كمال سبتي
&
&
&أنا الماضي الذي سـدّوا عليه الباب...
بدر شاكر السيّاب
بدر شاكر السيّاب
&
اصل الشيء، يقول المعجم، اساسه الذي يقوم عليه، ومنشأه الذي ينبت منه. نقرأ في القرآن، في سورة ابراهيم: ... كلمةٌ طيبةٌ كشجرةٍ طيبةٍ أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء . وفي سورة الحشر نقرأ: ما قطعتم من لينةٍ أو تركتموها قائمةً علي أصولها ... الي آخر الآية، ولينةٌ هي النخلة، وقيل هي النخل كلّه، كما كتب الإمام الطبري في تفسيره.
والمعنيان في الآيتين واضحان، ويؤكدان معني المعجم. ولقد كنتُ أبحث عن أصلٍ لشعرنا، عن أساسٍ يقوم عليه. وكان عذري مع نفسي في كلّ مرةٍ لا أصل فيها إلي شيء: انّ الاسلام قد كفـّر الذاكرة المعرفية السابقة عليه، وازدراها، ووصمها بالجاهلية، فاندثرت أصولٌ كتابية كان من الممكن أن تضيء ظلماتٍ وتكشف مجاهيل ..
وكان لنا أصلٌ مقطوع، هو الشعر الجاهلي، حتي جاءنا طه حسين فكذّبه كله، وقال إنه من صنع الرواة اللاحقين، واقترح علينا أن نبدأ لغوياً من القرآن لأنه وصلنا مكتوباً.
والقرآن ليس أصلاً شعرياً لأحد. إنه كتابٌ دينيّ مقدّس.
لكن حتي لو لم نأخذ بشكّ طه حسين في الشعر الجاهلي ـ ونحن لا نأخذ به كله ـ فهل الشعر الجاهلي أصلٌ شعري نذكره بيقينٍ سعيدٍ غير حائر كما فعل أوكتابيو باث حين قال: أبدأ أولاً بهوميروس الذي هو أصل اليونان وبالتالي أصل شعرنا ؟(1)
إنّ ظهور الاسلام بثقافةٍ لاعنةٍ ما قبلها، وخالقةٍ ضدّها في آن، جعل من الشعر الجاهلي أصلاً (إذا عـُـدَّ اصلاً) لشعبٍ أو شعوبٍ عربية تبدو الآن وكأنها لم تكنْ نحن. رابطان اثنان يربطاننا بالشعر الجاهلي أكثر من غيرهما، هما اللغة والعروض. وفي اللغة يكثر الغريب فيشرحه الشرّاح ويزيدون. وإن حفظنا بيتاً غنائياً واضحاً، نظلّ نردّده بسرور، حتي نتذكّر طه حسين الذي يتخذ من ظاهرة الأبيات الواضحة، الخالية من الغريب في الشعر الجاهلي سبباً في تكذيبه، فنغتمّ. وأمـّا العروض، فهو عروضنا ذاته المستمرّ في شعرنا. والذي لم يتكوّنْ عندنا تجربة بعد تجربة، قصيدةً بعد قصيدة، قرناً بعد قرن. لقد تسلمناه أو اكتشفناه كاملاً. وهذا وحده سؤالٌ محيـّر!
كما إن اختلاط العرب المهاجرين بعد الفتوحات بالأقوام غير المسلمة، العربية منها وغير العربية، في البلدان التي فـُتِحتْ، هو شقٌّ ثانٍ من الجواب. لا شكّ أن تلك الأقوام كانت تملك حضارةً فيها أدبٌ له أخلاقه وفنه، ولا شك أنها قد أثّـرتْ ـ بكلّ هذا ـ في العرب المهاجرين. مثلما تأثّرت بهم وبرسالتهم الدينية. يعني أن شعوباً جديدة قد تكوّنت، مختلطةً من أقوامٍ عديدة، كانت لها تراثاتٌ مختلفة، ما كان الشعر الجاهليّ أصلَ كثيرٍ منها في يومٍ من الأيام ..
الأصل الشعريّ عند الشعوب ـ عادة ـ هو ملحمة أو ما يضاهيها من القصائد الكبري. فهل نملك ملحمةً شعرية ؟ ولقد كانت قصائد هوميروس ـ يقول باث ـ وأبطاله ومعاييره هي الأصول الأخلاقية لليونان والرومان. فهل نعرف شاعراً ـ أصلاً كانت قصائده ومعاييره أصولاً أخلاقيةً لنا؟
الجواب: لا أعرف . أي لا أحد .
ولكن أليس ثمة أصل؟ ربما . ولا شيء يأتي بلا أصل.
لكننا لم نعثرْ عليه فعـّالاً ايّامَ تكوّن الدولة الاسلامية واصطدام لهجة قريش بعالمٍ جديد، وتغيـّر مصيرها الفرديّ: لهجة القبيلة، إلي مصيرٍ جماعيّ: لغة الدين والدولة المترامية الأطراف، لغة الشعر والفلسفة حتي يوم وأدها علي يد السيّد الغزالي.
وإذا ما تذكّرنا أن المأمون مؤسس دار الحكمة قد نصب راجماته أمام اهرامات مصر، وأخذ يضربها بالمنجنيق من أجل تحطيم الأصنام المشركة بالله، وابن خلدون الأندلسي ـ داعية المدنية الاسلامية ـ قد أيـّد محرقةً لكتبٍ للمعارضة في الجزيرة، إذا ما تذكّرنا هذين المثلين لهذين الرجلين المتباعدين عقلاً وزماناً ومكاناً، افلا يمكننا أن نتخيـّلَ أفعال تحطيمٍ وحرقٍ ضدّ الإرث غير الإسلامي في الجزيرة وغيرها، كان وراءها فقهاءٌ وحكامٌ مرّوا علي الدولة الإسلامية في عمرها الطويل؟ ألا يمكننا أن نتخيل تمثالاً لم يكن له حظّ الاهرامات من القوّة قد رُكل بقدم مؤمنٍ فسقط من قاعدته وغاب عنا إلي الأبد، أو كتاباً حـُرق لأنه قد كـُتب قبل الإسلام؟ أفلا يمكننا أن نتخيـّل أنّ ذلك التمثال، ربـّما كان سيهدينا إلي طريق أصلٍ، وكذلك ذلك الكتاب؟
ويشير باث إلي ملحمة جلجامش فيصفها بأنها : المصدر المحتـَمـَل لكلّ ملحمة. ولم تكنْ ملحمة جلجامش أصلاً شعريّاً لعراقيي ما بعد الفتح الإسلامي. ونحن لم نقرأها في اللغة العربية إلا بعد النصف الثاني من القرن العشرين. بل ليس في تراثنا اللغوي والأدبي بأجمعه اية إشارةٍ إليها. ولا أعتقد أنّ أبا نؤاس أو المتنبي قد عرفاها أو عرفا بطلها جلجامش.
لكننا نعرف أنّ قصة الطوفان في التوراة تتشابه مع القصة ذاتها في الملحمة والتي بطلها أوتونبشتم، بل إن ما تـُرجم من الملحمة في القرن التاسع عشر، كان الأجزاءَ الخاصةَ برواية الطوفان. كما اننا نعثر ـأيضاًـ علي تناصٍّ توراتي في سفر التكوين وفي سفر التثنية وفي المزامير وفي سفر الجامعة، وربـّما في غيرها، مع أبياتٍ غير قليلةٍ في الملحمة.
نحن لا نعرف عن ملحمة جلجامش أنها كانت ذات تواصلٍ لغوي وشعري مع شعوب ما بعد الفتح الإسلامي. لكنّ ما حدث في التوراة وفي الآداب القديمة في الشرق يدلل علي تواصلٍ نتج من قراءتها أوّلاً، ثمّ أصبح حكائياً، وانقطع لاحقاً.
إنّ هذا يدلّني علي أمرٍ آخر: هو انّ باث اللاتيني (والشاعر الغربي عموماً) قد وصلته الملحمة مقروءةً في ملاحم أخري. متناصة معها أو منقولة، وقد أكّدت الدراسات علي أن الملحمة قد انتقلت إلي الأدبين اليوناني والروماني وان اعمال جلجامش البطل قد نـُسبتْ إلي هرقل و اخيل و الاسكندر ذي القرنين ، و اديسيوس . بل إن أحد الكتاب الرومان من القرن الثاني الميلادي كان قد ذكر جلجامش بالاسم بصيغة كَلكَاموس (2) .
ولم اقرأ ادباً عربياً تناصّ مع الملحمة حقاً. ولم يذكرْ جلجامش أيٌّ من المؤرخين العرب. وللمرّة الثانية، يقول باث شيئاً عن يقينٍ سعيدٍ غير حائر. وللمرة الثانية أواجهه بشكّ غير سعيدٍ، حائر.
لكنّ هذه الحيرة في الأصل، لا تمنعني من مسك أصلٍ ثانٍ، يقيناً قد تواصل مع أصله، الذي قد يحضر عند هذا أو ذاك في الشعر الجاهليّ وفي أصله الأبعد الذي لا أعرفه. قد تخفّ قوّته في صدر الإسلام وفي حكم الخلفاء الأربعة. لكنه سيحضرني بقوّة في الشعراء الذين قطع ابن زياد والحجـّاج وغيرهما رؤوسهم، وفي أمثالهم من الشعراء الذين ولدوا في ما بعد. أصل يقنعني أكثر من غيره، ويبدّد كلّ حيرة.
لقد تكوّن تراثٌ شعريّ هائل في بيئةٍ ذات حدود جغرافية محددة ذهنياً وواقعياً. وبدأتْ علامات للتفرّد الجغرافي تتوطد أكثر فأكثر، مع مرور الزمن داخل هذا التراث، فاصبح من الممكن أن تقول: الشعر العراقي (3) فتشير بذلك إلي الشعراء الذين ولدوا في تلك المقاطعة الاسلامية ـ بعد الفتح الاسلامي ـ والناطقة بالعربية: العراق. شعراء كان لبيئتهم من تاريخٍ ومناخٍ ومذاهب وثورات وسجون انعكاس مادي ومعرفي عليهم وعلي شعرهم. ولم يعد مؤرقاً ضياع الأصل الأبعد. بل إنّ قراءة الشعر الجاهلي أصبحت في كثيرٍ من الأحيان قراءةً تكميلية، أكثر منها قراءة تشكّل مدخلاً روحياً لفتح الأبواب المغلقة.
وصحب هذا التكون الشعري تراث معرفي هائل، تأثر، كما الشعر، بالتحولات الدرامية المريرة في الدولة العربية. تراثٌ معرفي احتلت الكتابة عن الشعر فيه جزءاً مهماً منه إضافة إلي النحو والفلسفة المتكونين تواً، والفقه المعاكس، وغير ذلك.
هذا التراث ذو الحدود الجغرافية هو كيانٌ شعريّ أصلٌ يعوض عن السؤال: من هو الأصل الأبعد؟ بعد أن أخذ يتحكم بالعملية الشعرية كلها. بالشاعر وبالمتلقي وبالسند المعرفي الذي تستمد القصيدة منه قوتها اللغوية والتاريخية، والذي يستمد منه القارئ مداخل قراءته الأكيدة.
والكيان الشعري سيولّد بالضرورة شاعراً يختلف عن غيره في كيانٍ شعريّ آخر، وعذاباً رؤيوياً في العلاقات المنتـَجة والعديدة والمتشابكة مع بعضها داخل القصيدة، يختلف عن غيره في كيانٍ شعريّ آخر. بل سيولـّد فهماً ثقافياً وروحياً، متصلاً بالعملية الشعرية ـ عند الشاعر والقارئ معاًـ يختلف عن غيره في كيانٍ شعريّ آخر.
لقد تكوّن الكيان الشعريّ في العراق في بيئته المعروفة بمراكزها اللغوية والدينية: البصرة، الكوفة ضَعـُفَ مركزها ، النجف، الكاظمية، سامراء ضعـُف مركزها . وهي مراكز للثورة السياسية عبر التاريخ كما لا يخفي أيضاً.
وقد مارست هذه المراكز تأثيراً قوياً: لغوياً وفقهياً مهيمناً علي مجمل التكوّن المعرفي العراقي، إضافةَ إلي ما تتلقفه العاصمة النفعية والذرائعية بغداد، من هنا وهناك، فتطحنه في مطحنة ألمها اليومي وفي مراكزها العلمية والرسمية المعتمدة لدي الدولة أيضاً.
فكان الشاعر لا يتكون بسهولة، ولا يـُقبل بسهولة، ولا يـُعطي شهادة أن يكون شاعراً بسهولة، إلا بعد أن تعلن هذه المراكز، مرغمةً في أكثر الأحوال، اعترافها به. وقارئ التاريخ العراقي أدبياً سيعثر علي أمثلة واضحة وصارخة من بشـّار وعبد القدّوس وأبي نؤاس وابن الرومي والمتنبي وغيرهم من القرون الماضية حتي يصل إلي الجواهري، ثمّ السياب. وترتكز هذه المراكز علي ركائز معرفية أساسية مثل التراث الشعريّ وعلم العروض ودراسة القرآن والسنة وسيرة الأئمة والصحابة فقهياً وتاريخياً، وعلم الكلام، وعلوم العربية كالنحو والصرف، والمعاني والبيان والبديع .. الخ.
وقد لا نختلف إذا قلنا إن تراثاً شعرياً مصحوباً بكلّ هذه العلوم سيعتمل طويلاً في العقل، خلال كل تلك القرون، وسينتج أصوله الأخلاقية للشاعر والقارئ معاً.
ولقد امتدّ تأثير هذه المراكز واضحاً إلي المدارس العراقية بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة. وبخاصةٍ في الجانب الأدبي ـ اللغوي من دون بقية الركائز. لكنّ هيمنة المراكز بركائزها الباقية بقيت واضحة بسبب سلطةٍ أخري، هي غير سلطة الدولة، نستطيع أن نسميها سلطة الثورة أو سلطة الهامش، التي كلما أرادت الدولة إبعادها قسراً، وجدتها تنمو وتقوي، دون أن تصبح دولة.
فكان الشاعر العراقي المتخرّج في مدارس الدولة ابناً للمراكز رغماً عن الدولة بل ورغماً عنه. فهو يدرس في المدرسة منهاج الدولة الحياديّ، ويدرس خارج المدرسة ركائز المراكز، وبتاريخها السريّ أحياناً. والقول نفسه يمكننا أن نقوله عن القارئ أيضاً.
وبقدر ما كانت ولادة شاعرٍ عراقي أمراً صعباً، منذ أن تكونت المراكز في أقل تقدير، فإن ثقةً ما عند الجمهور والطبقة الأدبية والدينية القرّاء ، قد تكونت شيئاً فشيئا خلال كل تلك القرون في الشاعر الحاصل علي الاعتراف الصعب، الذي ربما سيناله بعد موته. بل انني لا أعرف شاعراً عراقياً واحداً في الشعر الحديث، حاصلاً علي هذا الاعتراف غير بدر شاكر السياب، حتي كتابة هذه السطور (4)
نحن إذن أمام كيانٍ، ينتسب الشاعر إليه مثلما ينتسب القارئ. بل هما توأمان فيه. وإذا كانت القصيدة نتاجاً للكيان الشعريّ، فإن قراءتها التي يقوم بها القارئ ــ ابن الكيان الأصل، هي توطيدٌ معرفيّ للركائز.
إن كتابة قصيدةٍ باللغة العربية لا تعني أنّ معانيها ستنفتح أمام أيّ قارئ عربي أو ناطقٍ بالعربية. فالمسكوت عنه فيها، وحركة اتجاهها، يحتاجان إلي قارئ متمرن علي قراءةٍ تستطيع استقبال شفراتٍ ما وتفكيكها. قارئٌ هو كما الشاعر، ابن البيئة ذاتها، والتاريخ السريّ ذاته.
فأنت عندما تردّد بيت دعبل الخزاعي الشهير:
مدارسُ آياتٍ خـَلَتْ من تلاوةٍ
ومنزلُ وحيٍ مقفرُ العرصاتِ
إنما تمهـّد لترديد أحداث تاريخ وثورات ومقاتل ومذاهب. بينما لا يتوقف العربي عند دعبل كثيراً. فهو غير محبوبٍ في التاريخ الرسمي عادةً. لكنّ الأمهات العراقيات، بعباءاتهنّ السود، يبكين كلّ عاشوراء حين يسمعن هذه القصيدة العباسية. إن شاعراً عراقياً لم يقرأ هذه القصيدة اما أن يكون ليس شاعراً، أو ليس عراقياً، ولن يكون الاثنين معاً حتي يهرع إلي قراءتها فوراً.
ويقول المتنبي في مرثيته المعروفة لأخت سيف الدولة:
أري العراقَ طويلَ الليلِ مذْ نـُعـِيَتْ
فكيف ليلُ فتي الفتيانِ في حلبِ
يري القارئ الكريم بأنني قد كتبتُ البيت كاملاً، لكنني أرجو منه أن يعرف أنني أفعل هذا للمرة الأولي في حياتي كلّها. إنني عندما أُردد:
أري العراقَ طويلَ الليل ...
يبدأ عندي قطعٌ مع اللحظة الزمنية أولاً، ومع باقي البيت ثانيا. إن قارئاً آخر، غير منتمٍ إلي الكيان الشعريّ ذاته الذي أنجب المتنبي، ربما سيستحسن البيت كثيراً في المقابلة بين ليل العراق وليل حلب وفي المبالغة في جعل العراق طويل الليل بعد موت أخت سيف الدولة.
لكن البيت الشعريّ هذا، بالنسبة إليّ، ليس كذلك. إنّ جملة أري العراقَ طويلَ الليل ، كما أري، كانت قد تكونت عند المتنبي قبل أن يعرف سيف الدولة وأخته. إنها تاريخٌ شخصيّ من المـَقاتل. والعراق طويل الليل جملةٌ يقولها الأعمي المجلود البصريّ بشار بن برد والكوفيّ دعبل الذي هجا خلفاء بغداد وابن الرومي البغدادي المسموم، وصفيّ الدين الحلّي الذي حارب ضدّ هولاكو وغيرهم. لقد وجد المتنبي في موت أخت سيف الدولة مناسبةً، أو عذراً لكي يقول جملته تلك، أو لكي يطلق آهته. هذه القراءة ما كانت لتتمّ، لولا أن هناك منبـّهاً ينبه القارئ إلي "شخصانية" الشعر. منبـّهٌ يقول للقارئ إن الشاعر هذا هو توأمك في الكيان الشعريّ.
وإذا كان هذان المثلان قد حملا دلالاتٍ عراقيةً واضحةَ في بكاء النساء العراقيات حين سماع قصيدة دعبل، وفي ذكر العراق طويل الليل في قصيدة المتنبي، فإنّ المنبـّه قد يدلـّكَ علي شعرٍ لا يحمل دلالاتٍ واضحة وصريحة ليقول لك إنه شعر شخصاني:
يقول أبو نؤاس في المديح:
إذا نحن أثنينا عليكَ بصالحٍ
فأنت كما نثني وفوق الذي نثني
وإن جرت الأقدارُ منا بمدحةٍ
لغيرك إنساناً فأنت الذي نعني
هذان البيتان الرائعان، قد يمرّ عليهما آخر معجباً كونهما بيتين في المديح حقاً. لكنني لا أرددهما إلا في حالات البكاء في آخر الليل. إنهما بيتان عدّهما أبو العتاهية أحسن ما قالته العرب في المديح. لكنهما عندي بيتان في الفقر والألم والتراجيديا. إنني لا أملك دليلاً نظرياً واحداً علي عائدية البيتين لي بسبب انتمائي إلي الكيان الشعريّ ذاته، الذي انجب أبا نؤاس. لكنّ امتلاكهما، بالنسبة إليّ، سيبقي أمراً هيـّناً علي أية حال.
مؤكدٌ أن القراءة تختلف من قارئ إلي آخر. وعندي ان الشاعر هو شعراء بعدد القراء الذين يقرأونه. لكنّ شخصانية الشعر ـ وهو ما سعت هذه الكتابة المتواضعة إلي جعله محوراً مهماً فيهاـ في اختلاف القراءات كلها، تتحقق عند القارئ الذي هو توأم الشاعر في الكيان الشعري، وقد لا تتحقق في كيانٍ شعري آخر، علي الرغم من أننا نعجب بالشعر الآخر، وقد يكون أجنبياً، وقد نعجب به حدّ الضياع فيه، لكنني كنتُ أتحدث عن الشخصانية، التي هي غير الاعجاب بالشعر والضياع فيه.
ولقد جرّبتُ أن أُسمع ذينك البيتين إلي شعراء عرب، فكان أن أُعجب بعضهم بهما، وما اكترث آخر. فأسمعتهما إلي شعراء عراقيين فكان الأمر مختلفاً، إذ كان يسبب في كلّ مرةٍ ألماً وحواراً عن التاريخ والشعر.
هذه كتابةٌ ناتجةٌ من المشغل الشعري الشخصي. والمشغل الشعري، قبل أن يكون كتابةً شعرية، هو بحثٌ وتقصٍّ في الشعر. تساؤلٌ مستمر عن مشكلاتٍ تقنية داخله، وأخري فلسفية تحيط به عن المصيرين الفردي والجماعي. والمشغل الشعري، أيضاً، هو الخبرة المتراكمة من القراءة والكتابة وما تثيرهما من أسئلة قد تـُركـَنُ مؤقتاً لبعض وقتٍ، حتي يحين وقتٌ آخر لمجابهتها.
والمعنيان في الآيتين واضحان، ويؤكدان معني المعجم. ولقد كنتُ أبحث عن أصلٍ لشعرنا، عن أساسٍ يقوم عليه. وكان عذري مع نفسي في كلّ مرةٍ لا أصل فيها إلي شيء: انّ الاسلام قد كفـّر الذاكرة المعرفية السابقة عليه، وازدراها، ووصمها بالجاهلية، فاندثرت أصولٌ كتابية كان من الممكن أن تضيء ظلماتٍ وتكشف مجاهيل ..
وكان لنا أصلٌ مقطوع، هو الشعر الجاهلي، حتي جاءنا طه حسين فكذّبه كله، وقال إنه من صنع الرواة اللاحقين، واقترح علينا أن نبدأ لغوياً من القرآن لأنه وصلنا مكتوباً.
والقرآن ليس أصلاً شعرياً لأحد. إنه كتابٌ دينيّ مقدّس.
لكن حتي لو لم نأخذ بشكّ طه حسين في الشعر الجاهلي ـ ونحن لا نأخذ به كله ـ فهل الشعر الجاهلي أصلٌ شعري نذكره بيقينٍ سعيدٍ غير حائر كما فعل أوكتابيو باث حين قال: أبدأ أولاً بهوميروس الذي هو أصل اليونان وبالتالي أصل شعرنا ؟(1)
إنّ ظهور الاسلام بثقافةٍ لاعنةٍ ما قبلها، وخالقةٍ ضدّها في آن، جعل من الشعر الجاهلي أصلاً (إذا عـُـدَّ اصلاً) لشعبٍ أو شعوبٍ عربية تبدو الآن وكأنها لم تكنْ نحن. رابطان اثنان يربطاننا بالشعر الجاهلي أكثر من غيرهما، هما اللغة والعروض. وفي اللغة يكثر الغريب فيشرحه الشرّاح ويزيدون. وإن حفظنا بيتاً غنائياً واضحاً، نظلّ نردّده بسرور، حتي نتذكّر طه حسين الذي يتخذ من ظاهرة الأبيات الواضحة، الخالية من الغريب في الشعر الجاهلي سبباً في تكذيبه، فنغتمّ. وأمـّا العروض، فهو عروضنا ذاته المستمرّ في شعرنا. والذي لم يتكوّنْ عندنا تجربة بعد تجربة، قصيدةً بعد قصيدة، قرناً بعد قرن. لقد تسلمناه أو اكتشفناه كاملاً. وهذا وحده سؤالٌ محيـّر!
كما إن اختلاط العرب المهاجرين بعد الفتوحات بالأقوام غير المسلمة، العربية منها وغير العربية، في البلدان التي فـُتِحتْ، هو شقٌّ ثانٍ من الجواب. لا شكّ أن تلك الأقوام كانت تملك حضارةً فيها أدبٌ له أخلاقه وفنه، ولا شك أنها قد أثّـرتْ ـ بكلّ هذا ـ في العرب المهاجرين. مثلما تأثّرت بهم وبرسالتهم الدينية. يعني أن شعوباً جديدة قد تكوّنت، مختلطةً من أقوامٍ عديدة، كانت لها تراثاتٌ مختلفة، ما كان الشعر الجاهليّ أصلَ كثيرٍ منها في يومٍ من الأيام ..
الأصل الشعريّ عند الشعوب ـ عادة ـ هو ملحمة أو ما يضاهيها من القصائد الكبري. فهل نملك ملحمةً شعرية ؟ ولقد كانت قصائد هوميروس ـ يقول باث ـ وأبطاله ومعاييره هي الأصول الأخلاقية لليونان والرومان. فهل نعرف شاعراً ـ أصلاً كانت قصائده ومعاييره أصولاً أخلاقيةً لنا؟
الجواب: لا أعرف . أي لا أحد .
ولكن أليس ثمة أصل؟ ربما . ولا شيء يأتي بلا أصل.
لكننا لم نعثرْ عليه فعـّالاً ايّامَ تكوّن الدولة الاسلامية واصطدام لهجة قريش بعالمٍ جديد، وتغيـّر مصيرها الفرديّ: لهجة القبيلة، إلي مصيرٍ جماعيّ: لغة الدين والدولة المترامية الأطراف، لغة الشعر والفلسفة حتي يوم وأدها علي يد السيّد الغزالي.
وإذا ما تذكّرنا أن المأمون مؤسس دار الحكمة قد نصب راجماته أمام اهرامات مصر، وأخذ يضربها بالمنجنيق من أجل تحطيم الأصنام المشركة بالله، وابن خلدون الأندلسي ـ داعية المدنية الاسلامية ـ قد أيـّد محرقةً لكتبٍ للمعارضة في الجزيرة، إذا ما تذكّرنا هذين المثلين لهذين الرجلين المتباعدين عقلاً وزماناً ومكاناً، افلا يمكننا أن نتخيـّلَ أفعال تحطيمٍ وحرقٍ ضدّ الإرث غير الإسلامي في الجزيرة وغيرها، كان وراءها فقهاءٌ وحكامٌ مرّوا علي الدولة الإسلامية في عمرها الطويل؟ ألا يمكننا أن نتخيل تمثالاً لم يكن له حظّ الاهرامات من القوّة قد رُكل بقدم مؤمنٍ فسقط من قاعدته وغاب عنا إلي الأبد، أو كتاباً حـُرق لأنه قد كـُتب قبل الإسلام؟ أفلا يمكننا أن نتخيـّل أنّ ذلك التمثال، ربـّما كان سيهدينا إلي طريق أصلٍ، وكذلك ذلك الكتاب؟
ويشير باث إلي ملحمة جلجامش فيصفها بأنها : المصدر المحتـَمـَل لكلّ ملحمة. ولم تكنْ ملحمة جلجامش أصلاً شعريّاً لعراقيي ما بعد الفتح الإسلامي. ونحن لم نقرأها في اللغة العربية إلا بعد النصف الثاني من القرن العشرين. بل ليس في تراثنا اللغوي والأدبي بأجمعه اية إشارةٍ إليها. ولا أعتقد أنّ أبا نؤاس أو المتنبي قد عرفاها أو عرفا بطلها جلجامش.
لكننا نعرف أنّ قصة الطوفان في التوراة تتشابه مع القصة ذاتها في الملحمة والتي بطلها أوتونبشتم، بل إن ما تـُرجم من الملحمة في القرن التاسع عشر، كان الأجزاءَ الخاصةَ برواية الطوفان. كما اننا نعثر ـأيضاًـ علي تناصٍّ توراتي في سفر التكوين وفي سفر التثنية وفي المزامير وفي سفر الجامعة، وربـّما في غيرها، مع أبياتٍ غير قليلةٍ في الملحمة.
نحن لا نعرف عن ملحمة جلجامش أنها كانت ذات تواصلٍ لغوي وشعري مع شعوب ما بعد الفتح الإسلامي. لكنّ ما حدث في التوراة وفي الآداب القديمة في الشرق يدلل علي تواصلٍ نتج من قراءتها أوّلاً، ثمّ أصبح حكائياً، وانقطع لاحقاً.
إنّ هذا يدلّني علي أمرٍ آخر: هو انّ باث اللاتيني (والشاعر الغربي عموماً) قد وصلته الملحمة مقروءةً في ملاحم أخري. متناصة معها أو منقولة، وقد أكّدت الدراسات علي أن الملحمة قد انتقلت إلي الأدبين اليوناني والروماني وان اعمال جلجامش البطل قد نـُسبتْ إلي هرقل و اخيل و الاسكندر ذي القرنين ، و اديسيوس . بل إن أحد الكتاب الرومان من القرن الثاني الميلادي كان قد ذكر جلجامش بالاسم بصيغة كَلكَاموس (2) .
ولم اقرأ ادباً عربياً تناصّ مع الملحمة حقاً. ولم يذكرْ جلجامش أيٌّ من المؤرخين العرب. وللمرّة الثانية، يقول باث شيئاً عن يقينٍ سعيدٍ غير حائر. وللمرة الثانية أواجهه بشكّ غير سعيدٍ، حائر.
لكنّ هذه الحيرة في الأصل، لا تمنعني من مسك أصلٍ ثانٍ، يقيناً قد تواصل مع أصله، الذي قد يحضر عند هذا أو ذاك في الشعر الجاهليّ وفي أصله الأبعد الذي لا أعرفه. قد تخفّ قوّته في صدر الإسلام وفي حكم الخلفاء الأربعة. لكنه سيحضرني بقوّة في الشعراء الذين قطع ابن زياد والحجـّاج وغيرهما رؤوسهم، وفي أمثالهم من الشعراء الذين ولدوا في ما بعد. أصل يقنعني أكثر من غيره، ويبدّد كلّ حيرة.
لقد تكوّن تراثٌ شعريّ هائل في بيئةٍ ذات حدود جغرافية محددة ذهنياً وواقعياً. وبدأتْ علامات للتفرّد الجغرافي تتوطد أكثر فأكثر، مع مرور الزمن داخل هذا التراث، فاصبح من الممكن أن تقول: الشعر العراقي (3) فتشير بذلك إلي الشعراء الذين ولدوا في تلك المقاطعة الاسلامية ـ بعد الفتح الاسلامي ـ والناطقة بالعربية: العراق. شعراء كان لبيئتهم من تاريخٍ ومناخٍ ومذاهب وثورات وسجون انعكاس مادي ومعرفي عليهم وعلي شعرهم. ولم يعد مؤرقاً ضياع الأصل الأبعد. بل إنّ قراءة الشعر الجاهلي أصبحت في كثيرٍ من الأحيان قراءةً تكميلية، أكثر منها قراءة تشكّل مدخلاً روحياً لفتح الأبواب المغلقة.
وصحب هذا التكون الشعري تراث معرفي هائل، تأثر، كما الشعر، بالتحولات الدرامية المريرة في الدولة العربية. تراثٌ معرفي احتلت الكتابة عن الشعر فيه جزءاً مهماً منه إضافة إلي النحو والفلسفة المتكونين تواً، والفقه المعاكس، وغير ذلك.
هذا التراث ذو الحدود الجغرافية هو كيانٌ شعريّ أصلٌ يعوض عن السؤال: من هو الأصل الأبعد؟ بعد أن أخذ يتحكم بالعملية الشعرية كلها. بالشاعر وبالمتلقي وبالسند المعرفي الذي تستمد القصيدة منه قوتها اللغوية والتاريخية، والذي يستمد منه القارئ مداخل قراءته الأكيدة.
والكيان الشعري سيولّد بالضرورة شاعراً يختلف عن غيره في كيانٍ شعريّ آخر، وعذاباً رؤيوياً في العلاقات المنتـَجة والعديدة والمتشابكة مع بعضها داخل القصيدة، يختلف عن غيره في كيانٍ شعريّ آخر. بل سيولـّد فهماً ثقافياً وروحياً، متصلاً بالعملية الشعرية ـ عند الشاعر والقارئ معاًـ يختلف عن غيره في كيانٍ شعريّ آخر.
لقد تكوّن الكيان الشعريّ في العراق في بيئته المعروفة بمراكزها اللغوية والدينية: البصرة، الكوفة ضَعـُفَ مركزها ، النجف، الكاظمية، سامراء ضعـُف مركزها . وهي مراكز للثورة السياسية عبر التاريخ كما لا يخفي أيضاً.
وقد مارست هذه المراكز تأثيراً قوياً: لغوياً وفقهياً مهيمناً علي مجمل التكوّن المعرفي العراقي، إضافةَ إلي ما تتلقفه العاصمة النفعية والذرائعية بغداد، من هنا وهناك، فتطحنه في مطحنة ألمها اليومي وفي مراكزها العلمية والرسمية المعتمدة لدي الدولة أيضاً.
فكان الشاعر لا يتكون بسهولة، ولا يـُقبل بسهولة، ولا يـُعطي شهادة أن يكون شاعراً بسهولة، إلا بعد أن تعلن هذه المراكز، مرغمةً في أكثر الأحوال، اعترافها به. وقارئ التاريخ العراقي أدبياً سيعثر علي أمثلة واضحة وصارخة من بشـّار وعبد القدّوس وأبي نؤاس وابن الرومي والمتنبي وغيرهم من القرون الماضية حتي يصل إلي الجواهري، ثمّ السياب. وترتكز هذه المراكز علي ركائز معرفية أساسية مثل التراث الشعريّ وعلم العروض ودراسة القرآن والسنة وسيرة الأئمة والصحابة فقهياً وتاريخياً، وعلم الكلام، وعلوم العربية كالنحو والصرف، والمعاني والبيان والبديع .. الخ.
وقد لا نختلف إذا قلنا إن تراثاً شعرياً مصحوباً بكلّ هذه العلوم سيعتمل طويلاً في العقل، خلال كل تلك القرون، وسينتج أصوله الأخلاقية للشاعر والقارئ معاً.
ولقد امتدّ تأثير هذه المراكز واضحاً إلي المدارس العراقية بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة. وبخاصةٍ في الجانب الأدبي ـ اللغوي من دون بقية الركائز. لكنّ هيمنة المراكز بركائزها الباقية بقيت واضحة بسبب سلطةٍ أخري، هي غير سلطة الدولة، نستطيع أن نسميها سلطة الثورة أو سلطة الهامش، التي كلما أرادت الدولة إبعادها قسراً، وجدتها تنمو وتقوي، دون أن تصبح دولة.
فكان الشاعر العراقي المتخرّج في مدارس الدولة ابناً للمراكز رغماً عن الدولة بل ورغماً عنه. فهو يدرس في المدرسة منهاج الدولة الحياديّ، ويدرس خارج المدرسة ركائز المراكز، وبتاريخها السريّ أحياناً. والقول نفسه يمكننا أن نقوله عن القارئ أيضاً.
وبقدر ما كانت ولادة شاعرٍ عراقي أمراً صعباً، منذ أن تكونت المراكز في أقل تقدير، فإن ثقةً ما عند الجمهور والطبقة الأدبية والدينية القرّاء ، قد تكونت شيئاً فشيئا خلال كل تلك القرون في الشاعر الحاصل علي الاعتراف الصعب، الذي ربما سيناله بعد موته. بل انني لا أعرف شاعراً عراقياً واحداً في الشعر الحديث، حاصلاً علي هذا الاعتراف غير بدر شاكر السياب، حتي كتابة هذه السطور (4)
نحن إذن أمام كيانٍ، ينتسب الشاعر إليه مثلما ينتسب القارئ. بل هما توأمان فيه. وإذا كانت القصيدة نتاجاً للكيان الشعريّ، فإن قراءتها التي يقوم بها القارئ ــ ابن الكيان الأصل، هي توطيدٌ معرفيّ للركائز.
إن كتابة قصيدةٍ باللغة العربية لا تعني أنّ معانيها ستنفتح أمام أيّ قارئ عربي أو ناطقٍ بالعربية. فالمسكوت عنه فيها، وحركة اتجاهها، يحتاجان إلي قارئ متمرن علي قراءةٍ تستطيع استقبال شفراتٍ ما وتفكيكها. قارئٌ هو كما الشاعر، ابن البيئة ذاتها، والتاريخ السريّ ذاته.
فأنت عندما تردّد بيت دعبل الخزاعي الشهير:
مدارسُ آياتٍ خـَلَتْ من تلاوةٍ
ومنزلُ وحيٍ مقفرُ العرصاتِ
إنما تمهـّد لترديد أحداث تاريخ وثورات ومقاتل ومذاهب. بينما لا يتوقف العربي عند دعبل كثيراً. فهو غير محبوبٍ في التاريخ الرسمي عادةً. لكنّ الأمهات العراقيات، بعباءاتهنّ السود، يبكين كلّ عاشوراء حين يسمعن هذه القصيدة العباسية. إن شاعراً عراقياً لم يقرأ هذه القصيدة اما أن يكون ليس شاعراً، أو ليس عراقياً، ولن يكون الاثنين معاً حتي يهرع إلي قراءتها فوراً.
ويقول المتنبي في مرثيته المعروفة لأخت سيف الدولة:
أري العراقَ طويلَ الليلِ مذْ نـُعـِيَتْ
فكيف ليلُ فتي الفتيانِ في حلبِ
يري القارئ الكريم بأنني قد كتبتُ البيت كاملاً، لكنني أرجو منه أن يعرف أنني أفعل هذا للمرة الأولي في حياتي كلّها. إنني عندما أُردد:
أري العراقَ طويلَ الليل ...
يبدأ عندي قطعٌ مع اللحظة الزمنية أولاً، ومع باقي البيت ثانيا. إن قارئاً آخر، غير منتمٍ إلي الكيان الشعريّ ذاته الذي أنجب المتنبي، ربما سيستحسن البيت كثيراً في المقابلة بين ليل العراق وليل حلب وفي المبالغة في جعل العراق طويل الليل بعد موت أخت سيف الدولة.
لكن البيت الشعريّ هذا، بالنسبة إليّ، ليس كذلك. إنّ جملة أري العراقَ طويلَ الليل ، كما أري، كانت قد تكونت عند المتنبي قبل أن يعرف سيف الدولة وأخته. إنها تاريخٌ شخصيّ من المـَقاتل. والعراق طويل الليل جملةٌ يقولها الأعمي المجلود البصريّ بشار بن برد والكوفيّ دعبل الذي هجا خلفاء بغداد وابن الرومي البغدادي المسموم، وصفيّ الدين الحلّي الذي حارب ضدّ هولاكو وغيرهم. لقد وجد المتنبي في موت أخت سيف الدولة مناسبةً، أو عذراً لكي يقول جملته تلك، أو لكي يطلق آهته. هذه القراءة ما كانت لتتمّ، لولا أن هناك منبـّهاً ينبه القارئ إلي "شخصانية" الشعر. منبـّهٌ يقول للقارئ إن الشاعر هذا هو توأمك في الكيان الشعريّ.
وإذا كان هذان المثلان قد حملا دلالاتٍ عراقيةً واضحةَ في بكاء النساء العراقيات حين سماع قصيدة دعبل، وفي ذكر العراق طويل الليل في قصيدة المتنبي، فإنّ المنبـّه قد يدلـّكَ علي شعرٍ لا يحمل دلالاتٍ واضحة وصريحة ليقول لك إنه شعر شخصاني:
يقول أبو نؤاس في المديح:
إذا نحن أثنينا عليكَ بصالحٍ
فأنت كما نثني وفوق الذي نثني
وإن جرت الأقدارُ منا بمدحةٍ
لغيرك إنساناً فأنت الذي نعني
هذان البيتان الرائعان، قد يمرّ عليهما آخر معجباً كونهما بيتين في المديح حقاً. لكنني لا أرددهما إلا في حالات البكاء في آخر الليل. إنهما بيتان عدّهما أبو العتاهية أحسن ما قالته العرب في المديح. لكنهما عندي بيتان في الفقر والألم والتراجيديا. إنني لا أملك دليلاً نظرياً واحداً علي عائدية البيتين لي بسبب انتمائي إلي الكيان الشعريّ ذاته، الذي انجب أبا نؤاس. لكنّ امتلاكهما، بالنسبة إليّ، سيبقي أمراً هيـّناً علي أية حال.
مؤكدٌ أن القراءة تختلف من قارئ إلي آخر. وعندي ان الشاعر هو شعراء بعدد القراء الذين يقرأونه. لكنّ شخصانية الشعر ـ وهو ما سعت هذه الكتابة المتواضعة إلي جعله محوراً مهماً فيهاـ في اختلاف القراءات كلها، تتحقق عند القارئ الذي هو توأم الشاعر في الكيان الشعري، وقد لا تتحقق في كيانٍ شعري آخر، علي الرغم من أننا نعجب بالشعر الآخر، وقد يكون أجنبياً، وقد نعجب به حدّ الضياع فيه، لكنني كنتُ أتحدث عن الشخصانية، التي هي غير الاعجاب بالشعر والضياع فيه.
ولقد جرّبتُ أن أُسمع ذينك البيتين إلي شعراء عرب، فكان أن أُعجب بعضهم بهما، وما اكترث آخر. فأسمعتهما إلي شعراء عراقيين فكان الأمر مختلفاً، إذ كان يسبب في كلّ مرةٍ ألماً وحواراً عن التاريخ والشعر.
هذه كتابةٌ ناتجةٌ من المشغل الشعري الشخصي. والمشغل الشعري، قبل أن يكون كتابةً شعرية، هو بحثٌ وتقصٍّ في الشعر. تساؤلٌ مستمر عن مشكلاتٍ تقنية داخله، وأخري فلسفية تحيط به عن المصيرين الفردي والجماعي. والمشغل الشعري، أيضاً، هو الخبرة المتراكمة من القراءة والكتابة وما تثيرهما من أسئلة قد تـُركـَنُ مؤقتاً لبعض وقتٍ، حتي يحين وقتٌ آخر لمجابهتها.
&
&
الهوامش:
(1) الشعر ونهايات القرن. أوكتافيو باث. دار المدي 1998، وكان العنوان الأصلي للكتاب: الصوت الآخر . يضع مترجم الكتاب ممدوح عدوان بعد قول باث المذكور، الملاحظة التالية لا حاجة بنا للتذكير أن باز يتحدث هنا بوصفه حاملا لثقافةٍ أوربية علي الرغم من كونه مكسيكياً . وأقول لا حاجة بي لتذكير الشاعر ممدوح عدوان أن باث يتكلم الاسبانية أولاً، وإذا كانت قصائد هوميروس وأبطاله ومعاييره هي الأصول الأخلاقية لليونان والرومان كما سيقول باث لاحقاً، وإذا ما تذكرنا أن الرومان هم لاتينيون فهذا يعني أن هوميروس جـَـدٌ شعري لكل ناطقٍ بلغةٍ لاتينية. لا يحتاج باث أن يذهب إلي هوميروس عبر الثقافة الأوربية، علي الرغم من تمتعه بثقافةٍ أوربية واسعة، عن طريق اللغة الأسبانية، لغته الأولي، أولاً، وعن طريق اللغة الفرنسية كان أدبها وطني الروحي الثاني، يقول باث ، واللغة الانكليزية، وربما غيرهما، ثانياً، لكي يتخذه جداً أو أصلاً شعرياً. فهو لاتيني، والقارة التي تتكلم الأسبانية والبرتغالية تسمي أمريكا اللاتينية، مع المكسيك أيضا، التي قد لا تدخل في القارة جغرافيا.
ويلاحظ القارئ أن الكتاب حمل علي غلافه اسم اوكتافيو باث، بالفاء في الاسم الأول وقرأنا الاسم الثاني للشاعر المكسيكي في ملاحظة المترجم: باز بالزاي ، وارجو أن يتقبل مني الشاعر عدوان والاخوة المترجمون غير العارفين باللغة الأسبانية، الملاحظة التالية:
اسم الشاعر هو Octavio Paz، يلفظ الحرف (V) في اللغة الأسبانية مثل الباء، الحرف الثاني في اللغة العربية فيكون الاسم الأول اوكتابيو. وبالنسبة إلي Paz ، فلا يوجد حرف زاي في اللغة الأسبانية. إذ يلفظ الحرف (Z) ثاءً في الأسبانية باستثناء مقاطعة الأندلس، التي تلفظه بما يشبه السين. كما انها تلفظ الـ (ce) ثـَ والـ (ci) ثـِ بما يشبه السين أيضاً. ويقول اللغويون الأسبان إن النطق الأندلسي هذا كان هو الشائع في أسبانيا حتي القرن السابع عشرعندما بدأ نطق الـثاء في الـ ce (ثـَ) والـ ci (ثـِ) والـ za (ثا) يتوضح أكثر في المناطق القشتالية ليختلف عن النطق الأندلسي. ولأجل هذا وجد فعلان في اللغة الأسبانية الأول هو sesear (سـَسـَيار) ومعناه نطق بالثاء كالسين، و cecear (ثـَثـَيار) ومعناه لثغ بالثاء، للاشارة إلي حالتي النطق المختلفتين. ولأن القوارب التي وصلت أمريكا كانت قد انطلقت من أشبيلية فإنّ الشعوب الامريكية التي أخذت تنطق الأسبانية كلغةٍ أولي، أخذت تنطقها نطقاً أندلسياً، أي بلا ثاء، أي ان باث نفسه ينطق الـ Z من اسمه سيناً : (باس) أو بما يشبه السين حتي لا أغضب اللغويين الأسبان. ولكنك عندما تكتب Paz : (باث) فانك لا تجانب الصواب. بل تترجم الـ Z إلي اللفظ الشائع في اسبانيا. إذن هو اوكتابيو باث.
(2) راجع ملحمة جلجامش، ترجمة طه باقر. وزارة الثقافة، بغداد.
(3) وكذلك تستطيع أن تقول: الشعر الشامي، وشعر الجزيرة والخليج، والشعر المصري، والشعر المغاربي ... الخ
(4) هذا أمر آخر، لا تتعمق هذه الكتابة فيه، الآن. لكنه سيبقي مشروعاً لكتابةٍ قد تـُنجز مستقبلا عن الحداثة الشعرية والمراكز اللغوية والدينية في العراق.
(1) الشعر ونهايات القرن. أوكتافيو باث. دار المدي 1998، وكان العنوان الأصلي للكتاب: الصوت الآخر . يضع مترجم الكتاب ممدوح عدوان بعد قول باث المذكور، الملاحظة التالية لا حاجة بنا للتذكير أن باز يتحدث هنا بوصفه حاملا لثقافةٍ أوربية علي الرغم من كونه مكسيكياً . وأقول لا حاجة بي لتذكير الشاعر ممدوح عدوان أن باث يتكلم الاسبانية أولاً، وإذا كانت قصائد هوميروس وأبطاله ومعاييره هي الأصول الأخلاقية لليونان والرومان كما سيقول باث لاحقاً، وإذا ما تذكرنا أن الرومان هم لاتينيون فهذا يعني أن هوميروس جـَـدٌ شعري لكل ناطقٍ بلغةٍ لاتينية. لا يحتاج باث أن يذهب إلي هوميروس عبر الثقافة الأوربية، علي الرغم من تمتعه بثقافةٍ أوربية واسعة، عن طريق اللغة الأسبانية، لغته الأولي، أولاً، وعن طريق اللغة الفرنسية كان أدبها وطني الروحي الثاني، يقول باث ، واللغة الانكليزية، وربما غيرهما، ثانياً، لكي يتخذه جداً أو أصلاً شعرياً. فهو لاتيني، والقارة التي تتكلم الأسبانية والبرتغالية تسمي أمريكا اللاتينية، مع المكسيك أيضا، التي قد لا تدخل في القارة جغرافيا.
ويلاحظ القارئ أن الكتاب حمل علي غلافه اسم اوكتافيو باث، بالفاء في الاسم الأول وقرأنا الاسم الثاني للشاعر المكسيكي في ملاحظة المترجم: باز بالزاي ، وارجو أن يتقبل مني الشاعر عدوان والاخوة المترجمون غير العارفين باللغة الأسبانية، الملاحظة التالية:
اسم الشاعر هو Octavio Paz، يلفظ الحرف (V) في اللغة الأسبانية مثل الباء، الحرف الثاني في اللغة العربية فيكون الاسم الأول اوكتابيو. وبالنسبة إلي Paz ، فلا يوجد حرف زاي في اللغة الأسبانية. إذ يلفظ الحرف (Z) ثاءً في الأسبانية باستثناء مقاطعة الأندلس، التي تلفظه بما يشبه السين. كما انها تلفظ الـ (ce) ثـَ والـ (ci) ثـِ بما يشبه السين أيضاً. ويقول اللغويون الأسبان إن النطق الأندلسي هذا كان هو الشائع في أسبانيا حتي القرن السابع عشرعندما بدأ نطق الـثاء في الـ ce (ثـَ) والـ ci (ثـِ) والـ za (ثا) يتوضح أكثر في المناطق القشتالية ليختلف عن النطق الأندلسي. ولأجل هذا وجد فعلان في اللغة الأسبانية الأول هو sesear (سـَسـَيار) ومعناه نطق بالثاء كالسين، و cecear (ثـَثـَيار) ومعناه لثغ بالثاء، للاشارة إلي حالتي النطق المختلفتين. ولأن القوارب التي وصلت أمريكا كانت قد انطلقت من أشبيلية فإنّ الشعوب الامريكية التي أخذت تنطق الأسبانية كلغةٍ أولي، أخذت تنطقها نطقاً أندلسياً، أي بلا ثاء، أي ان باث نفسه ينطق الـ Z من اسمه سيناً : (باس) أو بما يشبه السين حتي لا أغضب اللغويين الأسبان. ولكنك عندما تكتب Paz : (باث) فانك لا تجانب الصواب. بل تترجم الـ Z إلي اللفظ الشائع في اسبانيا. إذن هو اوكتابيو باث.
(2) راجع ملحمة جلجامش، ترجمة طه باقر. وزارة الثقافة، بغداد.
(3) وكذلك تستطيع أن تقول: الشعر الشامي، وشعر الجزيرة والخليج، والشعر المصري، والشعر المغاربي ... الخ
(4) هذا أمر آخر، لا تتعمق هذه الكتابة فيه، الآن. لكنه سيبقي مشروعاً لكتابةٍ قد تـُنجز مستقبلا عن الحداثة الشعرية والمراكز اللغوية والدينية في العراق.
التعليقات