدة بمن فيها من قوات فلسطينية وسورية ولبنانية، كنت أنتظر من الساعات الأولى للحرب أن ينتفض الشارع العربي وتتحرك الجيوش العربية للدفاع عن بيروت عاصمة الثقافة والديمقراطية العربية، لكن سرعان ما تبين لي بأنني واهم ومخدوع بالشعارات العربية، إذ بقي الجيش السوري يقاتل وحيداً الجيش الإسرائيلي في لبنان إلى جانب المقاومة اللبنانية والفلسطينية. عندها أيقنت بأن الجيوش العربية المجيشة ليست للدفاع عن أمن وسيادة أوطانها, إنما عن أمن واستمرار حكامها. لهذا واهم كل من يعتقد ويتوقع أن يهتز الشارع العربي والإسلامي و حدوث ردات فعل مباشرة، شعبية وجماهيرية كبيرة وخطيرة على الضربة العسكرية الأمريكية المتوقعة والوشيكة على العراق.
&لا أريد هنا الخوض في تفاصيل (الأزمة العراقية) والأسباب المباشرة والغير مباشرة للحملة الأمريكية على العراق والدوافع السياسية والمصالح الإستراتيجية الأمريكية والغربية من هذه الحملة، إذ قيل الكثير وكتب الكثير عن هذا الجانب من الأزمة. فقط أريد التوقف عند بعض النتائج المستقبلية (المحتملة) والغير مباشرة التي قد تفرزها (الحملة الأمريكية) وعلى المدى القريب، طبعاً من غير أن تستهدفها أمريكا من حملتها. كما حصل جراء حملة(نابليون) الفرنسية على (مصر وبلاد الشام)، التي بدأت عام 1798م واستمرت عدة سنوات،إذ تؤكد الكثير من الكتب والمصادر العربية التي تتحدث عن هذه الحملة (الفرنسية) على أنها أمنت الاتصال المباشر بين الغرب الأوربي المتقدم والشرق العربي المتخلف، وأيقظت هذا الشرق من غفوته وسباته الغارق في الجهل والتخلف. فقد& جلبت الحملة الفرنسية على مصر معها أسباب العلم والتقدم مثل المطابع وفتح المدارس ونمو الحركات الفكرية والأدبية، من خلال نشاط البعثات التبشيرية التي رافقتها فكانت سبباً في تأسيس الجمعيات العلمية والأدبية وانطلاق الصحافة العربية، حيث أنشأ المرسلون الأمريكان (الجمعية السورية في بيروت)عام 1847 وخلفتها (الجمعية العلمية السورية) وكذلك (المجمع العلمي الشرقي) 1882م وعن هذه الجمعيات انبثقت (الجمعية السرية) التي عملت على تقويض السلطة العثمانية التي شكلت بدايات النهضة السياسية العربية التي طالبت بتحرير واستقلال الدول العربية عن الدولة العثمانية.هكذا كان للحملة(الفرنسية) على مصر وبلاد الشام دوراً مهماً و كبيراً في تجديد الفكر السياسي والوعي الاجتماعي العربي وهيئت هذه الحملة لنمط جديد من الوعي والتفكير السياسي في المنطقة العربية.
بدون شك لا يمكن المقارنة بين الحملة الفرنسية على مصر، والحملة الأمريكية على العراق، فالأولى(الفرنسية) جاءت في ظروف سياسية وعسكرية عالمية غير مستقرة، حيث كان العالم بمعظمه واقع تحت سيطرة عدد من الإمبراطوريات الكبيرة والدول القوية، والتي كانت تتنافس وتشن حروباً للسيطرة على أكبر وأكثر المناطق الحيوية من العالم، أما الثانية(الأمريكية) فهي تأتي في عالم ينعم وإلى حد كبير بالاستقرار والأمن، وتحكمه العديد من القوانين والمواثيق الدولية التي تنظم وتحدد العلاقة بين مختلف دول العالم في إطار (هيئة الأمم المتحدة) والتي تقوم على مبدأ (احترام سيادة جميع دول العالم)، لهذا فالحملة الأمريكية على(العراق) هي مدانة بكل المقاييس والمعايير الدولية. لكن دعونا نتعامل مع الحملة الأمريكية كقدر محتوم ومفروض خارج عن إرادة الجميع.
ضمن هذا السياق الذي تحدثنا عنه بالنسبة للحملة الفرنسية على مصر وبلاد الشام، وبحسب المثل العربي الشائع(رب ضارة نافعة)، قد تكون الحملة الأمريكية الراهنة الخطيرة على (العراق ) سبباً لتنبيه الكثير من حكومات الشرق العربي و الإسلامي إلى حالة الاحتقان في مجتمعاتها بسبب انغراقها في الاستبداد السياسي والقهر الاجتماعي لشعوبها وتفاقم الوضع الاقتصادي، وقد تدفعها إلى التفكير الجدي بضرورة تحقيق الديمقراطية الصحيحة في ممارسة الحكم وتداول السلطة ونشر الحريات السياسية وتثبيت مبادىء حقوق الإنسان وحل مشكلة البطالة، كذلك مشكلة الأقليات القومية والدينية والنهوض الثقافي والعلمي بالمجتمعات العربية على أسس جديد . مثلما جرى لكل من ألمانيا واليابان اللتان دمرتهما الحرب العالمية الثانية وفرض عليهما الحصار العسكري من قبل أمريكا ودول التحالف المنتصرة في الحرب، واليوم باتت كل من ألمانيا واليابان من الدول القوية والمتقدمة صناعياً وتكنولوجياً بفضل النهج السياسي الجديد الذي بدأ يظهر بعد الحرب والذي تمحور حول القضايا والمشاكل الداخلية للمجتمع الألماني و الياباني بعيدا عن منطق الحرب والهيمنة العسكرية . ضمن هذا السياق لا بد من أن تُحدث الحملة الأمريكية على العراق صدمة سياسية عميقة وهزة فكرية كبيرة (للعقل السياسي العربي والإسلامي).، هذه الصدمة أو الهزة، ستدفع الجميع، حكومات وأحزاب، حاكمة ومعارضة، قوميين ويساريين إسلاميين وعلمانيين، على العودة إلى الذات ومراجعة حساباتها والاعتراف بفشل معظم المشاريع والأهداف المطروحة منذ بداية عهد الأستقلالات، وسقوط جميع الشعارات الوطنية والقومية التي رفعتها الانقلابات الثورية والسياسية والتي بسببها دخل الكثيرين السجون والمعتقلات وأستشهد المئات. إذ بدلاً من أن تحقق الشعوب العربية وحدتها القومية بدأت تخشى وتخاف على وحدتها الوطنية، بمجرد التفكير في تغيير نظام الحكم الذي قد يكلفها من القتلى والضحايا أكثر مما كلفت مقاومتها للاستعمار الأجنبي من أجل الاستقلال الحالة(العراقية). هذه الحملة(الأمريكية) لا بد من أنها ستدفع الجميع للبحث والتساؤل عن أسباب تصاعدت وتزايد أعمال العنف والإرهاب الذي عانى منه الجميع في المنطقة العربية والإسلامية حتى باتت تصدر (الإرهاب) لمختلف دول العالم. وفي النهاية لا بد من أن تجبر (الحملة الأمريكية) على العراق بتداعياتها وآثارها الخطيرة على المنطقة عامة، الجميع على إعادة النظر في كل شيء من مناهج التعليم العلمي والديني إلى مسالك الحكام وطعام الشعوب والبحث الجاد عن حلول حقيقة لمشاكل وقضايا المجتمعات العربية والإسلامية.
&
&
الكاتب من سوريا .... مهتم بمسألة الأقليات
&[email protected]