حاوره: حكمت الحاج
&
تونس "إيلاف" من حكمت الحاج: د. حسين الواد هو أستاذ المناهج الحديثة في دراسة الأدب, بجامعة تونس. ناقد وباحث له اسهاماته المهمة على المستوى النقدي في الحقل الأكاديمي وكذلك الحر. إلتقيناه بتونس العاصمة للحديث عن النقد والتراث والجامعة و"حركة الطليعة" وإشكاليات الأدب التونسي الحديث، من موقعه كمساهم فعال في كل ما تقدم ذكره من معطيات، فكان هذا الحوار الذي نقدمه على حلقات:
&
الحلقة الأولى: حركة الطليعة بتونس
&
- : نسمع كثيرا عما سمي في الدراسات التي تتناول الأدب التونسي المعاصر بـ "حركة الطليعة" والتي اتخذت، برأيي، من الشعر ساحة لفاعليتها. فما هي هذه الحركة بالتحديد؟
- : شهدت تونس ما بين 1986 و1972 حركة أدبية نشطة عرفت بحركة "الطليعة". عبّرت هذه الحركة عن نفسها في بعض المنابر التي فتحت لها مجال التعبير أذكر منها: مجلة الفكر. الملحق الثقافي لجريدة العمل. مجلة "ثقافة" أصدرتها دار الثقافة ابن خلدون. الأيام (جريدة أسبوعية). المسيرة (أسبوعية)، رغم أن هذه المنابر كانت محدودة عددا وقيمة, فإن الحركة أسهمت في التأثير في الأدب التونسي، وكانت علامة بارزة من علاماته التاريخية.
- : هل ساهمت من قريب او من بعيد في هذه الحركة الأدبية؟
- : لقد اقتصر إسهامي في هذه الحركة على ما نشرتُه في جريدة "الأيام" بالصفحة التي عنوانها "تجاوزات" على امتداد ثلاثة أشهر وبعض الشهر (من 8/3/1971 إلى جوان 1971). أشرفت مع محمد صالح بن عمر وحمادي التهامي الكار على إصدار هذه الصفحة.. بلغنا إلى العدد 16& كما أذكر. وقبل جريدة "الأيام" نشرت بعض النصوص في مجلة الفكر، وبعد "الأيام" نشرت نصين تقريبا في جريدة "المسيرة" في الصفحة التي أصدرناها بها وعنوانها "بنائيات". ثم نشرت في جريدة "لا بريس" باللسان الفرنسي بعض مقالات عن قاسم حداد ومبارك ربيع ومظفر النواب وتحليلا لخرافة (حكاية شعبية) جربية (نسبة الى جزيرة جربة) وفق الطريقة التي استعملها بروب في كتابه "مورفولوجيا الخرافة"، وكانت له، عندنا، منزلة كبيرة.
- : قرأت في مقال نشر في احدى الدوريات التونسية يعرض لكتاب صدر عن "الطليعة" حديثا عن دور لك مزعوم في نشاط حركة الطليعة إبان أوجها....
- : في تقديري، وهذه هي المرة الأولى التي أتحدث فيها عن حركة "الطليعة " بتونس وعن علاقتي بها، انني لم أسلم، لا في نعيها ولا في تأبينها ولا في تقييمها. ولم أجد رغبة في الرد على ما قرأته عنها في جريدة "الناس" أو "الهدف" من سنة 1972 إلى 1974 أو على ما رأيته من إشارات إليها في هذه الكتاب، أو ذاك من الكتب التي تحدثت عنها.
- : هل كانت "الطليعة" حركة فكرية منظمة حقا؟
- : في تقديري أيضا، لم تكن "الطليعة" في تونس حركة متجانسة أو تحظى بحد أدنى من حدود التنظيم. لم يكن بين أفرادها إنسجام أو تنسيق. كانت إلى الإفراز الذي أنتجته اللحظة التاريخية بطريقة شبه عفوية، أقرب منها الى أي شيء آخر.
- : ولكن ما الذي جمع بينهم في آخر التحليل؟
- : جمع، في ما أرى، بين الطلائعيين آنذاك قاسم مشترك واحد تمثل في الاحساس بأن ما يقولون، وبأن الذي يرغبون في قوله يختلف، أحيانا، جذريا، عما كان ينشر من ألوان الكتابة في الشعر والقصة والمسرح والنقد. هذا الإحساس بأن لديهم ما يقولونه وبأن ما يودون قوله يختلف عن الموجود، هو الذي دفع بهم إلى البحث عن فضاءات للنشر. والبحث عن هذه الفضاءات هو الذي قاد وتحكم في الخطى التي قطعوا. علما وأن أصحاب المنابر التي فتحت صفحاتها لنشر كتابات أهل "الطليعة" كانوا يريدون احتواء الحركة واستعابها والبروز بها، كان معظم الطلائعيين يعرفون ذلك وتعاملوا معهم رغبة في إيصال الخطاب. الكل كانت له حساباته.
- : هناك من يذهب الى عكس ما تقول في هذا الشأن؟
- : يؤيد كلامي هذا ان معظم الطليعيين ومعظم الذين انتسبوا إليهم أو حشروا فيهم معظم الذين كانوا مع الجديد دون أن ينتموا إلى الطليعة، كانوا قد نشروا في الملحق الثقافي لجريدة "العمل" عندما فتح لهم صفحاته بفضل إشراف عز الدين المدني عليه، وذلك رغم ما في النشر في جريدة "العمل" من حرج، فهي لسان الحزب الحاكم. وللحزب الحاكم رجاله الذين كانوا يمنعون بعضلاتهم اجتماعات الطلبة ويعنفونهم وأجهزة البوليس السياسي تتعقب النشيطين في صفوف الحركة الطلائعية وتلاحقهم وتعتقل منظمي الاجتماعات، ومحاكم الرأي كانت قائمة وتشتغل. ثم ان معظم الطلائعيين كانوا قد نشروا في مجلة الفكر وصاحبها آنذاك عضو بالحكومة، فتح لهم أبواب مجلته بناء على حسابات كانت له. ونظرته إلى الأدب والإبداع تختلف جوهريا عن نظرتهم. استعملوا هذا الفضاء على كره، ألجأتهم إليه الضرورة. وعندما بدأت أبواب المنابر توصد وتضيق، اتجه الطلائعيون إلى البحث عن منابر أخرى ألجأت إليها الضرورة أيضا. أكيد ان الإشراف على أية نشرية ثقافية سواء أكانت دورية أم مجرد صفحة أدبية، مغامرة حافلة بالوقائع والأحداث. واعتقد انه بإمكان عز الدين المدني مثلا أن يتحدث يوما عن& إشرافه على المنبر الذي كان وقتها أبرز المنابر، وأعني "ملحق العمل الثقافي".
- : وماذا بالنسبة اليك أنت؟
- : بالنسبة إلي فإن القطع مع مجلة "الفكر" بعد اللقاء الذي جمعنا بصاحبها سنة 1971 هو الذي ألجأني إلى النشر في جريدة "الأيام". لقد طلبنا من صاحب مجلة "الفكر" في ما أذكر، شيئين: "النشر بمقابل"، و"عدم التدخل في النصوص"... رافعين، بلغة تلك الأيام، الاستغلال والوصاية. وكان أن رفض صاحب المجلة المذكورة المطلبين معا، فكانت القطيعة. ومن "الطليعيين" من استمر، مع ذلك، في النشر بمجلة الفكر، بعد المقاطعة.
- : ما الذي حصل بعد ذلك؟
- : إثر القطع مع مجلة "الفكر" ذكر لي د. محمد صالح بن عمر انه بالإمكان النشر في جريدة "الأيام". كانت أسبوعية مختصة في الإثارة بنشر أخبار الجرائم المحلية والعالمية والفضائح. وكان يصعب أن يتصور أحد أنها قابلة لأن تظهر فيها نصوص أدبية طلائعية. رحبت بالفكرة لأنه لم يعد أمامنا مجال للنشر. التقينا بصاحب الجريدة، اتفقنا على أن يفرد لنا صفحة وضعنا لها عنوانا هو "تجاوزات". ووعد بألا يتدخل فيما ندرجه فيها من نصوص. ووفى الرجل بوعده. لكن ما أسرع ما توقفت "الأيام".
- : بسبب مقالاتكم الطليعية؟
- : توقفت لأسباب، في ما أعلم، لا علاقة لها بما كنا ننشره فيها.
- : هل رحتم تبحثون عن منبر آخر؟
- : نعم، التمسنا منبرا آخر. التقينا بصاحب جريدة "المسيرة" كانت من نفس طينة "الأيام" مع فارق بسيط (بل هو جوهري) يتمثل في أن صاحبها إلى الأمية أقرب. اتفقنا على إصدار صفحة سميناها "بنائيات". ظهر عددان كان لنا فيهما كتابات. فهمنا من صدور العدد الأول أن صاحب "المسيرة" قد كلف بالتضييق علينا، فانصرفنا عنه. ثم كان ان فتحت مجلة "ثقافة" صفحاتها للأدب الجديد. كانت لها مزية تنظيم لقاء حول "الهيكلية" (= إقرأ: البنيوية) كان اللقاء حاشدا. نشرت وقائعه في العدد الثامن سنة 1972. ثم جرجرت أمام المحاكم وتوقفت. وانني أعتبر ان إصدار صفحة "تجاوزات" في جريدة "الأيام" احدى التجارب المتميزة في حياة "الطليعة" بتونس. نفذنا في هذه الصفحة فكرة "الجريدة في الجريدة" وكان حيز الحرية في انتقاء المواد حقيقيا. وكان الحرص شديدا على الحفاظ على ذلك الحيز من الحرية.
- : تتحدث عن نجاحات اذن؟
- : لقد أفلحت "الطليعة" وقتها، في تحليلنا، في فرض نفسها مكونا مشاغبا من مكونات الثقافة. فهي قد أصدرت نصوصا تنظيرية كثيرة في ملحق العمل الثقافي وفي مجلة الفكر، وأصدرت نصوصا إبداعية حركت السواكن. إلا أنها كانت مهددة بالإحتواء لخدمة تيار "التونسة" خاصة.
&الذي رغبنا فيه، في صفحة "تجاوزات" مهدنا له من خلال التعريف بحاضر الدراسات الأدبية في المغرب الأوروبي. نشرنا ترجمات من كتابات "ميشال بوتور" و"تودوروف" وعرفنا ببعض الآراء لكل من "لاكان" و"دي سوسير" و"غولدمان" في الآن نفسه نشرنا مقالات نظرية وابداعات شعرية من "غير العمودي والحر" ونصوص أخرى& أدرجناها تحت تسمية "إنتاج" ونشرنا نصوصا تقوم الإنتاج الجديد، ونوهنا بنصوص إبداعية وضعناها في مكتبة "التجاوزات" ووضعنا نصوصا أخرى في "سلة المهملات" وهذا ركن من أركانها.
- : ولقد توقفت هذه ايضا، أليس كذلك؟
- : عندما بدأت الصفحة تجمع حولها معالم فريق من الأدباء نشيط وجاد، وبدأ ينشأ بين أعضاء حركة "الطليعة" شيء من الانسجام، توقفت الجريدة. جاء توقفها في المرحلة التي بدأت فيها تبسط رؤيتها على الساحة الأدبية. أصبحت الافتتاحية لا تحمل توقيعا فرديا بل تكون لها فريق دائم يعدها وينظم مادتها وفريق آخر مساهم، مما أدى الى ان تتوجه إليها أنظار إحدى الحركات السياسية المعارضة. وكان التوقف مفاجئا.
- : هل معنى هذا ان "حركة الطليعة" استطاعت ان تؤثر على الساحة الادبية وقتها؟
- : أكد لنا البريد الضخم الذي كان يصلنا، مدى الضيق الذي أصبح يقابل به الأدب التقليدي. لم يكن هذا الضيق منحصرا في صفوف الطلبة، فالذي كان يأتي من خارج الجامعة كان كثيرا ومتنوعا. كنا ننظر في هذا البريد في المقاهي. أذكر أننا كنا نتعرض للتعنيف الجسدي أيضا. فعندما جلسنا ذات مساء بمقهى كان يتردد عليه& "الدوكارات" للعب الورق، تضايق الحرفاء من وجوه غريبة تنظر في ورق آخر. عمد بعضهم إلى استفزازنا. تركنا المكان. أذكر أيضا أنه كانت ترد علينا نصوص جيدة موقعة باسم من الأسماء لا أدري لماذا ذهب في اعتقادنا أنه اسم مستعار. وعندما زارنا صاحب الاسم وقدم نفسه اندهشنا. كان تلميذا في إحدى المعاهد& الثانوية. إنه صلوحي صالح (أصبح في ما بعد علما من أعلام الصحافة العالمية). مرت بصفحة& "تجاوزات" أسماء كثيرة كانت مبتدئة أثبتت لاحقا القيمة الحقيقية التي كانت تعدها. لمسنا إلى أي حد كان الجيل الجديد يشتاق إلى أدب جديد.
- : هل تتحدث عن "صدمة طليعية" إن صح التعبير؟
- : أسهمت صفحة "تجاوزات" في تعميق الصدمة التي أحدثتها& نصوص طلائعية وجديدة كثيرة نشرت في الملحق الثقافي لجريدة "العمل"، وفي مجلة "الفكر". كان أكثر الكتاب إنتاجا وإزعاجا هو عز الدين المدني، وكان قد نشر في هذه الصفحة. كانت الأسماء الأخرى في أوجها، أذكر على سبيل المثال، وأعتذر للذين لا تحضرني الآن أسماؤهم: سمير العيادي ومحمود التونسي وأحمد ممّو ورضوان الكوني ومحمد مصمولي والشاعر الحبيب الزناد والشاعر الطاهر الهمامي، والشاعرة الفذة فضيلة الشابي ويوسف الحناشي وتوفيق الزيدي والمترجم الشاعر محمد عجينة والهادي بوحوش... والقائمة طويلة. وللكثير من الذين لا تحضرني أسماؤهم& نصوص مازلت أحمل عنها أفضل الانطباعات.
- : ما هي حقيقة موقف حركة الطليعة من الأدب في المشرق العربي؟
- : كان موقفنا من الآداب الشرقية والغربية موقفا طلائعيا بحتا. فبالنسبة إلى المشرق كنا نسمع بـمجلة "غاليري 68". لم أطلع عليها شخصيا.. كنا ننظر من حين لآخر، في بعض الدوريات الشهيرة. لكننا كنا ننظر إلى المشرق بكثير من الاحتراز ذلك لإعتقادنا، عن خطأ أو صواب، أنه غارق في مستنقعين هما الوجدانيات والإيديولوجيا. وبقدر ما كنا نلتمس& للشعراء الفلسطينيين الأعذار في إفراطهم في الإيديولوجيا، فهم أصحاب قضية لم تدافع عنها في الحقيقة إذذاك إلا نصاعة وجه الحق فيها، كنا لا ننتظر من الكتابات الوجدانية (كنا نسميها الكتابات المسيلة للدموع) والإيديولوجية (سميناها الجدانوفية) شيئا مهما. ومما نفّرنا من الشرق هو ان واقع الدراسات الأدبية فيه كان يضحكنا لإفراطه في السذاجة والجهل. وحتى الشعراء الكبار الذين كنا نقدر أعمالهم كنا لا نعتبر شعرهم الشعر الذي ننتظر انبجاسه.
- : هذا عن المشرق العربي، فماذا عن الغرب الاوروبي؟
- : أما الغرب الأوروبي، وإطلاعنا على آدابه، فكان يقتصر على المكتوب منه باللسان الفرنسي أو المنقول إليه من اللغات الأخرى. فقد كنا، في آن واحد، مبهورين بثقافته، وغير مرتاحين إلى أن تكون ثقافتنا نسخة منها. مرجع هذا، في تقديري، كان هو قراءتنا كثيرا للمعترضين على الثقافة الغربية وعلى النظام الاجتماعي الغربي. كان هوانا مع المحتجين الغربيين على ثقافة الغرب. فإذا كانت هذه الثقافة مردودة عند طائفة من أصحابها هي الطائفة التي تكون النخبة، فكيف نقبلها نحن؟ إلا أننا كنا نرى، مع ذلك، المرور بها شرطا لازما لتفتيح الأبواب على مستقبلنا. كان الاحتجاج على الثقافة السائدة& هو الأرضية التي اخترنا أن ننطلق منها.
- : وماذا عن ثقافة العالم الذي كان يسمى اشتراكيا؟
- : العالم الذي كان يسمى آنذاك اشتراكيا، حالت بيننا وبينه كتابات المنشقين المعترضين عليه. كان هذا الموقف يعتبر في تلك الفترة غريبا، فاليسار كان مسيطرا على الحركة الطلائعية، لكن كتابات من قبيل "الثورة المغدورة" وكتابات أخرى عن انتفاضة كرونشطاد، ومناقشة باناكوك للينين، كانت تصرفنا عن المعسكر الاشتراكي، إذ كان في نظرنا، "كليانيا" شموليا قاهرا.
- : والولايات المتحدة الامريكية، كيف كنتم تنظرون اليها؟
- : أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد كان بينها وبيننا دم فلسطين، ومعظم المآسي التي تسبب فيها الخرق الأمريكي في سياسته الخارجية المتغطرسة. وكانت تحول بيننا وبينه اللغة، فمعارفنا في الإنكليزية كانت محدودة.
- : كنتم ترفضون كل شئ؟
- : باختصار شديد كنا نرفض الأدب المحلي لرسميته وتقادمه، ونرفض الشعر العمودي ما كان منه عكاظيا، وما كان منه وجدانيات. ونرفض السرد المصور للواقع، والنقد الانطباعي الاخواني الذاتي. ونرفض الشرق ونساند رفض الغرب للغرب وننبهر به. ونبرر هذا كله بالتطلع إلى المستقبل والانفتاح المطلق عليه، أعني إلى ما يحبل به من احتمالات.
- : ولكن ماذا كنتم تريدون؟
- : كنا نعرف ما لا نريد. أما ما نريده فلم نكن نعرف عنه شيئا كبيرا. كنا مثلا نرفض الشعر العمودي انطلاقا من مقولة "تاريخية الأشكال الفنية".. فبين عصرنا والشعر العمودي أكثر من 15 قرنا من الزمان. لا يمكن له إذن أن يصلح فنيا لعصرنا. كنا نعرف أيضا أن السرد على الطريقة البلزاكية أو الفلوبيرية لا يلائم ببنيته الفنية عصرنا هذا. وهكذا وعلى هذا النحو يمكن أن أقول أننا كنا نعرف، معرفة جيدة في بعض الأحيان، ما لم نكن نريده. لم نكن نحفل بما في مقولة "تاريخية الأشكال الفنية" من عناصر الوهن. كان إحياء شكل المقامة مثلا، في نظرنا، يشبه من يركب ناقة يضرب بها في الشوارع الكبيرة مزاحما أصناف السيارات. أما ما نريده، فلم يكن واضحا بينا لدينا، ما هي الأشكال الفنية التي تصلح بزماننا لانبثاقها من عصرنا؟ لم نكن نعرف.& استهوانا كثيرا مصطلح "الأدب التجريبي" رأيناه يعبر عن البحث الدؤوب عما كنا نريده دون أن تكون لنا به معرفة بيّنة. فالتجريب، كالحداثة، محاولة للامساك باللحظة الهاربة أو بالحركة في انسيابها. ثم هو تحرر من سلطة المذهب والعقيدة والمدرسة الفنية ومن الحاصل بعد في واقع التاريخ، وانعتاق نحو النظرية. رفضنا الإيديولوجيا وأحللنا النظرية محلها. الإيديولوجيا تحجر وتقوقع، أما النظرية فهي متحولة بتحول الواقع ومواكبة له.
- : استهواكم كثيرا أيضا مصطلح "في غير العمودي والحر"، فما الذي كنتم تعنون بذلك؟
- : الشعر الذي كنا نرغب في أن يكون ليس هو الشعر العمودي وليس الشعر الحر. إنما هو شعر آخر غيرهما. هذا الشعر الآخر لم نكن نعرف ما هو، وإنما نستدل عليه أحيانا من هذا النص أو ذاك في النصوص التي كنا نعتبرها طليعية. نصوص كان يكتبها الحبيب الزناد أو الطاهر الهمامي أو فضيلة الشابي أو غيرهم. ونصوص يكتبها في السرد عز الدين المدني أو سمير العيادي أو محمود التونسي أو احمد ممّو أو غيرهم. وليس جميع ما يكتبه هؤلاء نتبين فيه معالم الشعر أو السرد الذي كنا نرغب فيه وننتظر أن ينبحس يوما، فنحن لا نلمس ما نرغب فيه إلا في هذا المقطع أو ذاك أو في هذا الملمح أو ذاك من أعمالهم. كنا نريد الانفتاح على المستقبل من باب اننا كنا نضيق بالماضي والحاضر جميعا. والانفتاح على المستقبل يقتضي زعزعة الموجود وتقويضه. أما ما سيتم بناؤه في المستقبل فلا يعرفه أحد. لو درس ناظر جل ما كتبته جماعة الطليعة يجد أن القاعدة الوحيدة الثابتة فيه هي الرفض والانفتاح على المستقبل والتوق إليه والرغبة في تفتيح الأبواب والنوافذ حتى يدخل منها المستقبل بالإبداع الذي نرغب فيه.
- : يقول البعض هنا في تونس ان حركة الطليعة لم تنتج نصوصا ابداعية متميزة وخالدة، فما رأيك؟
- : أعتقد انه من الخطأ الحكم على "الطليعة" أو لصالحها انطلاقا من انجازاتها في الشعر والقصة والمسرح والنقد. فالنصوص التي أنتجتها الطليعة لم تكن نماذج لما ينبغي أن يكون. كانت مجرد نقائض للأدب الذي كان ينتجه أصحابه وفقا للأنماط التي كانت سائدة. قيمة تلك النصوص تتمثل في التمرد على الموجود. وأعتقد انه يصعب على الدارس متى لم يتعسف، أن يعثر على قاسم مشترك آخر بين تلك النصوص خارج نطاق التمرد على الموجود ورفضه. كان الموجود قد بلغ حدا من القرف لم يعد يمكن معه إقامة أي تصالح. لهذا أعتبر البيانات التي صدرت للتعريف بالجديد جزءا ملازما للنصوص الإبداعية. وأعتبر النقد الذي نوهنا فيه بالنهوض بالنصوص الطلائعية نقدا من خلالها للموجود وتشهيرا بتفاهته. ومن جهة أخرى فانني أعتقد أن "الطليعة" بتونس، رغم المدة القصيرة التي عبرت فيها عن نفسها، كانت، عندما توقفت، قد حققت أهدافها.
- : وكيف نستدل على صحة كلامك هذا؟
- : إذا سمحت لي، فإنه يمكن الاستدلال عبر العوامل التالية: أولا: لا يمكن لأي "طليعة" أن تدوم أو أن تستمر الى الأبد. إذا دامت او استمرت "الطليعة" فمعنى ذلك انها كفت على أن تكون كذلك. من شروط الطليعة ألا تدوم. وإذا دامت ينبغي أن تتجاوز ذاتها وتلغي مكاسبها. ليس ينتظر من الطليعة أن تبني أو أن تؤسس. ليس هذا من مهامها. ثانيا: المقصود بالطليعية هو إحداث "الصدمة" وإيقاع "الرجة" و"الهزة". وكانت الطليعة بتونس، سواء في النصوص التي أنتجتها أو البيانات التي أصدرتها أو التنويه الذي قابلت به بعض النصوص من الإنتاج الجديد، قد هزت أركان الأدب التونسي وأثارت موجة الذعر والشك في الضمائر. يكفي أن ينظر الدارس في الردود إلتي تسببت فيها، ومنها كثير متشنج مرعد مزبد& مرتعد، حتى يتأكد أنها أفلحت في إحداث الرجة، وأن ما جاء بعدها ظل يحمل شيئا من آثارها. ثالثا: الطليعة لا تُبعث وقتما نشاء، ولا تنشأ وقتما يريد أي كان إنشاءها. هي فوق إرادة الأفراد. يكفي أن تلتقي مجموعة من الشروط التاريخية حتى تنبعث "الطليعة" تيارا جارفا كاسحا لا يقف في وجه أحد. لهذه اللحظة التاريخية يستجيب بعض الكتاب. وقد استجاب الطليعيون في تونس للشروط التاريخية التي تضافرت على إحداثها.
- : وما هي تلك الشروط التاريخية التي أوجدت حركة الطليعة في تونس؟
- : في آخر الستينات، عندما انبعثت "الطليعة"، كان الكيان مهزوزا بمجموعة من الوقائع والأحداث. نتج عن تلك الوقائع الوقائع الكبيرة تساؤل في حجم علامة استفهام هائلة كانت تطرق على الرؤوس بعنف.
* كانت هزيمة حزيران 1967 قد حصلت ناسفة الاتحاد القومي نسفا كليا. لم يعد الخطاب المهلل للقومية يقنع أحدا.
* كانت حركة أيار 1968 قد حصلت ناسفة معها أي اعتقاد في النموذج الغربي. لم يعد الخطاب "الانساني" الحضاري قادرا على الإقناع.
* كانت الكتابات المنشقة عن الاعتقاد في النموذج الاشتراكي& رائجة بيننا.
* كان التراجع في "تجربة التعاضد" وفي التعايش بين القطاعات الثلاثة الحكومي والتعاضدي والخاص& ما نتج عنها من صراع في كواليس السلطة على خلافة بورقيبة، قد زعزع أي امكان للاطمئنان.
* لم يكن اليسار الطالبي يحمل آمالا بالنسبة إلينا. لم نجد فيه أجوبة على الأسئلة التي كانت تحيرنا. كان الواحد منا يقول بينه وبين نفسه "عما يتحدث هؤلاء". حتى الخطب، في الاجتماعات العامة، كانت تلقى باللسان الفرنسي، والمنشورات التي كانت توزع كانت باللسان الفرنسي. هذا إلى جانب ظروف ذاتية خاصة بكل من الذين تبنوا الطليعة تفاعلت مع الأوضاع العامة لإكساب الأسئلة حدة قاسية.
- : كيف كانت نهاية حركة الطليعة بتونس؟
- : ما جاء صيف 1972 حتى كانت الطليعة قد انتهت. سدت في وجهها أبواب الشعر. وهذا في الحقيقة موقف بائس من مواقف الحكومات المتخلفة مما ينشأ في شعوبها من حركات. كلما توجست خيفة من ظاهرة من ظواهر، استأصلتها، خالقة فراغا يعود عليها بالوبال. لكن الطليعة كانت قد أفلحت في إحداث الهزة والرجة. وعندما خسرت الطليعة الساحة الثقافية" التجأت إلى الجامعة، وهذا فصل آخر أو هو صفحة أخرى...
&
[الحلقة التالية: الطليعة والجامعة]
&
&
من أعمال الدكتور حسين الواد المنشورة نذكر:
ـ البنية القصصية في رسالة الغفران للمعري 1972.
ـ في تاريخ الأدب, مفاهيم ومناهج& 1979.
ـ في مناهج الدراسة الأدبية 1982.
- المتنبي والتجربة الجمالية عند العرب 1987.
ـ دراسة في شعر بشار (تدور على غير أسمائها) 1990.
ـ اللغة/ الشعر في ديوان أبي تمام 1999.
ـ جمالية الأنا في شعر الأعشى& الكبير 2001.