سليمان يوسف يوسف
&
&
&
&
بدلاً من أن يدشن (الحكم الوطني) في العراق (عهد الاستقلال) بتجسيد قيم الوطنية وتعزيز مبادئ العيش المشترك، بين قوميات وأديان ومذاهب، ومختلف ألوان الطيف الاجتماعي والسياسي التي يتكون منها المجتمع العراقي، والإقرار بالتعددية القومية والسياسية، واعتماد الديمقراطية في الحكم والإدارة، واحترام حرية الرأي والتعبير وتوفير الأمن والاستقرار لجميع العراقيين. قامت حكومة الاستقلال التي كان يتزعمها(رشيد عالي الكيلاني) بنشر ثقافة العنف والإرهاب والقمع وكم الأفواه وزرع الأحقاد في المجتمع العراقي ونصبت نفسها عدواً للشعب لا مدافعاً ترد الخطر عنه. وبدلاً من أن تقيم الاحتفالات والأعراس الوطنية احتفاءً بعهد الاستقلال، أقامت شعائر الموت والقتل الجماعي ونفي وطرد آلاف العراقيين من مناطق سكناهم.و تعد مذبحة (سيميل) الآشورية التي، قام بها (الجيش العراقي) في الثامن من شهر آب من عام 1933م و قتل فيها أكثر من أربعة آلاف من الآشوريين العزل، أولى إنجازات (الحكم الوطني) في العراق من (المقابر الجماعية) التي يتم الكشف عنها في هذه الأيام من قبل قوات التحالف(الأمريكية/البريطانية) المتواجدة في العراق.
&لا شك أن جذور مشكلة الآشوريين تمتد إلى انهيار (الدولة الآشورية) في (بلاد ما بين النهرين) على يد الفرس الميديين 612ق.م. و في تاريخ العراق المعاصر بدأت (القضية الآشورية) مع نشوء (المملكة العراقية) عام 1921م من قبل الإنكليز. وقد اقترنت (المسألة الآشورية ) في أذهان العراقيين وغير العراقيين، بكثير من الأفكار الخاطئة و الدعاية المضللة لحكومة (رشيد عالي الكيلاني)لأغراض سياسية دعائية بهدف صرف الرأي العام في العراق عن المشاكل الداخلية التي كانت تواجهها، فقد حاولت تصوير( الآشوريين ) في العراق على إنهم ( مجموعة انفصالية) تعمل لصالح الإنكليز. وكأن شعوب المنطقة تجهل دور وفضل الجيوش ( البريطانية والفرنسية) في تحرير معظم الشعوب العربية من (الاحتلال العثماني) وإنشاء الكيانات العربية الحالية.
&وبعد أن وضعت الحرب أوزارها كلفت بريطانيا بملف (القضية الآشورية) في العراق باعتبارها الدولة المنتدبة عليه، لكنها وقفت منذ البداية ضد حل (المشكلة الآشورية) عندما كانت تناقش في عصبة الأمم عام 1932م، وفي جميع المؤتمرات والمحافل الدولية. إذ قضت السياسة الإنكليزية ألا يكون للآشوريين بقاء أو (كياناً ذاتياً) في رقعة ولو صغيرة في البلاد التي هي لهم. فقد ألحقت اتفاقية(سايكس بيكو) التي وقعت سراً بين بريطانيا و فرنسا عام 1916م، الظلم بالآشوريين وقضت على كل أمالهم القومية في مناطقهم.
&وقد عبر الكولونيل البريطاني( ويلسون) عن عداء بريطانيا للآشوريين بالقول: (( ما هو جدير بالرثاء حقاً، هو أن تسمح أعظم إمبراطورية بالاضطهاد المدروس والقتل الجماعي والتحويل بالقوة حيال أنبل وأعظم أمة في الشرق الأوسط، (الأمة الآشورية) التي أعطت العالم أعظم حضارة إنسانية)).وقد قال الدكتور( و. ا. ويغرام) عن قضية الآشوريين)):بعد أن خسرت تركيا الحرب العالمية الأولى، كان لا بد من أن تقبل تركيا بشروط بريطانيا لوقف الحرب فيما يخص (المطالب الآشورية) في (مناطقهم التاريخية). لكن بكل أسف عقدت بريطانيا الصلح مع تركيا وتركت الآشوريين هذا الحليف الصغير منسياً، وتجاهلت حقوقه وقضيته التي كانت مطروحة على عصبة الأمم)).
&حقيقة ما يدعو للدهشة والاستغراب، هو أن تقوم بريطانيا بإنشاء(دولة العراق) وتقيم حكماً عربياً عليه، بينما يقوم (الجيش العراقي) بقتل وذبح آلاف الآشوريين بتهمة ارتباطهم مع البريطانيين. إذا كان الآشوريين تحالفوا مع البريطانيين في الحرب (العالمية الأولى) لتحرير أراضيهم من (الاحتلال العثماني) وإقامة دولتهم أسوة بجميع شعوب المنطقة، نرى اليوم وبعد أكثر من ثمانية عقود كيف استنجد العراقيين بالقوات (البريطانية والأمريكية)، ليس من اجل تحرير بلدهم من (استعمار) أو احتلال أجنبي وإنما للتخلص من (الحكم الوطني) ممثلاً بنظام صدام حسين وحزب البعث.
لقد انطلقت(الحركة الآشورية) بعد أن تأسست (الدولة العراقية)، كحركة قومية/ وطنية تخوض نضالاً مشروعاً من أجل إحقاق الحقوق القومية والدينية للآشوريين في إطار (الدولة العراقية) لكن حكومة( الكيلاني) أرادت التشويش على (الموقف الآشوري) من (المسألة العراقية) وتوظيف علاقتهم مع بريطانيا لأغراض سياسية داخلية بحتة. ولأجل هذا الغرض قامت بتصعيد الموقف مع الآشوريين من خلال رفضها الاعتراف بـ( الآشوريين) شعباً أصيلاً مقيماً في العراق، وأن يمثل الآشوريين نائب في البرلمان العراقي). وعوضاً عن ذلك، طلبت من الآشوريين إلقاء سلاحهم قبل حل مشكلتهم،، في حين كانت معظم القبائل العربية والكردية والتركمانية تحتفظ بسلاحها في أجواء مشحونة بالتوتر والقلائل، واحتمالات الصراعات العرقية والطائفية في العراق والمنطقة كانت قائمة. وعندما رفض الآشوريون هذا المطالب المذلة والمهينة بحقهم وهذا ما كانت تريده حكومة الكيلاني- تم توقيف (بطريرك) الآشوريين وزجه بالسجن مع بعض ذويه. لاشك إن حكومة الكيلاني قدرت ردة فعل الآشوريين على اعتقال زعيمهم الروحي والزمني، فقد كان هذا الأجراء التعسفي و اللاقانوني هو الفتيل الذي فجر الأحداث والاصطدام المسلح مع الآشوريين، وما تلاها من أعمال انتقامية دامية، وذبح جماعي للآشوريين العزل وقتل الأسرى في سيميل وقرى عديدة في سهل نينوى. وقد دفعت هذه الأحداث المروعة بأحد الضباط البريطانيين ليصرح مندهشاً:(( لقد رأيت و سمعت الكثير عن الأعمال المريعة البشعة خلال الحرب، إلا أن ما شاهدته في (سيميل) فأنه يفوق تصور البشر)). أما المندوب السامي البريطاني قال عنها: ((أن سياسة بريطانيا نحو الآشوريين لم تكن إلا وصمة عار على درع إنكلترا القومي، ويبدو أننا ضحينا بشرفنا الخاص حيال موقفنا من الآشوريين)).
وقد ضخمت حملات التضليل والتزييف،التي قامت بها حكومة الكيلاني، حقيقة الصدام المسلح مع الآشوريين، فجعلت منه نصراً تاريخياً ضد بريطانيا و أدعت بأنها أفشلت مخططاتها الهادفة إلى ضرب العراق و تفتيت وحدته، في حين الحقيقة هي أن أخطر ما كان يهدد (الوحدة العراقية) هي السياسة العنصرية اتجاه الأقليات القومية والدينية في العراق والنهج الطائفي لحكومة الكيلاني، وليست بريطانيا.
أن قيام الجيش العراقي بسحق (انتفاضة الآشوريين) ذات المطالب المشروعة، لم يكن حدثاً (عسكرياً) عابراً في تاريخ (العراق) الحديث، إنما كان عملاً مدروساً و مخططاً له، ما زالت تداعياته وآثاره السياسية وتفاعلاته الفكرية والاجتماعية قائمة/ ماثلة في (المجتمع العراقي) عامة والآشوري خاصة، إذ لا يمكن فصل عوامل وأسباب (الزلزال السياسي) الكبير الذي ضرب العراق في التاسع من شهر (نيسان) الماضي، عندما احتلت قوات التحالف العراق و دخلت بغداد وأسقطت (نظام صدام) حسين وأنهت ثلاثة عقود من حكم (حزب البعث) للعراق، عن أحداث اصطدام (الجيش العراقي) مع (المقاتلين الآشوريين)، وفتح المقابر الجماعية للآشوريين العزل، تلك الأحداث التي هزت أركان (الدولة العراقية) المستحدثة، وأحدثت شرخاً عميقاً وتصدعاً كبيراً في بنية المجتمع العراقي، وتسببت بمزيد من الصدوع والأنهدامات السياسية ولانفجارات العسكرية، وشكلت أحداث (مذبحة سيميل) مرحلة انعطاف خطيرة في تاريخ العراق الحديث، حيث كانت نقطة البداية للانحراف في مسيرة الحياة السياسية داخل العراق وهيمنة دكتاتورية العسكر على السلطة والحكم، وانتهاك حقوق الإنسان وتجاوز الدستور وزرع بذور التعصب والفتنة والفساد في المجتمع العراقي.
&وقد بقي العقل السياسي العربي والفكر القومي عامة في العراق متأثراً، وإلى حد كبير، بتلك العقلية الاستبدادية وبالنزعة الفاشية للقومية، وهو ما يفسر التكتم الكامل من قبل جميع الحكومات المتعاقبة في العراق على (مذابح الآشوريين) ومقابرهم الجماعية، واستمرار هذه الحكومات في تنفيذ المزيد من (المقابر الجماعية) بحق معظم فئات وقوميات الشعب العراقي كلما احتجت على مواقف وممارسات جائرة بحقها،أو طالبت ببعض حقوقها المشروعة، خاصة في عهد حكم (حزب البعث) ونظام صدام حسين البائد والمقبور.وكشف الاصطدام مع الآشوريين عن مخاطر الفكر القومي الغوغائي الذي استمر في خداع الجماهير وتضليل المواطنين بالشعارات الوطنية والقومية الزائفة، هذا الفكر الذي عانى منه شعب العراق، وبشكل خاص القوميات الغير عربية وبشكل أخص (الآشوريين) كأقلية قومية ودينية في المجتمع العراقي.
&يقول الأستاذ (عبد المجيد القيسي) في كتابه (تاريخ القضية الآشورية في العراق ):
((وما الرقص في برك الدم وسحل الجثث يوم 14/تموز /1958 و8 شباط/1963 وأحداث عام 1959 في الموصل وكركوك وما فرحة الانتصار الوطني والفخار القومي على الجثث المتساقطة في (حلبجة) بفعل الكيماوي . ما هذا كله إلا أثراً من أثار (التنظير العقائدي ) الذي وضع (رشيد عالي الكيلاني) بذرته الأولى عام 1933 من خلال افتعال الاصطدام مع الآشوريين وسحق انتفاضتهم )).
&فبعد ذبح الآشوريين والقضاء على حركتهم القومية ماذا حل بالعراق؟ هل صانوا حكامه وحدته الوطنية،التي لم تكن أكثر من حق أيرد بها باطل، فلم تمضي سنوات على مذبحة (سيمل )الآشورية، و بداية عهد الاستقلال، حتى تحولت الكثير من النخب السياسية والثقافية إلى مهاجرين وطالبي لجوء سياسي في (بريطانيا) ذاتها هرباً من بطش واستبداد الحكم الوطني في العراق.
&وبات خطر (تقسيم العراق) اليوم أكثر قائماً، ليس بسبب احتلال (قوات التحالف) للعراق، كما يحاول تصوير ذلك (القوميون العرب والتيارات الأصولية الإسلامية)، وإنما بسبب فشل (الحكم الوطني)، وخاصة (حزب البعث)، في تجسيد قيم ومبادئ (العيش المشترك) بين مختلف شرائح وقوميات المجتمع العراقي، وفشل هذا الحكم في إبراز وتجسيد(الهوية العراقية) بكل تكويناتها الاجتماعية وأطيافها الثقافية كهوية وطنية لكل العراقيين، وتم اختزال الوطن في عائلة وشخصية الحاكم، وبات أمن الوطن من أمن النظام ومساوياً له، لهذا سقط (الوطن) تحت أقدام جنود الأمريكيين والبريطانيين بمجرد أن سقط (صدام حسين) وانهيار نظامه. فهناك اليوم خشية حقيقة لدى العراقيين من حدوث اقتتال داخلي وصراعات عرقية، مذهبية قومية، بين جميع الأطراف والقوى المتنافسة على الساحة العراقية، إذا ما انسحبت قوات التحالف من العراق قبل استتباب الأمن فيه و تثبيت حكم السلطة الوطنية وإعادة مؤسسات الدولة العراقية.
&الكاتب من سوريا.... مهتم بمسألة الأقليات.















التعليقات