قاسم خضير عباس
&
التفريق بين اكتشاف الحقيقة العلمية ـ المبنيّة على التجربة والملاحظة ـ وبين العمل في ضوئها على إسعاد المجتمع، تعد من الأمور الهامة.
&وقد أوضح المفكر الإسلامي محمد باقر الصدر ذلك في كتابه القيم ( اقتصادنا ) بقوله: (العلم إنما يكشف الحقيقة بدرجة ما وليس هو الذي يطورها).
فدور العلم هو كشف الحقائق وتفسير الظواهر، ثم يأتي دور العمل في ضوء ذلك على وضع الحلول الصحيحة، وعلاج الخلل، والسيطرة على الأخطاء.
ومن المفيد ذكره أن الحقائق العلمية تكون مستندة إلى علوم الرياضيات الثابتة، لا إلى تفكير عقلي ظني غير معصوم عن الخطأ، فحتى في مجال (علم المحسوس) الذي نظر له (كلود ليفي ستراوس) فإن العقل يمكن أن يخطئ في تنظيم الأشياء والمواضيع وإدارتها وتميزها، إذا استند إلى قضايا غير موضوعية، واستنتاجات جاهزة تخضع لأهواء بشرية، لهذا اعترف (ستراوس) نفسه بأن (الثقافة والفكر الغربيين) يتسمان بالتسلط والفوقية، لأنهما استندا إلى تنظير خاطئ، يصور (الغرب) حقيقة علمية مطلقة.
وقد ذهب إلى ذلك أيضاً (لاتوش)، عندما تحدّث عن (العولمة) واصفاً إياها بأنها: نتاج (الثقافة الأوروبية) المتسلطة، لاقتناص ثقافات (العالم الثالث)، وقتل خصوصيتها الفكرية عبر اختراق وزعزعة الثوابت، والمعتقدات، واتهام (العقل الآخر) بالعجز وعدم مواكبة تطور العصر!!
وهكذا فإن اقتناص ثقافات الآخرين بدأ بـ(تنظير ظني) استند إلى نظريات غير علمية، كنظرية (دارون: النشوء والارتقاء)، التي اقتبسها (سبنسر)، ليستنتج منها قوانينه حول تطور الأخلاق، وتطور قيم المجتمع وسلوكياته وتبدلها حسب الظروف.
وهنا لابد أن نذكر... أننا عندما نطرح هذه القضايا نؤكد بأننا لا بد أن نعمل في ضوء العلم والمدنية... وفي الضوء التطورات الإجتماعية، واحترام العقل، لأن الإسلام منذ بزوغه قام على أساس احترام العقل، واكتساب العلم والمعرفة، وقد أوضح أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب قبل (ديكارت) بزمن طويل قائلاً: (في التجارب علم مستأنف).
وفي هذا الموضوع أكّد الشيخ القرضاوي في كتابه ( بينات الحل الإسلامي ) على بعض الحقائق، مشيراً إلى أن الإسلام قد صنع (المناخ النفسي والاجتماعي لازدهار العلم، وقيام حياة علمية مضيئة الجنبات).
وأضاف: (أشار القرآن إلى استخدام (التخطيط) في السياسة الاقتصادية والتموينية للدولة).
وقد (استخدم النبي (ص) أسلوب الإحصاء منذ عهد مبكر من حياة المسلمين في المدينة... وبهذا نعلم أن الإحصاء أسلوب إسلامي أصيل وليس سلعة مستوردة من الغرب).
إن الفلسفة ـ بمعنى النظر في العلل والكليات وما وراء الظواهر والجزئيات ـ هي التي تقوم بتفسير الملاحظة والتجربة وغيرها من مقومات العلم... بل إن العلم نفسه ليس إلا حقيقة من الحقائق التي تعالجها الفلسفة في نظرية المعرفة... أي اننا نحتاج إلى (علم العلم) إلى تحليل العقل وقوانينه، وهذه كلها موضوعات تدخل في مجال ما بعد الطبيعة.
وهكذا فإن تحليل العقل وقوانينه، والبحث عن الحقيقة في مجال الروح، دعت رئيس أكاديمية العلوم الأميركية (كريس مورسيون) إلى وضع كتاب أسماه (العلم يدعو للإيمان)، جمع فيه آراء ثلاثين عالماً أميركياً ليس بينهم رجل دين واحد، حيث أكد الجميع على أن الحقائق العلمية، والقوانين الكونية الثابتة، تبرهن بما لا يقبل الشك على وجود الله (عز وجل). وفي السياق نفسه وضع العالم النفسي المشهور (هنري لنك) كتاباً أسماه (العودة إلى الإيمان).
فالإيمان لا يتناقض أبداً مع العلم، والإسلام جاء ليثبت هذه الحقيقة الناصعة، التي أشار إليها السيد محمد الحسيني الشيرازي عندما قال في كتابه القيم ( القانون ) بأن : ( كل قوانين الإسلام حيوية ).
وأشار إليها أيضاً محمد حسين الطباطبائي في كتابه (مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي) قائلاً بأن: (الدين ينبثق من الوحي والعلم، وبذلك فهو يتسم بالعلمية على طول الخط، في حين يقوم وجه العالم المتقدم على قاعدة معاكسة تماماً، إذ هو مملوء تقليداً).
ولذا وضع الإسلام القواعد الأساسية للعلم، وأوضح بالتفصيل كيفية اكتساب المعرفة، وقد قال (لوبون): إن أول المسلمين هم من مارسوا الطريقة التجريبية حسب قاعدة (جرّب وشاهد ولاحظ تكن عارفاً).
الإسلام لا يفصل أبداً بين العلم والإيمان، أما (الغرب) فقد جرّد بتعمّد العلم عن الروح والأخلاق، فوقع بإشكاليات عانى (المجتمع الغربي) منها طويلاً.
&














التعليقات